ناظم القدسي يواجه نظام “البعث”
إبراهيم العلوش
بعد 60 عامًا من الانقلاب على الرئيس المنتخب ناظم القدسي، تردّ عائلة الرئيس السابق على اتهامات البعثيين وتلفيقاتهم، بنشر أرشيف الممارسات الديمقراطية في البرلمان والدولة السورية قبل وصول دبابات “البعث” إلى القصر الجمهوري.
أطلقت عائلة الرئيس السوري السابق، ناظم القدسي (1906- 1998)، قبل أيام موقعًا إلكترونيًا يحتوي موجز حياته ووثائق متعلقة به وبنشاطاته، ما يعد سابقة غير مألوفة في الحياة السياسية السورية التي هيمنت عليها عائلة الأسد، وتجاهل إعلامها تاريخ سوريا، وكأنها لم تكن موجودة قبل حافظ الأسد ووريثه بشار.
ما يلفت النظر أن كلًا من ناظم القدسي وبشار الأسد درس في أوروبا، ولكن سلوك الاثنين متناقض بشكل كبير، فبشار الأسد مثل رئيس كوريا الشمالية الذي درس أيضًا في أوروبا، أخلص لبنية النظام المخابراتي الذي ورّثه الحكم، وتلاعب بالقوانين، واحتقر حقوق الإنسان، وضحّى باستقلال البلاد من أجل الاستمرار في الحكم.
بينما نجد أن ناظم القدسي نال شهادة الدكتوراه في الحقوق الدولية عام 1929 من سويسرا، وكان مقربًا من إبراهيم هنانو، وشارك في كتابة دستور 1950 الذي لا يزال علامة قانونية مهمة، ومثّل سوريا في الأمم المتحدة مشاركًا في تأسيسها، وصعد في المسار السياسي عبر الانتخابات في المجلس النيابي، وشارك في عضوية حكومات متعددة، وأصبح رئيسًا للجمهورية ضمن تنافس مع شكري القوتلي ومع غيره، قبل أن تصل الدبابات إلى القصر الجمهوري في 8 من آذار 1963 لتبدأ عصر الخراب الذي توّجه حافظ الأسد بكل موبقات الأنظمة المخابراتية، وبكل ما تحمله من استهتار بالقانون وبأرواح الناس وارتهانها للطائفية والخيانة الوطنية.
من بين الذكريات التي ترد في موقع “المكتبة الرئاسية للدكتور ناظم القدسي“، أن القدسي كان يتنافس مع شكري القوتلي ورفض التجديد له، وعندما انقلب حسني الزعيم عام 1949 على القوتلي وأطاح به، حاول الانقلابيون استمالة القدسي لتشكيل حكومة برئاسته، إلا أنه رفض معتبرًا أن تنافسه مع القوتلي تنافس سياسي وليس موضوعًا للانتقام.
شكّل ناظم القدسي مع شريكه رشدي الكيخيا حزب “الشعب” الذي أُسس في حلب، التي كانت تنتدبه في مجلس النواب طوال ستة انتخابات نجح فيها وتسلّم رئاسة المجلس بالإضافة إلى مناصبه التي فاز بها.
وكان للتنافس بين النخب الحلبية والشامية أثر كبير في تشظي الحياة السياسية السورية، إذ كان حزب “الشعب” القريب من نخب حلب يميل للتقارب مع العراق، بينما الولاءات الشامية كانت ترفض ذلك وتفضّل التقارب مع مصر والسعودية، وظلت نقابة المهندسين مثلًا مقسمة بين حلب والشام حتى فترة السبعينيات.
وكان لأحداث الثمانينيات من القرن الماضي أثر في ركوب الموجة المعادية لمدينة حلب ذات الميول المختلفة عن دمشق، عندما استغلها حافظ الأسد وارتكب أبشع الجرائم على أيدي القوات الخاصة، والفرقة الثالثة، وكتائب المخابرات والكتائب البعثية التي أدمت حلب، وكانت أكبر سابقة في استباحة الدم السوري، قبل أن تحدث المجزرة الكبرى التي نعيشها اليوم، إذ كان لحلب نصيب كبير من الدمار الذي ارتكبه النظام مع المجرمين الذين استقدمهم من إيران وروسيا.
كانت سوريا منذ استقلالها تمضي قدمًا على أيدي آباء الاستقلال بتمكين حكم القانون والمحاسبة، وكانت الصحافة الحرة تحاسب رئيس الجمهورية على الركوب بسيارة الدولة بعد الدوام، وتحاسب ناظم القدسي على شق شارع قرب أرض له مدعية أنه يستغل منصبه من أجل زيادة سعر أملاكه. ولعل المحاضر المنشورة في موقع الأرشيف تقدم وجبة مهمة للاطلاع على الحياة السياسية التي جعلت من سوريا سويسرا العرب كما قال المفكر محمد عابد الجابري.
وما إن جاء “البعث” وعسكر الحياة السياسية حتى انحدرت البلاد إلى الهاوية، فاتخذ من آباء الاستقلال أعداء له، بحجة أنهم كانوا رجعيين بينما “البعث” تقدمي، وكانوا منحازين لتطور المدن وازدهارها على حساب أبناء الأرياف، ولكن عسكر “البعث” لم يتركوا مدينة ولا قرية تسلم من نيران أحقادهم، ابتداء من الاستيلاء على أملاك الناس بحجة التأميم وتهجير النخب الصناعية والتجارية واعتقال الشباب السوري بالآلاف، وحرمان البلاد من كفاءاتها التي غادرت بلا رجعة.
طرد “البعثيون” ناظم القدسي الذي انتخبه مجلس النواب رئيسًا (1961- 1963)، وغادر سوريا إلى لبنان ليعيش حياة النفي، بعدها أعلن استقالته من العمل السياسي، وحاول أن يكسب لقمة عيشه في العمل التجاري، وتداولته المنافي العربية والأجنبية حتى توفي في الأردن عام 1998 بعد أن رفض حافظ الأسد أن يوافق على دخوله الأراضي السورية إثر إصابته بمرضه الأخير، وتمنى أن يموت في حلب التي ظلت حلمًا في حياته، وكان لها الفضل في صعوده السياسي بالإضافة إلى مواهبه وتسامحه، على عكس الطيار الفاشل والحقود حافظ الأسد.
وهناك بعض المآخذ على الرئيس السابق، ناظم القدسي، فقد أيد انقلاب سامي الحناوي القريب من حزب “الشعب” على حسني الزعيم الذي تم إعدامه، وتسلّم الحكم بعد الانفصال الذي أحزن الوحدويين، ولكنه لم يبادل قسوة نظام الوحدة المخابراتي بقسوة مماثلة، إذ رفض طرد بعض المسؤولين الأكفاء رغم آرائهم المخالفة له.
إطلاق موقع “المكتبة الرئاسية للدكتور ناظم القدسي” شكّل مفاجأة سورية سعيدة، تساعد في ردم الهوة التي حفرها نظام “البعث” في التاريخ السوري، عبر نفي أي إيجابية للتاريخ السياسي السوري قبل “البعث”، والإصرار على وصمه بالرجعية، ما كرّس تخليد عائلة الأسد بوجه آباء الاستقلال، ولكنهم مع هذا الأرشيف يعودون ليكون تاريخهم نواة لسوريا ديمقراطية وبعيدة عن العسكرة وعن العصابات الأيديولوجية والطائفية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :