في حافلة “ميتروبوس” بمدينة اسطنبول التركية، وقف شخصان من الجنسية العربية بمحاذاة بعضهما، يتحدثان بصوت خافت عن طريقة حصول أحدهما على تأشيرة دخول لجلب أسرته إلى البلاد، فاعترضهما شاب تركي طالبًا منهما التوقف عن الحديث باللغة العربية، التي “جلبت له الصداع طوال اليوم”، بحسب قوله.
الموقف دفع بالشابين إلى الابتسام وتغيير مكانهما في الحافلة، مبتعدين عن الشاب المنزعج من الحديث، تفاديًا لتطور الموقف.
تعتبر المواصلات العامة في المدن المزدحمة من الأماكن التي تتكرر فيها حالات الاعتداء العنصري، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، بحسب حالات عديدة وثقتها وسائل إعلام تركية وعربية.
ومع تراكم هذه المواقف، صار الأجانب المجبرون على العيش في تركيا لظروف مختلفة يتجنبون التحدث بلغتهم الأم، ومنهم من يمتنع عن إجراء مكالمته عبر الهاتف مع أسرته التي لم يتحدث إليها منذ وقت طويل، خشية تعرضه لأي تنمّر أو مضايقة.
“تجنب المشكلات”
علي، صحفي سوري يقيم في ولاية اسطنبول التركية، قال لعنب بلدي، إنه ومنذ عدة سنوات، يوجد “دافع خفي” يمنعه من الرد على مكالمات ترده على هاتفه الجوال خلال استخدامه للمواصلات العامة، إذ لم يتمكن من تبرير هذه الحالة.
وأضاف أن المكالمة الواردة مهما كانت أهميتها أو قيمتها، فإنها مؤجلة حتى يصل إلى وجهته وينزل من الحافلة.
علي قال أيضًا، إن ابتعاده عن التعامل باللغة العربية كان نابعًا من مبدأ “تجنب المشكلات”، لكنه صار اليوم تصرفًا لا إراديًا يتبعه خلال سيره في الشارع أو استخدامه وسائل النقل العامة.
وفي حزيران 2022، اعتدى مواطنون أتراك على سائح عربي بالضرب ضمن حافلة في مدينة اسطنبول التركية، وذلك لاعتقادهم بأنه “يصور السيدات خلسة”.
وطال اعتداء آخر لفظي امرأة سورية في حافلة “ميتروبوس”، لأنها لم تفسح المجال لرجل تركي للجلوس في الحافلة المزدحمة.
تقليد المجتمع المضيف
مرت تسع سنوات على إقامة محمد وعائلته المكوّنة من 12 فردًا في مدينة اسطنبول التركية، لكن طبيعة الأسرة وعاداتها تغيرت بمرور الوقت، بحسب ما قاله لعنب بلدي، إذ لم تعد عادات العائلة كما هي، حتى في أبسط التفاصيل، كاللباس مثلًا.
وقال إن والده البالغ من العمر 52 عامًا توقف عن ارتداء الزي الذي كان يفضّله في مدينته الباب شرقي حلب، قبل قدومه إلى تركيا، وصار اليوم يرتدي بنطالًا وسترة عادية، متجنبًا “الجلابية” التي لطالما كانت أكثر راحة بالنسبة له، لكي لا يتم التعرف على هويته كسوري، درءًا لأي احتكاك.
الاختصاصي الاجتماعي صفوان قسام استدل بالفصل الـ23 من “مقدمة ابن خلدون” للنظر إلى الأمر من زاوية علم الاجتماع، إذ يقول الكتاب، إن “المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”.
قسام يرى في هذا الصدد، أن المجتمع الغالب يُقصد به المجتمعات الأكثر رخاء وبذخًا، كالمجتمعات الأوروبية مثلًا، التي تقلدها المجتمعات الأخرى، إذ لا يقتصر التقليد بين السوريين والأتراك وحسب، وإنما هو صبغة عامة في المجتمعات.
وخلال الحقبة الزمنية التي شهدت تماسكًا في المجتمعات العربية، كانت محط تقليد بالنسبة لمجتمعات أخرى من بينها المجتمعات الأوروبية، بحسب قسام.
وفي الوقت نفسه، يرى قسام أن هذه الحالة لا يمكن تعميمها، نظرًا إلى كون بعض التفاصيل لا تحمل المقياس نفسه، فبعض اللاجئين في تركيا يشترون ما يرونه متوفرًا من لباس، وبالتالي غرضهم من تبديل بعض عادات الملابس لا يمكن ربطها بالتقليد.
بينما يميل قسم آخر من اللاجئين السوريين في تركيا إلى الخوف من إظهار هويتهم بسبب اللباس أو اللغة أو العادات، أو حتى المغالاة في الخوف، وهو ما يراه قسام على أنه ضعف في الشخصية وقابلية للانقياد بسهولة.
اندماج “سلبي”
في ظل الحديث المتكرر في تركيا عن ضرورة دمج اللاجئين السوريين بالمجتمع المحلي، وتركيزه على دورات تدريبية لهم، يرى الاختصاصي النفسي قسام، أن نوع الاندماج الذي يؤدي إلى إخفاء هوية المندمج هو “اندماج سلبي”.
وقال إن اللاجئين السوريين من الأعمار الصغيرة يمكن ملاحظة سلوكهم المشابه لسلوك أقرانهم من الأتراك في جميع التفاصيل، سواء على صعيد الأطعمة المفضّلة، أو اللباس، أو حتى أساليب النظافة الشخصية، وهو نوع من الاندماج بالمجتمع المضيف.
وقد يكون هذا الاندماج في عقل اللاجئ على أنه “تقية” لتفادي الحالات العنصرية، لكنه في النهاية إحدى خطوات الاندماج، لكن يمكن القول عنه إنه اندماج “سلبي”، بحسب قسام.
ويعتقد أن هذا النوع من الاندماج هو تماهٍ غير واعٍ، بسبب حالة غير طبيعية يعيشها الفرد السوري في تركيا، وبالتالي فهو يحاول الاندماج لـ”حماية نفسه”.
اعتداءات متكررة
عبد الباري منسي، شاب مصري مقيم في اسطنبول، تعرض لاعتداء هو وعائلته بينما كان يجهز عربة الأطفال الخاصة بزوجة أخيه للنزول من “الميتروبوس”، إذ توجه نحوهم رجل تركي زاعمًا أن أصواتهم عالية، وحين حاول عبد الباري تهدئته، وجه له صفعة قوية تسببت بنزيف في أنفه.
هذه الحادثة سبقهتا أخرى في منطقة بهجلي إيفلر باسطنبول، عندما دخل رجل تركي حاملًا سكينًا بيده إلى منزل يقطنه شبان مصريون، وطعن اثنين منهم، لأن أصواتهم كانت مزعجة له، خلال حضورهم مباراة لكرة القدم، بحسب “CNN TURK“.
إلى جانب ثلاثة اعتداءات أخرى، منتصف عام 2022، طالت شبانًا أجانب في مدينة اسطنبول خلال انتظارهم سيارة أجرة، بحسب مواقع تركية.
وأعلنت الجمعية الدولية لحقوق اللاجئين أنها ستتابع الحدث، وتلاحق المسؤولين عنه، وذكر بيان للجمعية أنها “ستتابع الإجراءات القانونية”، بحسب ما نقلته صحيفة “يني شفق” التركية.
ماذا يقول القانون؟
هيئة حقوق الإنسان والمساواة التركية (TİHEK) أطلقت، في تموز 2022، منصة إلكترونية خاصة بها على الإنترنت، تتيح للأجانب أو اللاجئين التقدم بشكوى رسمية في حال التعرض لأي تصرف عنصري من موظف أو دائرة حكومية.
بحسب ما أعلنت عنه الهيئة، فإنه يمكن لكل شخص بمفرده، أو لأي منظمة أو وقف يدّعي أنه عانى العنصرية والاحتجاز في السجون والمعتقلات ومراكز الترحيل، التقدم بشكوى إلى المنصة، كما يمكن للأشخاص الذين حُرموا من حريتهم في أماكن إقامتهم أو تم حجزهم التقدم بشكوى.
وحتى تكون الطلبات المقدمة بشأن حظر العنصرية المندرج في القانون رقم “6701”، ووفقًا للمادة “3” من القانون، يجب أن تستند الشكوى إلى واحدة على الأقل من الأساسيات التالية: الجنس، العرق، اللون، اللغة، الدين، المعتقد، المذهب، الرأي الفلسفي والسياسي، العرق، بالإضافة إلى الأصل، والثروة، والميلاد، والحالة الاجتماعية، والحالة الصحية، والإعاقة، والعمر.
قبل التقدم بطلب إلى الهيئة، يجب على الأطراف المعنية أن تطلب تصحيح الممارسة التي يدّعون أنها مخالفة للقانون، وفي حالة رفض هذه الطلبات أو عدم الرد في غضون 30 يومًا، يمكن تقديم طلب إلى الهيئة.
ووفق أحدث إحصائية صادرة عن إدارة الهجرة التركية، فإن عدد السوريين في تركيا بلغ ثلاثة ملايين و447 ألفًا و837 لاجئًا.
–