مكانة اللغة عند الصحفي

  • 2023/03/12
  • 1:17 م
الصحفي السوري علي عيد

الصحفي السوري علي عيد

علي عيد

مرت آلاف السنين دون أن تتغير وظيفة اللغة، فهي أهم عناصر الاتصال ونقل الأفكار، وما تغير هو بنية هذه اللغة ومفرداتها، هناك لغات بادت وأخرى تطورت، ولطالما كانت اللغة دليلًا على حضارة الشعوب وتقدمها.

كل ما سبق مرتبط بسياق المنطق والفلسفة والعلوم، إذ تنقسم اللغة إلى مبنى ومعنى، ودون أن تمتلك هذين العنصرين فهي تفقد وظيفتها الأساسية.

ويختلف مفهوم اللغة عن الصوت، فقد طوره الإنسان، وضبط مخارج الحروف، وأصبح الصوت جزءًا يخدم اللغة، وهذه لا تقتصر على الأبجديات، إذ تعتبر الحركات والإيماءات (لغة الجسد) جزءًا من اللغة والمنطق، فهي تنقل المشاعر والأفكار، لذلك فنحن نشاهد اليوم على الإعلام نشرات لغة الإشارة لفاقدي السمع، كما أننا نتأثر بالموسيقا، وكل مقام منها يشير إلى معنى أو إلى ثقافة ومكان، ومثاله أن هناك مقام “الحجاز” الذي يرتبط بجغرافيا شبه الجزيرة وثقافتها الإسلامية، وطقوسها ومعتقداتها.

في الصحافة، تعتبر اللغة عاملًا حاسمًا في أداء المهمة والرسالة، ولغة الصحافة تتطور بتطور وسائلها وتقنياتها، إذ ليس من المستحسن استخدام الإنجليزية القديمة (لغة شكسبير) في نشرات الأخبار مثلًا، كما لا يمكننا نقل أفكار تكنولوجيا العصر للجمهور العربي بلغة ومفردات “الشنفرى” و”تأبط شرًّا”.

يتساهل كثير من الصحفيين في عنصر اللغة، ولهذا التساهل أثر كبير في إيصال الرسالة، أو كتابة الخبر الصحفي أو التقرير، أو حتى لدى مقدمي نشرات الأخبار.

من آثار ضعف اللغة عند الصحفي خسارة الجمهور، والعجز عن صياغة الأحداث والأفكار وتقديمها بشكل سلس ومبسّط ومفهوم، وغالبًا ما سينكشف الصحفي، وقد يفقد هويته كصحفي ليصبح مجرد مزوّد خدمة فاشل وضعيف.

يجهد الصحفيون المتمرسون في اختيار المفردات المناسبة والسليمة لنقل الخبر، وصياغة موادهم الصحفية، ويتسبب ضعف اللغة عند الصحفي في فقدانه دوره أو حتى فرصته في العمل.

دليل الحاجة إلى لغة سليمة في حرفة الصحافة هو وجود مدققين لغويين، ودليل أهمية اللغة في إيصال الأفكار دون تحريف أو مبالغة، هو وجود مفردات قد يؤدي استخدامها في غير مكانها إلى تغيير المعنى، والتسبب بإشكالات في الفهم لدى الجمهور، ما يورط الوسيلة الإعلامية في قضايا قانونية بعض الأحيان.

كل صحفي هو روائي، وكل رواية تتطلب قدرًا عاليًا من المعرفة باللغة.

لا تختلف أهمية اللغة عند كل الثقافات والشعوب، ولكنها أكثر أهمية عند العرب، لأنها معجزتهم التي تبدّت في القرآن، ولأنها لغة تمتلك ملايين المفردات، ولا يمكن تطويرها إلا بفهمها.

تطورت لغة الصحافة عمومًا، ونشأت لغة تسمى “الثالثة”، أو “البيضاء”، لكن هذا لا يعني الضرب في أساساتها بل تطويرها، وهي قادرة على ذلك.

وضع الباحثون شروطًا في اللغة الإعلامية المعاصرة، منها الوضوح، المعاصرة، الملاءمة، الاختصار، الاتساع، الجاذبية، القابلية للتطور، تلك اللغة بكل شروطها لا ينبغي أن تغير في المعنى، أو أن تكون عاجزة عن إيصال الرسالة.

اللغة عند الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين هي الفكر، والفكر هو اللغة، ولا وجود لأحدهما دون الآخر، وهي رسم وتصوير للوقائع في العالم الخارجي.

وقد فاضل مفكرون وفلاسفة عرب بين اللغة والرياضيات، وأسبقية كل منهما على الأخرى، وليس المقام هنا لإثبات الأسبقية، بل التأكيد على أننا، نحن البشر، نحتاج إلى اللغة لتفسير العلوم، ودون اللغة نحن غير قادرين على الوصول، فحتى البرمجيات التي لم نكن نعرفها قبل 50 عامًا أصبحت لها لغتها الخاصة، ودون تدوين لغة البرمجيات وتوحيدها وتداولها بشكل سليم لن تكون هناك فتوحات في عالم الذكاء الرقمي الصناعي.

لكل صحفي أسلوبه، لكن اللغة واحدة، واللغة هي شخصية الصحفي، وشخصية الوسيلة الإعلامية، لذلك فإن لكل وسيلة مرجعًا يسمى “كتاب الأسلوب” (Style Book)، يتم فيه تحديد عناصر أساسية لا تحيد عنها المؤسسة في موادها الصحفية، ابتداء من العناوين وانتهاء ببنية الخبر أو التقرير.

يعتقد كثير من الصحفيين، مع الانتشار غير المنضبط لإعلام وسائل التواصل الاجتماعي (Social media)، أن اللغة لم تعد ذات أهمية تُذكر، وأن إيصال الفكرة هو الأهم، فهناك من المؤثرين من يخرجون من شاشات الهواتف النقالة دون أن يقولوا حرفًا، فقط يعرضون أشكالهم الغريبة، أو أجسادهم وعضلاتهم، أو حتى مؤخراتهن بالنسبة للنساء، وهذا حكم غير صحيح، لأن وسائل التواصل تقدم إلى حدّ بعيد خلطة للفرجة والمتعة، لا رسالة للمعرفة ونقل الحقيقة.

ما تعرضه وسائل التواصل، اليوم، هو جديد تقنيًا، لكنه موجود منذ بدء الخليقة، وهؤلاء ليسوا صحفيين قطعًا، فالمهرج والحكواتي والساحر وملاعب القردة والأفاعي كانوا موجودين، ويحققون المتعة، وينجذب لهم الجمهور أكثر من المفكرين والفلاسفة والعلماء.

لا يمكن للصحفي أن يصل دون لغة سليمة، ولا يمكن أن يعتبر نفسه مهرّجًا أو رجل استعراض (Shaw)، فهو ناقل أمين وحصيف للوقائع، وضعفه في اللغة يعني عدم اكتماله مهنيًّا.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي