علي عيد
يتساءل كثيرون عن حقيقة المعلومات المسربة عن المنطقة، التي باتت تعتمدها حتى وكالات أنباء عالمية، مثل “رويترز” ووكالة الأنباء الفرنسية، ومنها ما يتعلق بتحوّلات سياسية، مثال ذلك تلك التسريبات عن الانفتاح السعودي على دمشق، أو هوية شخصيات إيرانية مستهدفة في قصف إسرائيلي على العاصمة السورية.
ويزداد اهتمام الجمهور بالأخبار المسربة طردًا مع اعتماد سياسة التكتم الرسمي، وهي سياسة معروفة في دول تحكمها القبضة الأمنية أو أيديولوجيا الحزب لا صناديق الاقتراع الشفافة، إذ يسهم حجب المعلومات في ازدهار الشائعات والتكهّنات.
زمن الصحافة الورقية، كان القراء، وحتى سياسيون وقادة ومراقبون، ينتظرون بشغف ما تسربه الجرائد في زوايا كتّاب، أو تحليلات، وحتى “مانشيتات” عريضة تشير إلى معلومات خاصة، غالبًا لا يُعرف مصدرها، لكنها تشكّل تنبيهًا أو اختبارًا لحدث مقبل.
بين 1990 و2010، أذكر أن مجتمع الباحثين عن المعلومة السياسية كانوا ينتظرون ما تقوله زاوية “أسرار الآلهة” في بضع كلمات، أو مقالات الرأي في صحيفة “النهار”، ومثلها في “الحياة” و”الشرق الأوسط” و”النهار” و”السفير” وغيرها من وسائل الإعلام البارزة، وكانت المعلومات شحيحة في شرق أوسط ملتهب.
عندما يستعصي تمرير السياسات بطريقة ديمقراطية، تلجأ دبلوماسية الدول إلى التسريب، ومعظم ما يتم تسريبه يظهر لاحقًا على أنه حقائق جرى نفيها على لسان ناطقين رسميين يمثّلون الجهات التي تسرب تلك الأخبار.
تلعب الصحافة دورًا مهمًا في صناعة السياسات الرسمية بالدول المغلقة، وتُستخدم في النزاعات والحروب لإطلاق بالونات اختبار تقيس موقف الرأي العام.
في القضايا السياسية، تصبح تسريبات الصحافة ملجأ الجمهور والحكومات في حالات ما يسمى دبلوماسية الأبواب المغلقة (Close Door Diplomacy) أو الدبلوماسية السرية (Secret diplomacy)، وهنا يجد الصحفي نفسه أمام تحدٍّ بالغ يتعلق بقدرته وأدائه في الملف الذي يتعاطى معه، ويبدأ باستثمار شبكة علاقاته لاختراق ما يجري خلف الأبواب المغلقة أو في الغرف السرية، وقد يكلفه هذا التعرض لمضايقات تصل حدّ التهديد أو السجن، وقد يصل الأمر حدّ مضايقة الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية التي يعمل لمصلحتها وتهديدها بالإغلاق، في حال لم تتلاقَ مصالح الصحفي والوسيلة المتمثلة بنقل الوقائع مع مصالح الجهات الرسمية.
وجرى مثل هذا في أيلول 1969، عندما سربت “النهار” اللبنانية بنود اتفاق القاهرة السري بين ياسر عرفات ورئيس الجيش اللبناني، حول إعادة تنظيم عمل المقاومة الفلسطينية في جنوبي لبنان، وجرى إثر ذلك القبض على رئيس التحرير، الراحل غسان تويني، الذي رفض الكشف عن مصادره، وبقي سجينًا ثلاثة أشهر.
عندما تتلاقى المصلحة الرسمية مع دأب الصحافة، تخرج تسريبات حول قضايا بالغة الأهمية، تشير تارة إلى صفقات وتسويات سياسية كبرى، وتارة إلى قوائم تصفيات أو صيد ثمين.
من نماذج الصحفيين الذين لعبوا دورًا في نقل المعلومات عن دوائر صنع القرار في الشرق الأوسط، الأمريكي توماس فريدمان، إذ استفاد من تخصصه في تغطية نشاط وزير الخارجية جيمس بيكر في أثناء ولاية الرئيس جورج دبليو بوش، وعمله مراسلًا في البيت الأبيض لمصلحة صحيفة “نيويورك تايمز” في عهد الرئيس كلينتون.
تُعرف التسريبات على أنها وسيلة قد تستخدمها سلطة سياسية أو اقتصادية لأهداف نبيلة أو شريرة، في الوقت الذي تُستخدم فيه الصحافة أداة لتنبيه الرأي العام حيال فساد تشارك فيه السلطة، كما حصل في “ووترغيت” (Watergate)، التي نشرت تفاصيلها “واشنطن بوست” في حزيران 1972، وفجرها الصحفيان الشابان بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين، وتسببت باستقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون.
كما تُستخدم أيضًا لتدمير كيانات أو أفراد بعينهم، ضمن دوامة صراع مستمر على السلطة والسيطرة.
وتتعدد المصادر التي يستند إليها الصحفيون في تسريباتهم بين جهات رسمية أو دوائر استخبارات أو حتى عبر بحثهم الخاص، كما حصل في تسريبات وثائق بنما (Panama Papers) التي أسهم فيها عشرات الصحفيين.
التسريب الصحفي ليس كذبة، بل هو أحيانًا عين الحقيقة، وأذكر أن المراسلين الصحفيين المعتمدين في دمشق احتجوا لدى وزير الخارجية السوري الأسبق، فاروق الشرع، لعدم وجود موقف رسمي معلَن حيال ما يدور في أروقة الحكم بعد فترة من غزو العراق عام 2003، وصحّة التهديدات وما يتسرب حولها من الخارج، وكانت الدبابات الأمريكية على الحدود مع سوريا، إذ أجاب خلال لقائه بهم أن 80% من الحقيقة تقرؤونها في الصحافة.
كان غريبًا أن يقول الشرع ما قاله، لكنه أراد تأكيد صحة التسريبات حيال الشروط الأمريكية والوضع السياسي والأمني المضطرب، ولم يجد طريقة ليؤكد ما يشاع، سوى أن يطلب من الصحفيين الاطلاع وتصديق ما تقوله الصحافة، ولا شك بأن هناك واحدًا أو أكثر بين عشرات الصحفيين المجتمعين في مدرج المركز الثقافي في المزة، كان ضمن ماكينة التسريبات، وقتها، وكان قادرًا على الوصول سواء بعلاقاته أو باتفاق مصالح أحد طرفيه دوائر صنع القرار في الخارجية والاستخبارات.
تطور أسلوب تسريب المعلومات مع تطور تكنولوجيا الاتصال، إذ بات “الذباب الإلكتروني” على “تويتر”، وحتى الحسابات الوهمية على التطبيقات المختلفة، وسيلة للتسريب أو بث الشائعة، لكن مسألة تسريب المعلومات عالية الأهمية لا تزال بأغلبيتها من حصة الصحافة ووسائل الإعلام العريقة والمعروفة، طالما أن هناك وكالات كبرى لا تمثل مصالح حزب أو حكومة، وتضع معايير تمكنها من حمل صفة مزوّد موثوق للأخبار، حتى ولو لم تتحقق معادلة الحيادية مئة بالمئة، وسيبقى الأمر كذلك طالما أن ذلك الإعلام يطور قدرته للوصول، ويشكّل جزءًا من آليات التأثير في الرأي العام.. وللحديث بقية.