علي عيد
الاستقصاء هو المجال الأعقد والأكثر صعوبة في عالم الصحافة، وليس صحيحًا أن الصحافة الاستقصائية هي نمط جديد يدخل عالم الإعلام، لكن بات لها شكلها وأدواتها ومنظروها، وأبطالها.
المحقق الصحفي موجود منذ وجدت الصحافة، ولكنه الصحفي الأكثر عرضة للخطر، وهو ذاته الذي تحولت قصّته إلى أفلام في هوليوود، مثل “All the President’s Men” الذي يحكي قصة الصحفيين كارل برنستين وبوب ودور، وفضحهما الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، عام 1974، فيما عُرف باسم “Watergate scandal”، أو فيلم “The Post” الذي يتحدث عن تسريب “واشنطن بوست” وثائق حرب فيتنام قبل نحو 60 عامًا، وغيرهما من الأفلام والوثائقيات التي تظهر شجاعة الصحفي أو تورطه في قصص شائكة.
يعتبر الاستقصائيون أكثر الصحفيين شغفًا وربما مغامرة، فهم لا يرغبون بـ”الجلوس على التلّ”، والاكتفاء بنقل الخبر أو متابعة ما يحصل، هم يحاولون الغوص في التفاصيل، والنبش في الملفات، والتحقق والمتابعة حتى آخر نفس، ودون كلل، وهم يزعجون السلطة أو “المافيا” أو “الأوليغارشية” في النهاية، ويتحولون إلى ضحايا تُرتكب بحقهم جرائم بشعة.
هناك عشرات الأمثلة على قتل أو سجن أو ملاحقة صحفيين، منها تصفية الأمريكية دوروثي كيلغالن بالسّم عام 1965، بسبب وصولها إلى معلومات مهمة في ملف اغتيال الرئيس جون كينيدي.
وكذلك اغتيال الروسية آنا بوليتكوفسكايا عام 2006، بإطلاق النار عليها في موسكو بعد أن أجرت تحقيقات بشأن الانتهاكات الروسية في أثناء حرب الشيشان.
واغتيلت الصحفية دافني كاروانا غاليزيا بتفجير سيارتها عام 2017، بسبب نشاطها في فضح فساد ومسؤولين مقربين من رئيس الوزراء في مالطا.
بالعودة إلى طبيعة الاستقصاء، نجد أن صعوبته لا تقل عن أخطاره، وهذه الصعوبة تتفاوت بين بيئة وأخرى، ففي بلد مثل فرنسا، يمكن أن يضمن القانون حق الصحفي في الوصول إلى أرشيف الحكومة وحركة الأموال والحسابات إذا تقدم بما يبرر هذا الطلب، وكذلك تحديد الشركات وميزانيتها وأرباحها بمنتهى الشفافية، وهذا يسهّل من عمل الصحفي الذي يبحث عن أرقام غير منطقية في حسابات رجال سلطة أو أعمال.
أما في بلد مثل سوريا، فيصعب على الصحفي حتى أن يحصل حتى على المعلومات العامة، كعدد الأبقار أو عدد المصابين بـ”الكوليرا” أو “كوفيد- 19″، فالبلد يقبع في قاع قائمة الشفافية الدولية، وهناك صفقات تُدار دون أن يعلم بشأنها أحد.
بعض القضايا حتى إن كانت فسادًا مكشوفًا، ليس مهمًّا عند السلطة أن يظهر هذا الفساد، مثاله أن الجميع يتحدث عن فساد في “الأمانة العامة للتنمية” التي تديرها أسماء الأسد، عبر سيطرتها على عمليات وتعهدات أممية مخصصة للشأن الإغاثي، لكن لا أحد يستطيع انتقادها، وليس مهمًّا إن ثبت فسادها على المستوى الداخلي، وهذا يعني تراجعًا في أثر الاستقصاء داخل سوريا.
تراجع أهمية الاستقصاء الصحفي وأثره داخل سوريا أو غيرها من الدول التي ينخرها الفساد، لا يعني تراجع أهميته مطلقًا، بمعنى أن تكون فاسدًا مكشوفًا وغير مهتم لعدم وجود من يحاسبك، فإن هذا لا يعني أنك في وضع طبيعي، وأن الفساد حالة يجب الاستسلام لها، وهذا يعني مضاعفة واجب الصحفي الاستقصائي، لأن قصة الفاسد بحاجة إلى من يكشف تفاصيلها ويرويها للجمهور، ويفيد بها مراكز البحث والدارسين، وكذلك المنظمات الدولية والحكومات المتعاونة.
الاستقصاء نمط يُصنّف ضمن صحافة المساءلة في قضايا الاقتصاد وتتبّع المال، ويُصنّف في صحافة المعرفة عندما يكشف عن ظواهر بيئية أو مناخية عميقة أسهمت فيها عوامل بشرية، بعلمها أو دون ذلك.
يأخذ الاستقصاء منحى جادًّا في أخلاقيات الصحافة المسؤولة، وهو بمعناه المهني لا يرتبط بصحافة المتعة.
ليس كل تتبّع أو شغف بالبحث هو صحافة استقصاء، فهناك تتبّع غير مشروع، مثاله “الباباراتزي” (Paparazzi)، من متصيّدي حياة المشاهير وعلاقاتهم الحميمية، إذ ينتهكون حياة هؤلاء المشاهير ليشبعوا شغف قسم من الجمهور، وغريزة التلصص عند البشر.
الاستقصاء منهج يعود لآلاف السنين، استخدمه علماء فلسفة ورياضيات ولغة، وحتى علماء الدين وطريقتهم في جمع الأحاديث بالتاريخ الإسلامي.
لم تكن الصحافة بمفهومها الحديث موجودة أيام نهضة العلوم في مصر القديمة أو الإغريق أو بابل وسومر، ولا أيام صراعات ومؤامرات الإمبراطوريات، وخيانات القصور، وإلا لكانت وسيلة الكشف عن تلك المؤامرات، ولكان الاستقصاء جزءًا من مهمتها وعملها.
منذ انفصلت الصحافة، أو الإعلام، عن بقية العلوم أو الحِرف، أصبحت تضيف كل يوم مهمات جديدة، في قضايا موجودة بالأصل، وأصبحت تضع قواعد لهذه المهمات، معتمدة على خبرات عاملين محترفين وخبراء وباحثين في هذا القطاع.
يحتاج الصحفي للعمل في الاستقصاء إلى مسألتين في غاية الأهمية، الأولى تتعلق بشخصيته، كأن يتمتع بالصبر والخبرة والمثابرة والشغف والأهلية، والثانية تتعلق بالتخطيط والفهم، فالاستقصاء يرتبط بسلسلة مترابطة تبدأ بالفكرة ومصدرها، وتتدرج نحو تحديد الإشكالية، ووضع الأسئلة وتحديد الفرضيات قبل اختبارها، ثم المعرفة بقواعد تحليل الوثائق والبيانات، ومقاطعة المصادر وتقييم أهليتها، وفي النهاية تقديم الإجابات المناسبة عن جميع الأسئلة وبشكل قانوني.
الصحافة الاستقصائية تكاد تقترب من عمل “البوليس السرّي” أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون رديفًا لمؤسسات الدراسات والأبحاث، وقبل هذا كله هي الصحافة بكامل أركانها وشغفها ومخاطرها.. وللحديث بقية.