الحسكة – مجد السالم
يعاني سكان الحسكة، شمال شرقي سوريا، خصوصًا ذوي الدخل المحدود والعاملين بأجور يومية فضلًا عن العاطلين عن العمل، ارتفاع أسعار الفحوصات الطبية، في ظل تردي الوضع المعيشي والانخفاض المستمر في قيمة الليرة السورية أمام الدولار.
ومع غياب البدائل، يهمل بعض سكان المنطقة أمراضهم وآلامهم، أو يؤجلون علاجها ريثما تتوفر الحلول.
وتعتبر بعض مدن وقرى محافظة الحسكة خارج المناطق التي تغطيها المنظمات الإنسانية والطبية، بينما يقتصر نشاط بعض هذه المنظمات على أنواع من الأدوية، وخدمات طبية بسيطة.
تأجيل العلاج
يعاني علي المخلف (55 عامًا) من سكان القامشلي، آلامًا في الظهر، ويحتاج إلى عمل جراحي في العمود الفقري، لكن تكلفة العملية التي تصل إلى ملايين الليرات السورية، تدفعه إلى تحمّل آلامه ريثما يجد حلًا لها.
علي قال لعنب بلدي، إن معاينة الطبيب المختص المشرف على حالته أصبحت 25 ألف ليرة سورية، لذلك أوقف المراجعة الدورية، وصار يعتمد كليًا على المسكنات لتخفيف آلامه مؤقتًا، على الرغم من خطورة الإفراط في استخدامها، بحسب ما قاله له الطبيب.
لا يوجد عمل معيّن يحقق دخلًا “جيدًا” لعلي وعائلته سوى قطعة أرض صغيرة يعمل بها منذ عامين، لكنه لم يجنِ منها شيئًا جراء الجفاف الذي يضرب المنطقة منذ سنوات.
وأضاف أنه لم يعد يسأل عن سمعة الطبيب ومهارته وخبرته، فما يهم الآن هو سعر المعاينة الطبية.
ارتفاع الأسعار المستمر كان له أثر سلبي على حياة حسين العلي (35 عامًا)، وهو من أبناء مدينة القامشلي، إذ قال لعنب بلدي، إن ارتفاع أسعار المعاينات الطبية جعله و”كثيرين مثله” لا يراجعون الأطباء إلا في حالات الضرورة القصوى.
ويتحمل حسين نوبات ارتفاع درجات الحرارة، أو الحُمى، أو آلام الأسنان والمفاصل، ويعتمد على مناعته الطبيعية لعجزه عن مراجعة الطبيب.
يعمل حسين في أحد معامل “البلوك”، ما يسبب له تعبًا وإرهاقًا شديدين، وآلامًا في المفاصل والظهر، نتيجة الجهد الذي يتطلبه هذا النوع من العمل.
ومع تراكم الإرهاق في جسد حسين، صار بحاجة لإجراء بعض صور الأشعة، لتفقد بعض عظام جسده التي تؤلمه، لكنه عاجز عن إجرائها، لارتفاع تكاليفها.
ما وضع الخدمات الطبية؟
كأحد الحلول البديلة بالنسبة لحسين، لتجنب الآلام والتكاليف، يلجأ أحيانًا إلى الصيدلاني الذي تحول إلى “طبيبه الخاص” لوصف الدواء المناسب له، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
وعلى الرغم من وجود مثل هذه الخدمات الطبية في المستشفى “الوطني” بالقامشلي، ضمن مناطق نفوذ النظام السوري، وتكلفته شبه المجانية، يرفض مراجعته خوفًا من تعرضه للاعتقال، لكونه متخلّفًا عن الخدمة العسكرية الاحتياطية.
“وقوع المستشفى (الوطني) بمناطق نفوذ النظام في القامشلي يحرم المدنيين من مراجعته، خصوصًا فئة الشباب ضمن سن الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، أو الاحتياطية”، أضاف حسين.
ولا يتعلق الأمر بالمرضى فقط، بل بذويهم ومرافقيهم أيضًا، كالموقف الذي رواه سمير الحواس (46 عامًا)، إذ يعاني والده فشلًا كلويًا يستوجب إجراء غسل للكلى مرتين في الأسبوع.
سمير قال لعنب بلدي، إنه يقلق كثيرًا عندما يرافق والده للمستشفى، ويبقى متوترًا طوال الساعات الأربع اللازمة للغسل في المستشفى “الوطني”، ما دفعه للبحث مؤخرًا عن مركز بديل ضمن مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية”، حتى لو كان بعيدًا عن مكان إقامته.
بحسب ما رصدته عنب بلدي، فإن هناك حالة من عدم التنظيم بأسعار المعاينات الطبية، إذ تتراوح بين 15 ألفًا و25 ألف ليرة سورية، في حين تختلف أسعار العمليات الجراحية، حسب نوع العملية والتقدير الشخصي للطبيب ومدى مراعاته لحالة المريض المادية.
عمليات الولادة القيصرية مثلًا، بلغت تكلفتها نحو مليون ليرة سورية، بينما يدفع السكان لعملية استئصال الزائدة الدودية نحو 800 ألف ليرة سورية، وبين 600 ألف و900 ألف ليرة سورية مقابل استئصال المرارة.
ما ذنب الطبيب؟
قابلت عنب بلدي الطبيب عبد الله، وهو اختصاصي في الأمراض الداخلية، إذ أكد أن ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية، بما في ذلك الفحوصات المخبرية والأشعة وأدوات التشخيص الأخرى، يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الخدمات بما فيها المعاينة، وهي حق الطبيب الذي يعاني كغيره غلاء المعيشة.
في الوقت نفسه، يواجه بعض الأطباء صعوبة في “الحفاظ على مستوى معيشة لائق”، بحسب عبد الله، إذ يدفعون ضرائب كثيرة وباهظة لـ“الإدارة الذاتية”.
وحتى الرسوم التي تُقتطع من أجور الأطباء من قبل سطات المنطقة، تبلغ “عدة ملايين” بحجة أنهم من ذوي الدخل المرتفع.
الطبيب أضاف أن هذه الضرائب والمطالبات المستمرة للأطباء بتخفيض الأجور “وكأنهم المسؤولون”، دفعت شريحة منهم للسفر باتجاه أوروبا.
“أطباء بلا حدود” تعلّق
تعتبر محافظة الحسكة من المناطق التي شهدت على مدار السنوات الماضية نشاطًا للمنظمات المعنية بتقديم الخدمات الطبية، إلا أن هذه الخدمات قلّت تدريجيًا مع مرور الوقت.
فيما يتعلق بتراجع الخدمات الطبية في المحافظة، تواصلت عنب بلدي مع منظمة “أطباء بلا حدود” النشطة في المنطقة، وذكرت أن المنظمة لا تمثّل بديلًا عن المرافق والسلطات الصحية في البلدان التي تتدخل فيها.
وتحاول المنظمة من خلال نشاطها سد فجوة الاحتياجات الطبية والإنسانية، وعندما تُلبى هذه الاحتياجات، تُسلّم المسؤولية للمؤسسات الصحية المحلية، وتقدم الدعم للسكان الآخرين المحتاجين.
“أطباء بلا حدود” تأخذ بعين الاعتبار عددًا من العوامل المختلفة عند تحديد مكان التدخل، يتضمن ذلك البحث في الأماكن التي تكون فيها الاحتياجات أكبر، ويُسمح الوصول إليها.
في حين تراقب فرق المنظمة باستمرار الوضع الإنساني في شمال شرقي سوريا بحثًا عن الاحتياجات الطارئة، وكجزء من ذلك، أجرت مؤخرًا استجابات لحالات الطوارئ في الرقة، نتيجة تفشي “الكوليرا” و”الإنفلونزا”.
كما شمل النشاط الاستجابة لمرض “الكوليرا” في محافظة الحسكة أيضًا.
حلول غير كافية
عام 2011، افتتحت “الإدارة الذاتية” ما يُعرف باسم “عيادات الشعب”، وتصل قيمة المعاينة الطبية فيها إلى خمسة آلاف ليرة سورية.
وبحسب وكالة أنباء “هاوار” المقربة من “الإدارة”، فإن الاختصاصات المتوفرة في العيادات هي: الداخلية، النسائية، العصبية، الأطفال، الأذن والأنف والحنجرة، وأقسام الكلية والبولية والعظمية والجراحة العامة، بالإضافة إلى العيادة السنية، وقسم المخبر والتصوير الشعاعي والصيدلية، بطاقم مؤلف من 54 بين أطباء وإداريين وفنيين.
وبحسب “هاوار”، تقدم صيدليتها الأدوية بسعر أقل من الصيدليات بنسبة تصل إلى 10- 20%، وخدمة “الإيكو” أقل بنسبة 60%، والتحاليل 30%، والأشعة 50%.
عماد، هو طبيب عيون في محافظة الحسكة، قال لعنب بلدي، إن عدم تعميم “تجربة العيادات” على جميع المناطق، يحول دون استفادة الجميع منها، كما أن “أغلب” الأطباء لا يستمرون في “المساهمة” فيها بسبب المماطلة في دفع مستحقاتهم.
وإلى جانب ارتفاع أسعار المعاينات، يعاني السكان غلاء الأدوية وانقطاع بعضها، وضعف الخدمات الطبية المقدمة من قبل الجمعيات والمنظمات الدولية، وارتفاع تكاليف المستشفيات الخاصة.