التعامل مع الفقد والخسارة والحداد
صفوان قسام
كُتب على الحياة أن تحتوي على الفقد، منه ما يعزّ ومنه ما يهون، قد نفقد قريبًا أو حبيبًا أو صديقًا أو رفيقًا وزميلًا، وربما نخسر منزلًا أو عملًا أو رأس مال أو مكانًا ومكانة، وكلها أشكال قاسية من تجارب الحياة، تزداد شدة أو تضعف على الإنسان تبعًا لعوامل شخصية واجتماعية وثقافية وبيئية، فحوادث الفقد التي تصيب إنسانًا وحيدًا تختلف عنها عندما تكون ناتجة عن كارثة طبيعية تصيب مجتمعًا كاملًا! أو أن يكون الناجون نساء وأطفالًا خصوصًا إن فقدوا مصدرًا من مصادر الدعم لا يمكن تعويضه.
من المعتاد أن تخف ردود فعلنا على الفقد والخسارة بين الشهر والشهرين بعد الحادثة، لكن قد يمتد حزن البعض حتى نظنه اكتئابًا، وقد يعود في ذكرى الحادثة، وحتى نميز بين الحداد والاكتئاب، فإننا نستفسر عن موضوع الحزن: هل هو متمحور حول الفقد أو الخسارة؟ إن كان كذلك فهو حداد ممتد، وإن كان يشمل كل مناحي الحياة فعلينا استشارة اختصاصي نفسي.
إن طريقة الفقد أو الخسارة تلعب دورا مهمًا في شدتها، فالخسارة والفقد غير المتوقع والخاطف، يصيب الناس بالصدمة، وتترتب عليه مضاعفات لا نراها في الخسارة التدريجية والمتوقعة، وكذلك فإن الفقد الغامض له طابع آخر، كالذين قضوا في التفجيرات ولم يبقَ لهم أثر، أو من غيّبتهم السجون، أو في محاولتهم اللجوء برًا أو بحرًا وانقطعت أخبارهم، فدرجة البعد عن الفقيد لها خصوصيتها أيضًا، وكلها عوامل تزيد في شدة الحداد والحزن أو تخففها.
وقد وضعت الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس مخططًا لمراحل الحداد، تبدأ من لحظة التعرض للفقد، حين “ينكر” الشخص الحادثة، وينفيها، ويكذب الخبر أو ما يجري، ثم تأتي مرحلة “الغضب”، والثوران على ما جرى، وفي هذه المرحلة يبدأ الفرد بمراجعة وتقييم المرحلة السابقة في ضوء سلوكه، وبغضبه هذا يثبت الشخص أن ما حدث قد حدث ولا داعي لمزيد من الإنكار، وهنا يدخل في مرحلة بين الإنكار والغضب، وهي مرحلة “المساومة”، فيناجي الله أو الأنبياء والصالحين مثلًا لتفادي الخسارة أو التخفيف منها، وبعدها يكون قد دخل في مرحلة من “الكمود”، التي تسمى مجازًا “الاكتئاب”، فيبكي ويعتزل الناس وما يحب، ويمتنع عن الطعام وربما زادت ساعات النوم وربما اضطربت، وقد يبالغ في التدخين أو شرب الكحول أو “القنبيات”. من المفيد ترك المرء هنا يمارس طقوس حداده في البكاء والبقاء وحيدًا أو اعتزال الناس والامتناع عن الطعام لفترة، ومن المهم البقاء حوله لتلبية احتياجاته وعرضها عليه حتى يشعر بوجود الدعم من حوله، ومن الضروري تنبيهه إن أكثر وأسرف في التدخين ومنعه عن الأمور المضرة، ولا ينصح بمحاولة إبهاجه هنا، المهم أن هذه المرحلة ضرورية لاستعادة توازنه وتكيفه وانتقاله إلى المرحلة الخامسة وهي “التقبل”، ليخف شعوره بالألم، ويبدأ بالتصالح مع الأمر وحقيقة أن ما حدث قد حدث، ويبدأ بالعودة إلى حياته شيئًا فشيئًا، وهذه هي نهاية الصراع مع الفقد.
تختلف مدة هذه المراحل بين إنسان وآخر وربما لا يمر ببعضها، وذلك يتوقف على العوامل التي ذكرناها سابقًا، ونضيف إليها أن ظروف الفقد تلعب دورًا كبيرًا في ذلك، فالوفاة بشكل صادم كالانفجار أو القتل، ووفاة أكثر من شخص معًا، عوامل مؤثرة أيضًا.
ومن المؤشرات التي تدل على تقبل الأمر والتكيف معه، أن من فقدوا منازلهم يبدؤون بجمع ما تبقى من ممتلكاتهم، ويلجؤون إلى الشعائر الدينية ودفن موتاهم، أو البحث عن المفقودين، وإصلاح ما تضرر، ووضع الخطط للمضي قدمًا، والتفكير بالأمر لأخذ العبرة والاستفادة منه، ومنهم من يطلب المساعدة أو يبدأ هو في تقديمها، لكن البعض يبدأ بلوم نفسه أو لوم الآخرين، لأنه نجا والبقية ماتوا، وهذا النوع من التفكير غير صحيح، وهو شائع في مثل هذه الظروف ويسمى “متلازمة الناجي”، وهناك من يعتقد أن هذه المصيبة لن تنتهي، وهو أيضًا تفكير شائع وخاطئ.
يُنصح عند تقديم الدعم والعزاء للفاقدين، أن نعزيهم بداية ونسأل بطريقة لطيفة عن أحوال بقية أفراد الأسرة الأحياء، وبعدها يتم الحديث عن الفقيد بشكل تدريجي، ويجب أن نشجعهم على التحدث عن فقيدهم لأن هذا يساعدهم على التعبير عن الحزن والتخلص منه، من خلال السؤال عن معلومات حول الفقيد كعمره ومكانته وإنجازاته ودوره وعلاقته في العائلة والطريقة التي توفي بها.
ثم نطلب التعرف إلى علاقة الفاقد بالمفقود، وقوة تلك العلاقة وأثر الفقد عليه شخصيًا، ويجب أن نستفهم حول وجود لوم للذات (متلازمة الناجي)، وتصويب هذه النقطة، ويمكن أن نحث الفاقد على التواصل مع أصدقاء الفقيد ومعارفه أو ممن رافقوه في لحظاته الأخيرة حيًا أو ميتًا، ويمكن أن نشجعه أيضًا على القيام بطقوس جماعية، كزيارة القبر أو مكان الحادثة، فذلك يساعد على التعبير عن الحزن والتخفيف منه، مع تقبل انفعالاته والتعاطف معها دون أن نضغط عليه أو نشعره بالتطفل، أو أن نطلب منه التوقف عن البكاء والتصبر وتمالك نفسه، ظنًا أنه أمر إيجابي، وهذا غير صحيح.
تجنب قول العبارات التالية: “الزمن بينسيك جروحك، بتهون، طول بالك، معليش…”، وغيرها من العبارات الشعبية التي لا تساعد على تجاوز الحزن، وأيضًا تجنب مقارنة طريقة حزن الفاقد مع غيره أو أن تطلب منه النظر إلى مصائب الناس الآخرين ووضع نفسه معهم في نفس الكفة، كقول “متلك متل غيرك”، لأنه يتضمن شيئًا من المقارنة.
لا تشجعه على اتخاذ قرارات مصيرية في حياته، ولا تعتقد أن التعويض بشخص آخر كالدعاء للأم بإنجاب طفل آخر بدلًا من الذي توفي أمر فيه مواساة.
إن طالت فترة الحداد لما يزيد على الشهر، يمكن طلب استشارة من اختصاصي نفسي، ويمكن أيضًا اتباع الاستراتيجيات التالية التي قد تساعد على التكيف النفسي:
يمكن القيام بالتمارين الجسدية، كالمشي لنصف ساعة خمس مرات في الأسبوع، والقيام بتمارين الاسترخاء، والتقليل من التدخين والكافيين أو المواد الضارة التي قد تسبب الإدمان، والنوم بشكل كافٍ، وتناول الموز أو الحليب قبل النوم ليساعد على الاسترخاء، وتناول الغذاء المتوازن والصحي.
شارك الآخرين في نشاطات جماعية، ولا تعزل نفسك عن الأشخاص الذين تحبهم، كن رحيمًا بنفسك وكافئها، إن كان لديك الكثير من العمل، ضع هدفًا واحدًا وابدأ بالأسهل، وفوّض بعض المهام واطلب الاستراحة والمساعدة.
اكتب يومياتك، وضمّنها مشاعرك وأفكارك التي لا تريد أن تخبر أحدًا بها، تواصل مع أصدقائك وعائلتك وزملائك، واسمح لنفسك بالبكاء إن أردت، أيضًا يمكن للابتسام والضحك مساعدتك على الشعور بالتحسن، شاهد فيلمًا مضحكا، أو اقرأ شيئًا مسليًا، صلِّ أو مارس طقوسًا روحية تساعدك على الاسترخاء، وتكلم مع من يشاركونك معتقداتك وقيمك أو اقرأ لهم، ذكّر نفسك أن هذا الوقت سيمضي، وبما بقي لديك من أشياء وأشخاص تمتن لوجودهم، وإن كانت لديك أفكار لإيذاء نفسك أو الآخرين عليك استشارة طبيب نفسي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :