عنب بلدي – حسن إبراهيم
بدأ الهدوء يعود تدريجيًا إلى مدينة جنديرس بريف حلب الشمالي، بعد حالة غضب واحتقان شعبي عقب مقتل أربعة مدنيين من الكرد على خلفية مشادة كلامية خلال الاحتفال بعيد “النوروز” في المنطقة.
توتر في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا بريف حلب، تدخلت على إثره “هيئة تحرير الشام” صاحبة النفوذ العسكري في إدلب، موجهة أرتالًا عسكرية رافقت جثامين الضحايا بعد لجوء ذويهم إلى مناطق إدلب، مطالبين بانسحاب الفصائل من مدن وبلدات شمالي حلب.
انتهاكات متكررة ظهرت إلى العلن في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، سرعان ما رافقها تدخل من “تحرير الشام” التي تضمر النيات للسيطرة على المنطقة، عززها وجود أذرع لها على المستوى الخدمي والعسكري.
تدخل “تحرير الشام” هذه المرة كان بنية وذريعة “وقف الانتهاكات ومحاسبة مرتكبي الجريمة”، على الرغم من وجود “جيش وطني” و”شرطة عسكرية” وجهات قضائية في جنديرس التي لا تتبع إداريًا لـ”الهيئة”، ليظهر التنافس بين الطرفين في القدرة على ضبط أمن المنطقة، والرغبة في توسيع فارق القوة بينهما.
ما قصة جريمة “جنديرس”
مساء 20 من آذار الحالي، اعترض شخصان على إشعال أفراد عائلة النار احتفالًا بعيد “نوروز” أمام منزلهم، بالقرب من مخيمات أُنشئت حديثًا لمتضرري الزلزال الذي ضرب المنطقة، وتطور الأمر لإطلاق النار على أفراد العائلة بعد رفضهم إطفاءها.
وقُتل أربعة أشخاص من عائلة “بشمرك” وأصيب شخصان في حصيلة نهائية للحادثة، وذكر شهود محليون لعنب بلدي، أن أفرادًا من كتيبة تسمى “الأخشام” تابعة لـ”جيش الشرقية” في “الجيش الوطني” أطلقوا النار على أفراد العائلة، تبعه نفي من جهات عسكرية بتبعية الأفراد لـ”أحرار الشرقية”.
بعد ساعات من الحادثة، توجه عشرات الأشخاص من ذوي الضحايا بسياراتهم برفقة ثلاثة جثامين (الشخص الرابع كانت حالته خطيرة ثم توفي) من جنديرس بريف حلب إلى أطمة بريف إدلب، وطالبوا بانسحاب جميع الفصائل من جنديرس وتسليم المسؤولين عن الجريمة.
وعود من طرفين
اجتمع ذوو الضحايا مع قائد “هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، في شارع بمدينة أطمة قائلًا لهم، “هذا آخر يوم تتعرضون فيه لاعتداء، أنتم بحمايتنا”، ثم اجتمع الأهالي مع “الجولاني” وقياديين من “تحرير الشام”، أمثال “أبو ماريا القحطاني” و”أبو أحمد زكور” و”عبد الرحيم عطون”، الذين وعدوا بالقبض على الفاعلين ومحاسبتهم.
من جهتها، وزارة الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة” المظلة السياسية لـ”الوطني”، تعهدت عبر بيان بملاحقة الضالعين في إطلاق الرصاص على المدنيين الكرد، وتقديم الجناة إلى القضاء في أسرع وقت، والكشف تباعًا عن ملابسات الحادثة للرأي العام.
وأُقيمت، صباح 21 من آذار الحالي، في مدينة أطمة صلاة الجنازة على الجثامين الثلاثة، وتوجه أبناء المنطقة عبر عشرات السيارات لتشييعهم ودفنهم في مدينة جنديرس برفقة قوات عسكرية تتبع لـ”تحرير الشام”.
وشهدت جنديرس مظاهرة حاشدة خلال التشييع، طالبت بخروج الفصائل من المدن والبلدات، ومحاسبة القتلة.
حضر وزير الدفاع في “الحكومة المؤقتة”، وقادة الفيالق فيه، وأعضاء في “الائتلاف الوطني السوري” إلى مدينة جنديرس للمشاركة في التشييع، ووعد الوزير بكشف الفاعلين ومحاسبتهم قضائيًا.
“تحرير الشام” تتربص
بالتزامن مع التشييع والدفن، دخلت قوات تابعة لـ”تحرير الشام” إلى جنديرس، وسيطرت على مقر “الشرطة العسكرية” فيها، وعلى معظم الحواجز داخل وعلى أطراف المدينة، ترافق ذلك بإشادة بوعود “الجولاني” من قبل معرفات مقربة من “الهيئة” نشرت صورًا له مع ذوي الضحايا مرفقة بمنشورات مفادها أنه “لن يرد أي مظلمة”.
ونشر القيادي العسكري في “الهيئة”، ميسر بن علي الجبوري (الهراري) المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”، عبر “تلجرام“، أن “الأكراد جزء من هذه الأمة، ونصرة المظلوم واجبة، ولا بد من محاسبة المجرمين”.
وأضاف في منشوره أن “كل من في المحرر هم شعب واحد، وعلينا واجب شرعي وأخلاقي أن ننتصر للمظلوم. الظلم يفني أممًا ويهدم دولًا”.
مصدر في “الشرطة العسكرية”، طلب عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخوّل بالتصريح، قال لعنب بلدي، إن قوات “تحرير الشام” سيطرت على مقار وبعض الحواجز العسكرية بشكل جزئي، وجرت مفاوضات “سرية” و”شد وجذب” مع “الجيش الوطني” حتى انسحبت بعد ساعات من دخولها.
وساعد “تحرير الشام” في ذلك عناصر يتبعون لها موجودون في المدينة منذ تدخلها الماضي عقب اقتتال شهدته المنطقة، وفق المصدر.
مساء 21 من آذار الحالي، أعلنت إدارة “الشرطة العسكرية” التابعة لـ”المؤقتة” في ريف حلب، إلقاء القبض على ثلاثة أشخاص ضالعين بقتل المدنيين الكرد الأربعة، وذكرت أن القبض جرى بالتعاون مع قوات “حركة التحرير والبناء” في “الجيش الوطني”.
تنافس في ضبط المنطقة
توقفت العمليات العسكرية في مناطق سيطرة المعارضة منذ 2020، واقتصرت على بعض الردود أو العمليات “الانغماسية” من قبل الفصائل، التي توجهت لتوسيع النفوذ وإقامة تدريبات ودورات انتساب وتخريج، مع استمرار ارتكاب بعضها الانتهاكات، ونشوب اقتتالات فيما بينها.
الصحفي والباحث السياسي فراس علاوي، يرى أن الحادثة أظهرت نوعًا من التنافس بين “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام”، وكل منهما يريد أن يقدم نفسه بأنه هو “الضامن” للمنطقة خاصة الشمال السوري، وبأنه “الورقة الرابحة” في حال تم أي نوع من أنواع “التسوية”.
واعتبر علاوي في حديث إلى عنب بلدي، أنها عملية تنافس في تقديم أوراق اعتماد لإدارة الشمال السوري في حال كان الحل السوري على الطريقة المجزأة، وهي إدارة المناطق ومن ثم محاولة دمجها، لذلك تحاول هذه القوى إثبات قدرتها على إدارة المنطقة.
وأوضح علاوي أن المنطقة تحتاج إلى عملية إصلاح واسعة سواء من الناحية الأمنية أو الإدارية، وضبط الانتهاكات والتجاوزات من قبل “الحكومة المؤقتة” و”الجيش الوطني” يغلق الباب أمام “هيئة تحرير الشام” وأمام أي مشاريع أخرى، وحتى أمام تدخل دولي.
ولفت علاوي إلى أن عملية الإصلاح صعبة جدًا في ظل تغول الفصائل، وتغول مصالحها وسيطرة قادتها على “الجيش الوطني” الذي بات “مجرد اسم” تندرج تحته فصائل، كل فصيل يعمل ما يريد، دون خوف من محاسبة “الجيش الوطني” أو وزارة الدفاع أو “الشرطة العسكرية”.
رئيس وحدة المعلومات في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الباحث نوار شعبان، قال في حديث سابق لعنب بلدي، إن الفصائل تركّز في العام الحالي على ضبط الداخل، والحد من عمليات التهريب من مناطق سيطرة النظام، وملاحقة خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، واستهداف خلايا النظام التي تقوم بالتفجيرات في المنطقة، وتوحيد الشكل الأمني في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”.
ويرى شعبان، وهو خبير في الشؤون العسكرية، أن “التشكيلات العسكرية التي تثبت الوضع الأمني الداخلي، وتؤمّن تحركات المدنيين وعمل المنظمات، هي التي أصبحت ذات فاعلية أساسية كبرى، ومن الممكن أن يكون لها دور معيّن في مرحلة الاتفاقات الدولية”.
تقديم أوراق اعتماد
دخلت “تحرير الشام” بقواتها إلى مناطق ريف حلب عدة مرات باختلاف الأسباب، وبرزت رغبتها بالسيطرة على المنطقة وخاصة عفرين ونواحيها وتوسعة مناطق نفوذها، وعزز هذه الرغبة حديث لقياديي “الهيئة” وشرعييها بضرورة توحيد “الفصائل والجهود ونبذ التفرقة”، ترافق مع انتقادات لحالة “الفصائلية” و”ضعف الإدارة” في ريف حلب.
ومع كل حادثة أو انتهاك في ريف حلب، تبدأ موجة جديدة من الاتهامات يقودها قياديون من “تحرير الشام” وإعلام رديف ومقرب منها، مفادها “فشل” فصائل “الوطني” بإدارة مناطق سيطرتها، وحالة الفصائلية التي تشهدها مناطق ريف حلب، مقابل ترويج لـ”تحرير الشام” ومظلتها السياسية (حكومة “الإنقاذ”) بأن إدارتهما جيدة لمدينة إدلب.
الباحث السياسي فراس علاوي يرى أن “تحرير الشام” تملك قراءة سياسية أفضل من “الجيش الوطني” أو “الحكومة المؤقتة”، لكن الأخيرة تتعامل مع نظرية الأمر الواقع، لذلك كلا الطرفين يحاول تقديم أوراق اعتماده عند الضامن التركي، بأنه هو الأقدر على ضبط المنطقة أمنيًا وعسكريًا وإداريًا.
ويعتقد علاوي أنه من الناحية الأمنية، “الجولاني” أقدر على ضبط المنطقة، لكن هناك تخوفات وعدم قبول شعبي حتى اللحظة من سيطرته لدى الحاضنة الشعبية في الشمال السوري، بحكم أن معظم الموجودين في الشمال لم تتم إدارة مناطقهم بحسب رؤية “الهيئة”.
وفي حزيران 2022، شهدت مدينة عفرين شمالي حلب مظاهرة لعشرات الأشخاص، رفضًا لدخول قوات وآليات تتبع لـ”هيئة تحرير الشام” إلى أرياف حلب.
اختراقات سابقة وانسحاب
في 7 من شباط الماضي، ظهر “الجولاني” و”القحطاني” قرب أنقاض أبنية دمّرها الزلزال في مدينة جنديرس، المنطقة التي لا تتبع لـ”تحرير الشام” ولا لمظلتها السياسية حكومة “الإنقاذ”، كما صب الإعلام الرديف لـ”الهيئة” وقياديون فيها اهتمامهم على استجابة “الإنقاذ” في مدينة جنديرس.
وحشدت “تحرير الشام” أرتالها العسكرية بالقرب من معبري “دير بلوط” و”الغزاوية”، الفاصلين بينها وبين “الجيش الوطني”، في 11 من تشرين الأول 2022، لتدخل بهذه القوات مساندة لـ”فرقة الحمزة” (الحمزات) التي تؤازرها “فرقة السلطان سليمان شاه” (العمشات) ضد “الفيلق الثالث”.
وخرجت بعدها بتدخل تركي غير مباشر عبر فصائل أخرى في “الوطني” تاركة خلفها “خلايا” وأذرعًا في المنطقة، برز ذلك مع رفض فصيل يحمل الولاء لها وهو “أحرار الشام- القاطع الشرقي” تسليم معبر “الحمران” الداخلي إلى وزارة الدفاع في “المؤقتة”، إلا بعد مرور خمسة أشهر على النزاع عليه.
وتوجّهت أرتال عسكرية تتبع لـ”تحرير الشام”، في حزيران 2022، نحو مناطق ريف حلب، عقب اشتباكات بين فصيل “أحرار الشام- القاطع الشرقي” (الفرقة 32) و”الفيلق الثالث”، إذ يتبع الأخير لـ”الجيش الوطني” في حين يُعرف الأول بولائه لـ”تحرير الشام”.
ودخلت “تحرير الشام” من معبر “الغزاوية” الداخلي باتجاه منطقة عفرين شمالي حلب إلى قرية الباسوطة، بعدد تجاوز 400 آلية، ومن معبر “دير بلوط” بعدد تجاوز 350 آلية.
وتذرّعت “تحرير الشام” في كلا الهجومين بأسباب “رد البغي وحقن الدماء”، إلا أنها تسببت بدخولها باشتباكات أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، وخلق حالة هلع ورعب.