صفوان قسام
كم واحدًا منا اهتم لمرور طفل أو مسن أو مريض قد يتحسس من رائحة سيجارته وهو يدخن، فلوث الهواء الذي يستنشقه؟ أو كم واحدًا منا اهتم لأمر جيرانه عندما دخن في ممر البناء، أو فتح باب منزله لتخرج رائحة الطبخ إلى الممر؟ أو انتبه عندما أغلق باب منزله بقوة أنه قد يزعج أحدًا ما؟ أو عندما تحدث على الهاتف بصوت عالٍ في المواصلات والشارع، أو اهتم لضرورة وقف الأعمال المنزلية من الساعة العاشرة مساء حتى الثامنة صباحًا حتى لا يزعج من يطلبون الراحة؟ أو اعتذر من جيرانه بعد سهرة صاخبة أجراها منتصف الليل.
كم مرة طلبنا من أحدهم التوقف عن أمر يزعجنا، ورغم كل لباقتنا بالطلب وجدناه يقوم بالعكس مستهجنًا انزعاجنا… ربما لو دققنا في تصرفاتنا لوجدنا أننا نزعج من هم حولنا دون أن ندري.
يقوم جوهر الرقي الاجتماعي أو التحضر في العلاقات الاجتماعية على أساس وعي الفرد باحتياجاته ومشاعره وسلوكه، ووعيه باحتياجات ومشاعر وسلوك الآخرين، والتعامل مع هذا الوعي وفق القنوات التي يسمح بها المجتمع لتلبية هذه الاحتياجات والتعبير عنها والتصرف على أساسها، وهذا ما نسميه “الذكاء العاطفي”، الذي بات سمة للمجتمعات الراقية والمتحضرة.
ستجد أن من يمتلك هذا النوع من الذكاء، الذي يمكن تنميته، يقوم بشكل بديهي بتحديد مشاعره قبل التصرف أولًا، ثم ربط هذه المشاعر باحتياجه، والتفكير بالسلوك المناسب لتلبية هذه الاحتياجات، وهو أيضًا قادر على التعامل مع مشاعر الآخرين وفهمها وربطها باحتياجاتهم وسلوكهم، لأن الاحتياجات تولد مشاعر تدفع للقيام بسلوك ما من أجل تلبية هذه الاحتياجات ومعالجة المشاعر.
على سبيل المثال، نجد راكبًا في الحافلة وجه كلامًا قاسيًا وبشكل غاضب لراكب آخر، لأنه يتحدث بصوت عالٍ على الهاتف، فيكون هذا الشعور بالغضب الذي دفعه لتوجيه الكلام مبنيًا على أساس احتياجه للهدوء. لقد تربى هذا الشخص على أن يتعامل عندما يحتاج إلى شيء من الآخرين بطريقة حادة، والمتحدث بصوت عالٍ لم يستوعب أنه يزعج الآخرين بذلك، بل ربما كان يعرف ولا يبالي، لاعتقاده أن هذا أمر عادي.
في مجتمعات تمتلك الذكاء العاطفي، لن نجد من يتحدث بصوت عالٍ على الهاتف في المواصلات العامة، وإن حصل ذلك نجد أن من يطالبه بخفض صوته قادر على التحكم برد فعله، لأنه تعامل مع مشاعره وفهم احتياجاته، واتبع أسلوبًا لبقا في طلبه: “أنا مستاء من الصوت العالي، أرجو خفض صوتك، لأني أحتاج إلى الهدوء”، وهو ما نسميه التواصل اللاعنيف: “حدد مشاعرك، حدد احتياجك، حدد طلبك”. بالمقابل، فإن الطرف الآخر إن لم يستوعب هذه النقطة فإنه جاهل بحقوق الآخرين، وسيسيء مجددًا له، والعكس بالعكس.
يختلف المفكرون الاجتماعيون حول تحديد عنصر وحيد يمكن القول من خلاله عن هذا المجتمع أو ذاك إنه “متحضر”، ففي الوقت الذي يعتبر بعضهم أن القانون والسياسات هي المعيار، يرى بعضهم الآخر أن الهيكلية العملية التعليمية والمعرفية، أو الإنتاج التكنولوجي والصناعي، وربما البنية التحتية والعمرانية، أو التقدم والغنى الاقتصادي، هو المعيار. وقال آخرون، إن المعيار هو انخفاض مستوى المشكلات الاجتماعية والجريمة، وارتفاع مستوى الفن ومكانة المرأة، وربما الأخلاق.
قد تكون هذه العناصر، التي يتم قياس ومقارنة الفروق الحضرية بين المجتمعات على أساسها مجتمعة أم متفرقة، هي فعلًا المعايير المقررة لمستوى التحضر، ورغم هذا الاختلاف، فإن الإجماع كان على أن عنصرًا واحدًا فقط منها لا يكفي، فكان لا بد من إدخال عناصر أخرى، لأننا، حتى لو أعطينا مجتمعًا ما أفضل أنواع السيارات والمنازل والتكنولوجيا والقوانين، وما زالت تحكمه تقاليد كالثأر، فإن معيارين معًا قد سقطا هنا، الحداثة والقانون، وذلك لأن العقلية الاجتماعية لم تتغير، وهو ما نراه واضحًا في المجتمعات المحدثة النعمة، التي اغتنت فجأة لكنها بقيت ضمن علاقات اجتماعية ثقافية لا تتناسب مع كل التطور والحداثة المادية التي امتلكتها، وبالتالي كان التحضر شكلًا مفرغًا من مضمونه فيها.
ولا يجب أن يُفهم هنا أن الانفكاك من الثقافة الاجتماعية التقليدية عامل حاسم في التطور، إنما من أجل الوصول إلى تنظيم اجتماعي متمدن، يجب أن تحل المؤسسات العامة مكان المؤسسات التقليدية، لأن الأخيرة أحيانًا قد تفضي إلى فوضى، عندما يترك أمر تنظيم المجتمع لها، رغم أنه عُهِدَ لها لوقت طويل في كل المجتمعات تقريبًا تنظيم المجتمع، حتى ظهر المُشرعون الجدد، وتطور الفكر
الاجتماعي والبنية الاجتماعية المؤسساتية، وتراكمت الخبرات والتجارب.
إلا أن مقاربة أخرى تستند إلى رأي علماء النفس والاجتماع حول وجود علاقة بين الذكاء والعنف، إذ يقال: كلما ارتفع الذكاء قل العنف، وهذه القاعدة تنطبق عمومًا على المجتمعات والأفراد. من هنا نجد أن الأفراد الذين لديهم معدل مرتفع من الذكاء، يكون مجتمعهم بمستوى منخفض من العنف. أما أولئك الذين يُسخرون ذكاءهم لغايات شريرة فيسمون دهاة، وهذا النوع من الذكاء يتبع لمجال استخدامه، فهو دهاء.
ومن المعروف أن الذكاء أنواع، ونخص هنا الذكاء الذي يمكن له أن يؤثر في العلاقات الاجتماعية التي لا تخضع لشروط السياسيين والحكام والعسكر أو الاقتصاديين مثلًا، إنما على صعيد المجتمع وأفراده، أي الذكاء الاجتماعي الذي يمكن له أن يحدّ من مستوى العنف الذي يعتبر واحدًا من معايير المجتمعات المتحضرة.
قيل في عصر التنوير، إن الحيوان يلد حيوانًا، أما الإنسان فيربي إنسانًا، إشارة إلى أن الإنسان يكتسب آدميته بالتربية وليس بالفطرة، رغم أنه ليست كل تربية تصنع إنسانًا، فبعضها تصنع ما هو متوحش أكثر من أي مخلوق في الطبيعة، إنما يصبح الإنسان إنسانًا بالمعاملة الحسنة.