“نحن نحب الحياة ونحب أن نعيش، ما بنحب نموت ببحر الألم والجوع”، بهذه الكلمات نقل الأب اليسوعي فرانس فاندرلخت قبل مقتله بنحو ثلاثة أشهر، واقع الحصار الذي عاشه مع الأهالي وفرضه النظام السوري على أحياء مدينة حمص.
مرت تسع سنوات على مقتل الأب اليسوعي الهولندي فرانس فاندرلخت، الذي فضّل مشاركة الشعب السوري آلامه ومعاناته والبقاء في ظروف حصار خانق.
وفي كل عام من ذكرى مقتله في دير “الآباء اليسوعيين” بحمص، تعود عديد من الروايات لتتحدث عن اتهامات حول من يقف وراء مقتله، دون أي تأكيدات تثبت صحتها، إذ كان يقطن في حي تسيطر عليه المعارضة وتحاصره قوات النظام.
حظي الأب فرانس، الذي اختار سوريا وطنًا ثانيًا له قبل 50 سنة من مقتله، بشعبية واسعة بين المسلمين والمسيحيين، وعُرف بتقديمه المساعدة لأي شخص كان دون النظر إلى دينه أو جنسيته.
صوت الناس من قلب الحصار
“الموت جوعًا أكثر إيلامًا من الكيماوي”، “8 حالات وفاة بسبب الجوع والقائمة مفتوحة”، “100 حالة بحاجة لعمليات جراحية مستعجلة”، “250 عائلة على حافة الموت”، أربعة شعارات على لافتات ورقية أحاطت بالأب حين ظهر عبر تسجيل مصوّر مطالبًا برفع الحصار، في كانون الثاني 2014.
وقال الأب فرانس، إن المحاصَرين يحبون الحياة ولا يريدون الموت من الجوع، وطالب برفع الحصار عن أحياء حمص القديمة، وحذر من وقوع كارثة إنسانية بسبب نقص المواد الغذائية التي من شأنها أن تجعل الجوع يفتك بالمحاصرين، كما أشار حينها إلى أن المواد الطبية والعلاجية مفقودة أيضًا في تلك الأحياء.
كان فاندرلخت المسيحي الأجنبي الوحيد الذي فضّل البقاء في حي بستان الديوان بحمص مع أهالي الحي المحاصَرين من قبل قوات النظام، ورفض المغادرة مرارًا، رغم عمليات الإجلاء التي نفذتها الأمم المتحدة، والتي ساعدت المئات على الخروج من مناطق حمص المحاصرة.
وبات الأب فرانس متحدثًا باسم المحاصرين وناقلًا لصوتهم، وعلّق على سبب بقائه في الدير بقوله، “لقد حصلت على الكثير من الشعب السوري، من خيره وازدهاره، وإذا كان يتألم حاليًا، فأحب أن أشاركه ألمه ومشكلاته”، مضيفًا، “أحب أن أكون مع الشعب السوري، أن أقدم إليه بعضًا من التعزية والتواصل والتعاطف، ليقدر على تحمل هذا الألم الفظيع”.
“أشعر دائمًا أن المجتمع الدولي في وادٍ ونحن في وادٍ. هم يتحدثون ويجتمعون في مطاعم وفنادق، لكن ما نعيشه هنا بعيد جدًا عما يعيشونه، يتكلمون عنا لكنهم لا يعيشون معنا”، هكذا انتقد الأب فرانس المجتمع الدولي بسبب إهماله القضية السورية.
إدانات
عبر استهدافه بطلق ناري في رأسه، أنهى شخص ملثم، في 7 من نيسان 2014، حياة الأب فرانس، لتخسر سوريا مناضلًا سلميًا عُرف بإصراره على البقاء مع من يحاصرهم النظام.
وأدانت عدة جهات محلية ودولية دينية وسياسية حادثة مقتل الأب فرانس، منها السفارة الأمريكية في دمشق التي أدانت “هذا الهجوم الشنيع وجميع الهجمات التي تستهدف المدنيين الأبرياء والأقليات”.
وأشادت بالدور الذي قام به الأب فرانس من دعم للشعب السوري، ومؤازرته أهل حمص خلال تعرضهم للتجويع من قبل النظام، وعمله على تخفيف المعاناة “الهائلة” لأهل المدينة.
وزير الخارجية الهولندي السابق، فرانس تيمرمانس، قال إن فاندرلخت كان “سوريًا من بين السوريين”، رفض التخلي عن الأشخاص حتى عندما كان ذلك يعني المخاطرة بحياته.
تراشق اتهامات
محافظ حمص حينها، طلال البرازي، قال إن يد “المجموعات الإرهابية” اغتالت الأب فرانس كما اغتالت عددًا كبيرًا من المواطنين، و”ما أعمالها إلى دليل يأس”، داعيًا السوريين ليكونوا أكثر تفاؤلًا.
من جهته، “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” أدان جريمة اغتيال الأب فرانس، وأكد ضرورة محاسبة من يقف وراءها، مذكّرًا بأن النظام “لطالما قام بتصفية كل من تعاطف مع الشعب السوري، أو عبّر عن مواقف ضد القمع والإجرام الممارَس ضد المواطنين”.
واعتبر “الائتلاف” أن الأب فرانس كشف في تسجيله المصوّر من داخل أحياء حمص المحاصرة، كذب ما يدعيه النظام السوري عن حمايته للأقليات ومحاولاته لتشويه الثورة وتصويرها على أنها تسعى لإقصاء الجميع.
وقوبلت رواية النظام حين اتهم المسلحين المعارضين المحاصَرين بقتل الأب فرانس برد ناشطين ومقاتلين كانوا خلال الحصار، قالوا إن الأب فرانس كان يعيش ويأكل ويشرب معهم، وإن النظام هو المسؤول عن الحادثة، واتهم “المجلس العسكري لثوار حمص” حينها النظام السوري بالوقوف خلف عملية القتل.
صحيفة “نيويورك تايمز” قالت إن شخصيات مثل الأب فرانس قد تتسبب في إزعاج النظام، إذ واصل اليسوعيون مساعدة الناس في سوريا بغض النظر عن موقفهم السياسي، وهو عمل يصفه العاملون اليسوعيون بأنه حيادية إنسانية، لكن بعض “مؤيدي الحكومة ينظرون إليه بريبة”.
النظام وظّف الدين سياسيًا
لم يكن لدى المسيحيين السوريين رأي واحد بشأن ما يحدث في سوريا منذ اندلاع الثورة 2011، وأعرب بعضهم عن تعاطفهم مع الثورة وصوت الناس، وبقي بعضهم على الحياد، وانحاز آخرون إلى جانب النظام السوري.
وشارك عديد من الشباب المسيحيين في المظاهرات السلمية خلال الأشهر الأولى للثورة، كما انخرطوا في مختلف المبادرات الرامية إلى تعريف المجتمع بمطالب الثورة وحشد الدعم لها.
ويوجد قطاع من المسيحيين، من ضمنهم جل قيادات الكنائس السورية، يدعمون النظام السوري بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع رموزه، كما يدعمه آخرون باعتباره الضمانة لأمن المسيحيين في سوريا، بحسب دراسة بعنوان: “المسيحيون والثورة في سوريا”، صادرة عن مركز “مالكوم كير- كارينغي” للشرق الأوسط في نيسان 2016.
ويعتبر التوظيف السياسي للدين إحدى الوسائل الرئيسة التي استخدمتها السلطة في سوريا لترسيخ حكمها وتأييده، ضمن الحيّز الكبير الذي تأخذه القضايا الدينية من وعي أفراد المجتمع، وتجاربهم، وسلوكياتهم، وقراراتهم، نتجت عن ذلك التوظيف إشكاليات عدة يعانيها المجتمع السوري.
ويروّج النظام السوري على أنه حامي الأقليات في سوريا في ظل صعود التنظيمات “الجهادية” الإسلامية، في حين لا تزال المنظمات الحقوقية توثّق انتهاكاته بحق عديد من المنشآت الدينية ورجال الدين الذين عارضوه بمختلف مذاهبهم.
وكان عدد المسيحيين في سوريا يبلغ 2.2 مليون شخص مع اندلاع الثورة عام 2011، لكنه انخفض ليصل إلى 677 ألفًا في عام 2021، وفقًا لمؤشر اضطهاد المسيحيين حول العالم الذي نشرته منظمة “الأبواب المفتوحة” غير الحكومية.
من الأب فرانس؟
ولد الأب فرانس فاندرلخت في 10 من نيسان 1938 في لاهاي بهولندا، وكان الثالث بين سبعة أطفال (خمسة ذكور وبنتان).
درس الفلسفة في هولندا من 1961 إلى 1964، وكان عنوان أطروحته “الشعور بالذنب لدى الشباب”، وتعلّم اللغة العربية بين عامي 1964 و1966، بمعهد “سيدة النجاة” في بكفيا بلبنان.
وبدأ في سنة 1966 عمله في حمص بسوريا، في مدرسة “يوحنا الدمشقي”، حيث درّس اللغة الفرنسية والحساب والدين لطلاب المرحلة الإعدادية، وعمل مشرفًا في المدرسة الثانوية.
درس من عام 1968 إلى 1972 علم اللاهوت في ليون بفرنسا، وحصل على الإجازة، ودرس في الفترة نفسها علم النفس وحصل على إجازة فيه، ثم تابع دراسة علم النفس بجامعة “ليون” الحكومية، وسمّي كاهنًا في أمستردام عام 1971.
عاش الأب فرانس من سنة 1980 إلى سنة 1987 في مدينة حمص، وبدأ بممارسة الرياضات الروحية وإقامة “المسير”، وهو المشي لأيام في الطبيعة، وكان رئيسًا لدير “اليسوعيين” في دمشق من 1987 إلى 1993.
وكان الأب فرانس يلقي أسبوعيًا المحاضرات على مجموعات الحياة المسيحية، وكتب خلال إقامته في دمشق كتبه الثلاثة، وهي: “من أنت أيها الحب؟”، “من الفشل إلى النجاح”، “الإصغاء والحب”.
في 1991، شرع الأب فرانس بمشروع “الأرض” الذي اكتمل في 1993، ويقع المشروع بالقرب من مدينة حمص على طريق القصير، ويضم بيتًا لذوي الإعاقة ومصنعًا للسيراميك وبيتًا لاستقبال الناس، ودارًا للصلاة أطلق عليها اسم “دار السلام”، ومركزًا للتنمية الزراعية.
عُيّن الأب فرانس سنة 1995 رئيسًا لدير “اليسوعيين” في حمص، وعزز الانسجام بين المسيحيين والمسلمين، وخلق جوًا مريحًا وبسيطًا وأحبه كل من عرفه، واغتيل قبل ثلاثة أيام من ذكرى ميلاده.
عاش في غرفة من دير “اليسوعيين” تحوي على فراش على الأرض وعدد هائل من الكتب، ودُفن في حديقة الدير بناء على وصيته، وكُتب على قبره “الأب الشهيد”.
اقرأ أيضًا: الأب باولو دالوليو الذي واجه الخصوم في سوريا.. واقفًا
–