يتناول كتاب “العثمانيون في سوريا: تاريخ من العدالة والاضطهاد”، للمؤرخ الهولندي دييك داووز، الحكم العثماني في محافظة دمشق من أواخر القرن الـ18 حتى نهاية فترة الحكم المصري بين عامي 1840 و1841. يركّز داووز اهتمامه على الأيديولوجيا التي أُسس عليها الحكم العثماني، وكيف عملت الإدارة العثمانية المحلية على أرض الواقع.
يستند جوهر الكتاب إلى السجلات المحلية، والسجلات من محكمة قانون حماة.
في المقدمة، يتحدث داووز عن مبدأين لهما أهمية كبيرة في الفكر السياسي العثماني، هما دائرة العدل والحدود، إذ ترى دائرة العدل أن ازدهار الرعايا وأمنهم مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ببعضهما، وأن الدولة يجب أن تراعي كلا المطلبين.
فإذا كان الرعايا قادرين على دفع ضرائبهم، يكون السلطان قادرًا على الحفاظ على الجهاز العسكري والبيروقراطي الذي يعمل على حماية الأشخاص الذين يدفعون الضرائب، وعقيدة “الحدود” تحافظ على هذه الآلية.
للحفاظ على النظام والعدالة، كان من الضروري الفصل بين دافعي الضرائب وفئة خدم السلطان (العسكر)، فالعدالة “تعني حماية الرعايا من إساءة استعمال السلطة التي فوضها السلطان إلى العسكر”.
تقدم فصول الكتاب ملخصًا لما نعرفه عن ولاية دمشق العثمانية حوالي عام 1800، ويصف داووز، في الفصل الأول، المنطقة شرق الطريق بين ولايتي حلب ودمشق بالمساحات المزروعة والصحراء.
على الرغم من العلاقات العدائية، وجد الفلاحون والبدو طريقة للتعايش، إذ يمكن للفلاح أن يصبح بسهولة راعيًا والعكس بالعكس، وإن وجود الفلاحين المتجولين والزراعة المهاجرة كان دليلًا على الحدود غير الواضحة بين الحياة الرعوية والحياة المستقرة في ذاك الوقت.
لمواجهة الوضع في المنطقة، اتبع العثمانيون استراتيجية تكميلية، “من ناحية، شجعوا القبائل على تبني موقف موالٍ للدولة، من خلال منحهم حصة في الإدارة والتجارة، ومن ناحية أخرى استمروا في استخدام الأساليب القمعية”.
الفصل الثاني مكرس لصعود سلالة العظم، التي كانت من العائلات الأكثر نفوذًا في سوريا بالقرن الـ18.
لكن أُبعدت عائلة العظم عن السلطة تدريجيًا من قبل عائلات وشخصيات أخرى، كان أهمها والي عكا بين عامي 1775 و1804، أحمد باشا الجزار، الذي حوّل مركز السلطة في سوريا من دمشق إلى المقاطعات الساحلية.
يعتمد الفصل الثالث جزئيًا على محاضر محكمة حماة، إذ بلغت المشاركة المحلية في الإدارة ذروتها بالقرن الـ18، عندما تمكن السكان المحليون من الوصول إلى مناصب حكام المقاطعات والولايات.
يناقش داووز بالتفصيل مصطلح “العيان”، وهي فئة تتكون من المجموعة العسكرية والإدارية المهيمنة سياسيًا (الأغاوات)، ونخبة العلماء الدينية، ومجموعة ثالثة أقل نفوذًا من الناحية السياسية من رجال الأعمال والتجار.
في حماة، على سبيل المثال، كانت عائلة العظم تمثّل الطبقة الإدارية العسكرية، وعائلة الكيلاني تمثّل طبقة القضاء الديني.
يستفيد الفصلان الرابع والخامس بشكل كبير من السجلات المحلية، ويتعمق الكاتب في تاريخ النخبة السياسية والإدارية والصراعات المحلية بينهما.
الجوهر الحقيقي للكتاب هو الفصلان السادس (النظام المالي) والسابع (منطق الظلم، السياسات النقدية والمالية)، إذ استندت توضيحات داووز حول النظام المالي العثماني في منطقة حماة إلى جداول وأنظمة الضرائب بين عامي 1818 و1892.
كانت حماة تدر ضرائب أكثر من أي منطقة أخرى في ولاية دمشق، وبالتالي كانت منطقة ذات أهمية خاصة.
يشرح داووز مشكلة الضرائب المعقدة، إذ كانت السلطات العثمانية غير راغبة في إلغاء الضرائب القديمة، وتميل إلى فرض ضريبة جديدة على كل نوع جديد من الإنفاق، وكانت حريصة دائمًا على الاستفادة من مصادر جديدة للإيرادات، والنتيجة وجود “أكثر من 50 ضريبة ورسمًا ومستحقات أخرى مختلفة، مسجلة في سجلات محكمة حماة بأواخر القرن الـ18 وأوائل القرن الـ19”.
ويقدّر داووز أنه من خلال الإسهام بنحو 90% من إجمالي الإيرادات في منطقة حماة، فإن سكان الريف “يتحملون عبئًا ضريبيًا أعلى من سكان المدينة”، بدءًا من الضريبة البديلة للخدمة العسكرية (بدل مصارف العسكر) في عهد السلطان محمود الثاني، وازدياد العبء الضريبي على الريف لتمويل خطط السلطنة للإصلاح العسكري والإداري.
لا يمكن للضرائب الثابتة رسميًا تغطية النفقات الإدارية، وبالتالي اضطرت الإدارة الإقليمية للجوء إلى مصادر الضرائب “غير القانونية”.
برأت السلطات المركزية العثمانية نفسها، من خلال التظاهر بالجهل بالظروف الحقيقية، وتجاهلت أهمية زيادة الضرائب والإنفاق المحلي، لكنها في الوقت نفسه فقدت السيطرة على المالية الإقليمية في دمشق.
نظرًا إلى أن اللوائح الضريبية في المقاطعات لم تتوافق مع اللوائح الضريبية الرسمية، كان بإمكان الدولة أن تهدد باتخاذ إجراءات ضد مسؤولي المقاطعات، لذلك يفترض داووز أن “حجب الموارد المالية العادية كان بمنزلة أداة قيمة لتقييد سلطة المسؤولين الإقليميين”، ما ناقض سياسة الإدارة العثمانية (دائرة العدل والحدود)، وسمح للمسؤولين في ولاية دمشق باستغلال “الرعية”.
يوضح الفصل الثامن، في العقد المصري من 1831 إلى 1841، أوجه التشابه والاختلاف بين النظام العثماني والمصري في الحكم.
وفقًا لداووز، لم تكن أدوات السياسة المصرية في سوريا جديدة ومختلفة بشكل جذري عن العثمانية، بل تم تطبيقها “على نطاق غير مسبوق وبطريقة منهجية، مثل خدمات السخرة والاحتكارات التجارية”.
كثيرًا ما يستخدم داووز كلمة “احتواء”، ليس فقط من أجل وصف السياسة العثمانية تجاه قبائل البادية السورية، ولكن أيضًا لوصف سلوك السلطة المركزية العثمانية ضد أجهزتها الإدارية في ولاية دمشق.
على سبيل المثال، كانت السياسة العثمانية في سوريا أواخر القرن الـ18 مدفوعة إلى حد كبير بالرغبة في احتواء أحمد باشا الجزار، حاكم عكا.
يشرح داووز سياسة الاحتواء العثمانية، بأنها تهدف إلى السيطرة على منطقة بأقل درجة من التكلفة والجهد، ويقول، “يبدو أن مبدأ العدالة، الذي تم التشديد عليه كثيرًا في الفلسفة السياسية العثمانية، لم تكن له الأولوية الأولى على أرض الواقع”.
الجزء التمهيدي للكتاب طويل جدًا، وتقدم الفصول الثلاثة الأولى معلومات يمكن استخلاصها من كتب أخرى، والفصلان الرابع والخامس يمثّلان تكرارًا لحقائق من مصادر أخرى، لكن كتاب داووز مكتوب بشكل جيد، ويسهم فصلاه السادس والسابع في فهم آليات السياسة المالية العثمانية، والتناقض بين الفكر والممارسة السياسية العثمانية.