عنب بلدي – لجين مراد
“كل رفقاتي تزوجوا، وأنا ما كنت بعرف عن الزواج غير أنه (سترة للبنت) هيك خبروني”، بضع كلمات قالتها هبة (17 عامًا) تلخص سبب زواجها المبكر، وتعكس واقع مئات ضحايا زواج القاصرات في إدلب، وتُنذر بمأساة يمكن أن يستمر أثرها طويلًا على الفتيات ومجتمعهن.
لم تكن هبة تعي ما الذي يمكن أن تحمله لها خطوة الزواج، ولم تملك الحق بالاختيار، باعتبار أن عائلتها “تعرف مصلحتها جيدًا”، وفق ما قالته لعنب بلدي، معبرة عن حالة التيه التي تعيشها رغم مضي عامين على زواجها.
دوافع متشابهة ترتبط بشكل أساسي بحرب ألقت بظلالها على المنطقة منذ سنوات، وفرضت ظروفًا قيّدت مستقبل عديد من الفتيات بالزواج، وسلبتهن طفولتهن وحقهن بالاختيار.
وفي حين يبرز الحديث عن حالات زواج القاصرات في إدلب، تغيب الإحصائيات حول نسبة انتشاره، ما أرجعته المحامية والباحثة في مركز “حرمون للدراسات” ماسة الموصلي، في حديث إلى عنب بلدي، إلى صعوبة العمل الميداني في وقت الحرب، وعدم تصريح كثير من الأسر عن حالات زواج القاصرات.
دوافع ومبررات
“بعد نزوحنا الأخير إلى ريف إدلب، أهلي منعوني من المدرسة خوفًا من غياب الأمان بالمنطقة”، قالت هبة في إشارة إلى أول دوافع عائلتها لتزويجها بعمر الـ15 عامًا.
أخبرت عائلة هبة ابنتها بأن الزواج “سترة”، وحل لخوفها الدائم عليها من التعرض لاعتداء “يلحق العار بالعائلة”، بحسب تعبيرها.
وفي قصة مشابهة اختلفت فيها الدوافع، أُجبرت فريال (17 عامًا) على الزواج قبل ثلاثة أعوام لـ”تُنقذها عائلتها من الفقر وحياة المخيم”، وفق ما قالته لعنب بلدي.
“كان زوجي يسكن في منزل، ونحن بمخيم، ووضعه المادي أفضل من عائلتي المعتمدة على المساعدات”، تابعت فريال لتوضح أن محيطها صوّر الزواج على أنه “نجاة” من مأساة النزوح التي تعيشها، بينما لم تكن تعرف عن الزواج أكثر مما قيل لها.
الباحثة الاجتماعية إيفا عطفة قالت لعنب بلدي، إن أسباب انتشار ظاهرة الزواج في إدلب مرتبطة بعوامل اقتصادية واجتماعية وأمنية.
وحول العوامل الاقتصادية، ترى عطفة أن الظروف المتردية لمعظم العائلات جعلتها تتوجه لتزويج بناتها للتخلص من عبء تكاليف معيشتهن، وإنقاذهن من الفقر.
وترتبط الظروف الاجتماعية بوجود أفكار متأصلة لدى بعض فئات المجتمع، لا ترفض زواج القاصرات ولا ترى فيه ضررًا لهن، بالإضافة إلى أنها لا ترى بتعليم الفتيات أولوية، وفق ما قالته عطفة.
وأضافت أن الواقع الأمني الذي يفرضه وجود أشخاص من بيئات مختلفة في منطقة شهدت نزوحًا متكررًا، يدفع العائلات للاعتقاد بأن الزواج حماية للفتيات.
“تراجع التعليم والتسرب المدرسي ومعاناة الأسر من الفقر الشديد، بالإضافة إلى قناعة الأهالي بأن تزويج بناتهم، وإن كن قاصرات، يساعد على حل أزمة الأسرة المادية ويؤمّن لهن حياة أفضل، دفع عديدًا من الأسر إلى تزويجهن في سن مبكرة”.
ماسة الموصلي محامية وباحثة في مركز “حرمون”. |
القوانين غائبة..
سلطة الأمر الواقع “شريك”
تسيطر على المنطقة “هيئة تحرير الشام” مع وجود حكومة “الإنقاذ” في إدلب، وتفرضان على المجتمع أحكامًا باسم “الشريعة”، تقيّد حياة الفتيات والنساء بشكل خاص.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي، لا تمنع “الإنقاذ” زواج القاصرات، إذ تُسجّل عقود الزواج بشكل رسمي دون وجود سن محددة للزواج.
وخلصت دراسة عملت عليها المحامية والباحثة ماسة الموصلي، إلى أن السلطات الحاكمة لم يكن لها موقف رسمي وقانوني للحد من زواج القاصرات، بل كانت مشجعة له، إذ إن كثيرًا من القاصرات تزوجن من مقاتلين في “الهيئة”.
وقالت الموصلي لعنب بلدي، إن القانون مسؤول عن تنظيم المجتمع وحمايته، وتلعب القوانين القادرة على ضبط المجتمع وتأمين الحماية لأفراده دورًا أساسيًا بزيادة الوعي المجتمعي وانخفاض معدل الجرائم الاجتماعية، لافتة إلى أن ذلك القانون غائب في إدلب.
تواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ”، لكنها رفضت تقديم أي إجابات حول الأمر.
“وجود سلطة تشرعن زواج القاصرات وتفرض قوانين بالقوة، يسهم بتحول تلك القوانين إلى أعراف سائدة”.
إيفا عطفة باحثة اجتماعية |
ما موقف القانون السوري؟
تنص المادة الـ”18″ من قانون الأحوال الشخصية لعام 2019، على أنه “إذا ادّعى المراهق أو المراهقة البلوغ دون سن الـ15 وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا بيّن صدق دعواهما واحتمال جسميهما”.
ويُشترط في تلك الحالة موافقة الولي في حال كان هو الأب أو الجد، بحسب القانون.
وشدد المرسوم رقم “24” لعام 2018 عقوبة تزويج القاصرة خارج المحكمة دون إذن وليها، لتصبح عقوبة من يعقد زواجًا من هذا النوع لفتاة بكر (لم يسبق لها الزواج) الحبس من شهر لستة أشهر، والغرامة من 50 ألفًا إلى 100 ألف ليرة سورية، بدل الغرامة من 100 إلى 250 ليرة في القانون السابق.
وفي حال عُقد زواج القاصرة خارج المحكمة بعد موافقة الولي، يعاقَب بالغرامة من 25 ألفًا إلى 50 ألف ليرة سورية.
“المشكلة في القانون السوري أنه لم يقدم الحماية الكافية للقاصرة بمواجهة تزويجها، ولم يغلق الباب نهائيًا بوجه هذا الشكل من الزواج ولم يكن رادعًا، ما أسهم بجعل كثير من الأسر لا ترى في هذا الشكل من الزواج مخالفة قانونية”.
ماسة الموصلي محامية وباحثة في مركز “حرمون” |
قلوب صغيرة وأعباء كبيرة
“زواجي استمر خمسة أشهر، وبعد الانفصال ما حصلت ولا شي من حقوقي”، قالت فريال والغصة تخنق صوتها.
تزوجت فريال بعمر الـ14 عامًا، لتمضي أشهرًا من المشكلات الزوجية التي لم تستطع شرحها بأكثر من عبارة “أمه ما كنت تحبني”، وفق تعبيرها.
“عشت خمسة أشهر قاسية وتُركت بعدها بمواجهة مع محيط كنت فيه طفلة ورجعت إليه (مطلقة)”، بهذه الكلمات اختصرت فريال المأساة التي لم تنتهِ بانتهاء زواجها.
ولم تكن الفتاة تعي ضرورة الاحتفاظ بعقد الزواج، ولم تكن تعي ضرورة تثبيته رسميًا، ما سمح لزوجها بحرمانها من حقوقها بعد الطلاق.
في المقابل، ورغم استمرار زواجها، تواجه هبة (17 عامًا) ضغوطات زوجها وعائلته وتهديداته المستمرة بالتخلي عنها، نتيجة عدم قدرتها على الإنجاب.
ورغم تأكيدات الأطباء بأن المشكلة مرتبطة بصغر سنها لا أكثر، تواجه هبة مخاوف من عواقب تأخر حملها، وفق قولها.
“كل ليلة ببكي وبدعي، أنا لسا صغيرة وكان عندي حلم كفي دراستي، بس هلأ كل أحلامي ما أرجع عالخيمة مطلّقة”، تابعت هبة.
دوامة من المشكلات
في حين تعتقد العائلات أن زواج الفتيات إنقاذ لهن، ينقلهن الزواج في عديد من الحالات من عوالم الطفولة إلى دوامة من المشكلات والمسؤوليات وضياع الحقوق.
وتنعكس المشكلات التي تواجهها الفتيات على أسرهن ومحيطهن، ما يزيد احتمالية أن يطال الأثر السلبي للزواج المبكر المجتمع بأكمله.
الباحثة الاجتماعية إيفا عطفة قالت، إن الضرر الذي يلحق بالصحة النفسية والجسدية للفتاة من أبرز الآثار السلبية للزواج المبكر.
وترتبط المشكلات النفسية بعجزها عن استيعاب الانتقال من مرحلة الطفولة أو المراهقة إلى مرحلة تتطلب تحمل مسؤوليات كبيرة، بالإضافة إلى المشكلات الزوجية المترتبة على عدم نضجها وعدم تفهم الزوج لتلك الحالة، وفق ما قالته الباحثة.
وأضافت الباحثة أن المشكلات النفسية يمكن أن تتفاقم في حالة الحمل، إذ إنه من غير المنطقي أن تربي طفلة طفلها.
وفي ظل حالة عدم التفاهم بين الزوجين المرجح حدوثها في زواج القاصرات، ترتفع حالات الطلاق المبكر، وفق ما قالته الباحثة إيفا عطفة.
وفي حال الإنجاب، سيكبر الأطفال في بيئة غير سليمة وغير مستقرة، ما يجعلهم ضحية ذلك الزواج أيضًا، تابعت عطفة.
وبحسب دراسة عملت عليها الباحثة ماسة الموصلي، تواجه القاصرات في حالة حملهن دوامة من المشكلات مرتبطة بعدم جاهزيتهن لاستيعاب تلك المسؤولية، وعدم اكتمال مراحل نموهن العقلي والجسدي.
من جانب آخر، يترتب على الزواج المبكر ضياع حقوق القاصرات، خصوصًا في حالات الزواج غير المسجل رسميًا، بالإضافة إلى احتمالية أن يترتب عليه وجود أطفال غير مسجلين رسميًا، وفق الدراسة.
ويشير تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، إلى أن زواج القاصرات مرتبط بعديد من المشكلات الصحية التي يمكن أن تؤدي في بعض الحالات إلى الوفاة.
ووفق التقرير، تعد مضاعفات الحمل والولادة من بين الأسباب الرئيسة للوفاة بين الفتيات المراهقات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عامًا في البلدان النامية.
ما الحلول؟
يرتبط حل مشكلة زواج القاصرات جذريًا بوجود قوانين رادعة تمنع استمرار انتشار هذه الظاهرة، وفق ما قالته الباحثة ماسة الموصلي.
وتلعب منظمات المجتمع المدني دورًا مهمًا في الحد من زواج القاصرات، من خلال رفع السوية الفكرية والثقافية للعائلات، والتوعية بأهمية العلم ودوره بتحسين أوضاع الأسرة، وفق الموصلي.
وأوصت الموصلي منظمات المجتمع المدني بضرورة العمل على إيجاد فرص عمل للبالغين في تلك الأسر، إلى جانب عملها على تمكين المرأة وزيادة وعيها.
ويوصي تقرير “UNFPA” الحكومات والمجتمع المدني وغيرهما من الشركاء بالعمل معًا، لضمان حصول الفتيات على التعليم والمعلومات والخدمات الصحية، والتدريب الخاص بمهارات الحياة للحد من انتشار ظاهرة زواج القاصرات.