خطيب بدلة
التصقت صفة “التقية”، منذ قديم الأزمان، بالشيعة، وهي تعني أن يقول الإنسان شيئًا وهو غير مقتنع به، درءًا لغضب شخص، أو جماعة تستطيع إيذاءه. حصرُها بالشيعة يعني أن أهل السنة والجماعة، وأبناء المذاهب الأخرى، بريئون منها.
سأحكي لكم حكاية، وأترك لحضراتكم أن تلتقطوا مغزاها. قبل سنة 2011، كنا نذهب، أنا وصديقي القاص تاج الدين الموسى، إلى ملعب كرة القدم بإدلب، ونحضر مباريات فريق أمية، وكان ذلك أمرًا ممتعًا، لا سيما في الربيع، حيث الشمس ساطعة، والهواء عليل، وكنت ألاحظ أمرًا غريبًا لدى جمهور أمية، وهو أنه يتمنى، في قرارة نفسه، أن يكون حَكَم المباراة رؤوفًا بلاعبي أمية، وفي الوقت ذاته عصبيًا، نزقًا، تجاه لاعبي الفريق الآخر! وسرعان ما كان يتحول هذا التمني إلى قناعة تقارب اليقين، بأنه سيفعل هذا، فإذا رفع بطاقة صفراء في وجه لاعب من الفريق الآخر، وأعطى لأمية ضربة حرة، يحيونه، وكل اثنين من الجمهور يتفقان على أن الحكم، اليوم، “توفيقة” من عند الله. ولكن، عندما يصفر، محتسبًا خطأ على أحد لاعبينا، أو يرفع له بطاقة صفراء أو حمراء، تنطلق حناجر خمسة آلاف متفرج بأنشودة تتألف من مقطع واحد، يرددها الجميع بصوت واحد، كما لو أنهم تدربوا عليها عشرات المرات، تقول بالحرف: (…) أختك يا حَكَم.. وتنتهي الأنشودة، غالبًا، بصفقة ثلاثية منغمة، تتناوب مع جملة من كلمتين هما: الحكم عرصا.
عناصر حفظ النظام المكلفون بمنع مثل هذه المشاغبات، وأظن أن معظمهم مسلمون سنة، عندهم نوع من التقية، فهم، هنا، يخشون من غضب هذا الجمهور المسلح بالحجارة، والقناني الفارغة، والأكياس الورقية التي يصعب التكهن بمحتواها، فيبقون جالسين تحت سقوف المدرجات، وأما حين يقع بين أيديهم معتقل، في أثناء دوامهم بالقسم، فإنهم لا يتركون نوعًا من الضرب، والبصاق، والمسبات والتحاشيك، إلا ويمارسونه عليه، حتى إن بعضهم يتفنن، أحيانًا، باختراع وسيلة إهانة جديدة، مثلما جرى، ذات مرة، في أحد الأقسام، عندما أنهى أحد العناصر كل فصول الضرب والاستهزاء بالمواطن المعتقل، قال له: تعال آخذْ لك صورة تذكارية. وناوله مشطًا، وقال له: مشط شعرك وشاربيك، الآن انظر إلى الكاميرا جيدًا، لا ترفرف عينيك في أثناء التصوير، وأنزل بنطاله، وأدار عليه مؤخرته، وصار يعد: واحد، اثنان، ثلاثة، ومع قوله “ثلاثة” ضرط!
المهم، بعد مرور دقيقتين أو ثلاث على غضب الجمهور، يتقدم الضابط، قائد المجموعة، بضع خطوات إلى الأمام، ويلتفت نحو الجمهور، معطيًا إياهم إشارات تعني أن الأمر زاد على حده يا شباب، وهم، في هذه الحالة، يشعرون بالخوف من وقوع مواجهة مع الشرطة، أو تلقي إنذار من الحكم العرصا، فينطلقون، جميعًا، بالأنشودة الختامية، وهي: بالروح، بالدم، نفديك يا بشار، ووقتها، حتى الحكم الذي سُبي عِرضُ أخته المسكينة بالتحاشيك، لا يعود قادرًا على معاقبة الجمهور، أو حتى اللاعبين، خوفًا من سلطة بشار الأسد الذي احتموا به.
في ظل الأنظمة السياسية الدكتاتورية، والجماعات الإسلامية، كل الناس عندهم تقية. أنا، شخصيًا، ياما مارستها.