يصادف اليوم الذكرى الـ60 لما يُعرف بـ”ثورة الثامن من آذار”، وهي حركة نفذها ضباط ينتمون لحزب “البعث العربي الاشتراكي” من أجل السيطرة على الحكم في سوريا عام 1963.
الحركة الانقلابية ترسّخت في عقول السوريين على مدار سنوات حكم “البعث” في سوريا، على أنها “ثورة” أصلحت ما كان فاسدًا في البلاد.
ولم تتردد مؤسسات حزب “البعث” المهيمنة على جميع النشاطات العلنية في سوريا بإقامة احتفالات، وندوات ثقافية، وعطل رسمية في هذا اليوم.
ثورة لا ثوار فيها
“ثورة الثامن من آذار” هو الاسم الرسمي الذي يطلق على انقلاب حزب “البعث” في 8 من آذار عام 1963 ضد الرئيس السوري ناظم القدسي وحكومته المنتخَبة برئاسة خالد العظم، عقب انفصال “حكومة الوحدة” بين سوريا ومصر.
ومن نتائج الانقلاب إلغاء الحرية السياسية والاقتصادية، وقيام دولة الحزب الواحد في سوريا، وإنفاذ “قانون الطوارئ” منذ عام 1963، الذي أوقف العمل به بعيد اندلاع الثورة السورية عام 2011.
كما فرض الانقلاب تبني شعارات البعث وسياسته، كشعارات عامة للدولة السورية.
وكمثال عن الصورة التي حاولت مؤسسات “البعث” عبرها الترويج لهذا اليوم على أنه “ثورة”، أصدر “مجلس الشعب” في حكومة النظام اليوم، الأربعاء 8 من آذار، بيانًا أكد خلاله أن “ثورة الثامن من آذار المجيدة التي فجرتها قواعد حزب (البعث العربي الاشتراكي)، أظهرت القوة الكامنة لدى جماهير الشعب السوري في التعبير عن آماله وتطلعاته المنشودة في بناء الدولة القادرة على صياغة القوانين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعكس إرثها الحضاري والتاريخي والإنساني، وتتناسب مع تطلعات الشعب”.
في حين رسخ هذا اليوم في سياقه التاريخي انقلابًا عسكريًا لمجموعة عُرفت لاحقًا باسم “اللجنة العسكرية”، ضمّت ضباطًا سوريين كانوا يؤدون خدمتهم العسكرية في مصر خلال فترة دولة الوحدة.
وكان عماد هذه اللجنة خمسة ضباط سوريين هم محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وأحمد المير، وعبد الكريم الجندي، كما أُطلق، شعبيًا، على هذه “اللجنة” عقب توليها زمام الحكم في سوريا اسم “حكومة عدس” ذات الطابع الأمني العسكري، في إشارة إلى طابع طائفي (علوي، درزي، إسماعيلي).
وعقب تولي “البعث” السلطة دون انتخابات، لم يحقق الوحدة مع مصر، علمًا أن مؤيدي “البعث” اعتبروا سابقًا أن الانقلاب جاء “ردًا على جريمة الانفصال عن مصر التي حدثت في 28 من أيلول عام 1961”.
وفي عام 1966، حدث انقلاب ثانٍ داخل قيادة الحزب نفسه، أقصى ميشيل عفلق مؤسس حزب “البعث”، ورئيس الجمهورية، أمين الحافظ، وعيّن صلاح جديد بدلًا منه.
ولم تتوقف الانقلابات الداخلية عند هذه النقطة، بل تطورت عندما خسرت سوريا الجولان في حرب عام 1967 مع إسرائيل، وتفاقمت انشقاقات وخلافات الحزب الداخلية مفجرة انقلابًا ثالثًا داخل الحزب عُرف باسم “الحركة التصحيحية” بقيادة حافظ الأسد الذي عيّن أحمد الحسن الخطيب رئيسًا لفترة انتقالية، ثم أجرى استفتاء على شخصه، وأصبح بموجبه رئيسًا للجمهورية، بعد أن أقصى سابقيه.
بداية الحكم الأمني
بحسب مقال رأي نشره الباحث في مركز “عمران” للدراسات، محسن مصطفى، حول انقلاب “البعث” في سوريا، فإن اليوم الثاني للانقلاب تبعه تعيين القائد العام للجيش والقوات المسلحة نائبًا للحاكم العرفي في جميع أنحاء الجمهورية العربية السورية.
وحملت الأيام والسنوات والعقود التي تلتها تدخل حزب “البعث” بالأمور السيادية للدولة، وفق رغبات القيادة القطرية للحزب، وأسست ما يطلق عليها “ثورة” لأحداث تاريخية أوصلت بمجموعها سوريا إلى الحالة الراهنة التي تعيشها اليوم.
وكأولى نتائج الانقلاب التي انعكست على الساحة السورية، تغوّلت الأقليات الطائفية السورية في مفاصل الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، خصوصًا أن “اللجنة العسكرية” كانت تتألف من عدد من الضباط بأغلبية للأقليات، والتي أسهمت بإقصاء عدد كبير من الضباط “غير البعثيين” المحسوبين على الأكثرية، واستبدال صف ضباط أو معلمين بهم، ما أدى إلى نكسة حزيران عام 1967، وخسارة الجولان السوري، إضافة إلى أن عقيدة الجيش السوري تحولت من مفهوم “الجيش الوطني” نحو مفهوم “الجيش العقائدي”، أي تحويل الجيش إلى مؤسسة تنتهج فكر حزب “البعث”، بحسب مصطفى.
وأصدرت المجموعة الانقلابية القانون التشريعي “رقم 37” في أيار من العام نفسه، الذي أمّم جميع المصارف العاملة في سوريا وحوّل ملكيتها إلى الدولة، ودمج المصارف جميعها عام 1966، وتحول عقب ذلك إلى خمسة مصارف، عقاري، تجاري، تسليف شعبي، صناعي، زراعي.
وخلصت مادة الرأي للباحث محسن مصطفى التي نشرها في ذكرى الانقلاب، إلى أن استيلاء “البعث” على السلطة، مثل “اللحظة التاريخية السوداء الأولى في تاريخ سوريا الحديث”.
سوريا قبل الانقلاب
كتب الباحث المتخصّص في قضايا الجماعات والتيارات والمدارس الفكرية الإسلامية محمد خير موسى، في مقال رأي عام 2020، أن رئيس سوريا قبل انقلاب “البعث” ناظم القدسي، كان أحد الذين صاغوا دستور 1950، وهو فعليًا “أفضل دستور مر على تاريخ سوريا”، إذ قلّص إلى حد كبير من صلاحيات رئيس الجمهورية، وزاد من صلاحيات البرلمان، ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتًا، وعزز سلطة القضاء واستقلاله.
كما كفل حرية الرأي والتعبير والإعلام والصحافة، ومنح الحرية الواسعة للاجتماع والتظاهر، وأوجب المحاكمة العادلة، ومنع الاعتقال التعسفي، والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة، كما حفظ حق الملكية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية، لكن هذا الدستور تعطل العمل به بسبب الانقلابات العسكرية.
أعاد القدسي العمل بهذا الدستور بعد توليه الرئاسة عقب انهيار الوحدة مع مصر، وبقي “حارسًا له” ورافضًا أي تلاعب به، ولو كان لمصلحة تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، إلى أن وقع انقلاب “البعث” في 8 من آذار عام 1963، إذ ألغى الدستور وعطل الحياة الدستورية، وخنق الحريات، واعتُقل الرئيس، ناظم القدسي، ثم وُضع قيد الإقامة الجبرية ليطلق سراحه بعد مفاوضات طويلة، ويغادر إلى العاصمة الأردنية عمان ليموت فيها عام 1998.
وبالإطاحة بالرئيس ناظم القدسي، أسدل الانقلاب “البعثي” الستار على مسيرة آخر الرؤساء الشرعيين في تاريخ سوريا، بحسب موسى.
وبالنظر إلى الألقاب التي اكتسبتها سوريا خلال فترة حكم ناظم القدسي لها كـ”يابان الشرق“، يمكن التماس الفارق بين حكم الأمس واليوم، إذ كانت سوريا من أوائل الدول في الشرق الأوسط التي استخدم “الترام واي” كوسيلة نقل داخلي فيها.
وأُسست فيها أول مدرسة رقص “باليه” في العالم العربي، عام 1951، في منزل الوجيه مظفر البكري، إلى جانب أن دمشق كانت أول مدينة عربية افتتحت فيها بنوك وشركات وفنادق عالمية، وأول مدينة عربية سارت سيارة في شوارعها عام 1905، وأول مدينة عربية أُسس فيها برلمان، وافتُتحت فيها جامعة، بحسب مقال رأي نشره الكاتب السعودي مشعل السديري في صحيفة “الشرق الأوسط“.
–