عنب بلدي – جنى العيسى
استجابة القطاع الطبي في شمال غربي سوريا لكارثة الزلزال، وسط ضعف إمكانياته، وتجاوز أعداد الإصابات أضعاف حجم الاستيعاب المعتاد، فتحت باب التساؤلات حول الآثار الطبية على المصابين أنفسهم، نتيجة العمل وفق خطة استجابة طارئة، تفرض استخدام الحد الأدنى من المعدات الطبية الممكنة لضمان سلامة المريض، بسبب غياب رفاهية إتمام العمليات الجراحية كما يجب أكاديميًا.
تجاوز عدد المصابين 12 ألف شخص خلال فترة قصيرة تقارب الأيام الخمسة الأولى على وقوع الزلزال، وفرض نقص المعدات “تقنينًا” في خطة علاج بعض المصابين من الصادات الحيوية أو الأدوية العلاجية الأخرى كالسوائل الوريدية (السيرومات) مثلًا، الأمر الذي قد يترك آثارًا مستقبلية على صحتهم أو مكان إصابتهم جراء الزلزال.
ونتيجة لتعدد درجات الإصابات، تعتبر آثار الاستجابة الطارئة على مصابي الزلزال متفاوتة أيضًا، إذ تعتمد هذه الآثار على شدة وحجم الإصابة، وحاجة المريض إلى المعدات العلاجية أو الجراحية.
إعاقة.. بتر.. وفاة
المتخصص بعلم الأوبئة وبناء الأنظمة الصحية في سياق الحروب والنزاعات، وعضو المجلس التنفيذي لـ”الشبكة السورية للصحة العامة”، الدكتور عبد الكريم اقزيّز، قال، إن النظام الصحي في الشمال السوري لم يكن على جاهزية لوصول أعداد كبيرة من المصابين بـ”الأذيات الهرسية” أو الكسور إلى منشآته، وبالتالي فإن عدد الأجهزة الطبية وحجم المستهلكات يعد قليلًا جدًا أمام هذه الأعداد.
كما تعطلت سلاسل توريد هذه المواد خلال الأيام الأولى للكارثة، إذ كانت تأتي في معظمها إلى المنطقة عبر المعابر الحدودية مع تركيا، فضلًا عن تضرر بعض المستودعات الطبية في الشمال جراء الزلزال، الأمر الذي أثر أيضًا على قدرة علاج المصابين، وأجبر الأطباء على تغيير الخطة العلاجية للمصاب، بالاعتماد على خطط أقل فعالية، فمثلًا بدل تثبيت الكسر بشكل جيد عبر صفائح، كان يثبت عبر جهاز تثبيت خارجي، بحسب ما أوضحه الدكتور عبد الكريم اقزيّز في حديث إلى عنب بلدي.
ووفق الطبيب، يؤثر تغيير الخطة العلاجية إلى خطط غير مثالية للتعامل مع نقص المعدات على الجسم، إما بشكل مباشر كأن تكون الأطراف المصابة معرضة للبتر، وإما تهدد حياة المريض على المدى الطويل.
وفي حالة “الأذيات الهرسية”، وحفاظًا على سلامة الأطراف، قد يضطر أحيانًا الطبيب هنا إلى بترها، أما في حالة تغيير خطط الكسور العظمية بشكل أساسي، فإن ذلك قد تنتج عنه إعاقات دائمة بسبب الاندمال المعيب، أو قد تحدث مشكلة أكبر تتمثل بالالتهابات العظمية، التي من الممكن أن يعانيها المريض لسنوات طويلة، أو قد تؤدي إلى التهابات معممة قد تودي بالحياة.
الاندمال المعيب، هو وصف للكسور المندملة مع توضع غير تشريحي لقطع الكسر، وقد يسبب التشوه هنا عجزًا وظيفيًا بغض النظر عن درجته بعدة طرق، منها سطح مفصلي غير طبيعي، أو دوران وتزوي قطع الكسر، أو تراكب القطع العظمية أو الضياع العظمي، بالإضافة إلى الحركة في المفاصل المجاورة.
وينتج الاندمال المعيب عادة عن رد غير دقيق للكسر، أو تثبيت غير فعال خلال مرحلة الشفاء. ويمكن أن يُحدث التشوه البسيط عجزًا خطيرًا عندما يكون الاندمال المعيب ضمن المفصل أو بجواره، كما يمكن أن يسبب التشوه الدوراني عجزًا شديدًا يتطلب غالبًا الجراحة لتدبيره. |
وأوضح اقزيّز أن النقص الموجود في أجهزة التثبيت، سواء في الجراحة العظمية أو العصبية، أدى إلى غياب قدرة الكوادر الطبية على التعامل مع الكسور المفتوحة و”الأذيات الهرسية” بشكل مناسب، وبالتالي فإن الكثير من هذه الإصابات ستسبب إعاقات دائمة لبعض المتضررين.
وأضاف اقزيّز أن غياب الأجهزة والمعدات المتخصصة، سواء في مرحلة البحث والإنقاذ، أو في القطاع الطبي بشمال غربي سوريا، أدى إلى خسارة الأرواح، إما عبر التأخر في انتشال المصابين من تحت الأنقاض، وإما بسبب عدم وجود المعدات والأجهزة الطبية الكافية لاستيعاب أعداد الإصابات الكبيرة نتيجة الزلزال.
ويحتاج جميع الناجين من تحت الأنقاض إلى أدوية ومستهلكات طبية يومية، كالسوائل الوريدية والمضادات الحيوية، إذ تعرض معظمهم لـ”إصابات هرسية” وجروح تستوجب منع التهابها عبر المضادات الحيوية، إلا أن عدم وجود كميات كافية من المضادات والمستهلكات الطبية حال دون الحفاظ على حياة بعضهم، ما أدى إلى وفاتهم، بحسب الطبيب.
ولفت الدكتور إلى أن غياب أجهزة ومعدات غسل الكلى أيضًا في الشمال عمومًا، أدى إلى وفاة عدد من الخارجين من تحت الأنقاض، بسبب حاجتهم إلى غسل الكلى نتيجة تعرضهم لفشل كلوي ناتج عن التجفاف الذي أصابهم جراء بقائهم تحت الأنقاض لأيام دون مياه أو سوائل.
وفيات تعددت أسبابها
تراجع دعم القطاع الطبي في شمال غربي سوريا قبل الزلزال، وصل إلى مستوى صعب، وسجل عجزًا بتزويد المستهلكات الأساسية للعمليات الإسعافية خاصة معدات الجراحة العظمية والعصبية، إذ كانت تعتمد المستشفيات قبل الزلزال على المريض نفسه في تأمين هذه المعدات، إما على حسابه الخاص وإما عبر كفالة إحدى “الجمعيات الخيرية”، بحسب ما قاله مدير مكاتب “الجمعية الطبية السورية الأمريكية” (SAMS) في حلب، المختص بالجراحة العامة، الدكتور أسامة أبو العز، في حديث إلى عنب بلدي.
وخلال الاستجابة للزلزال، استهلكت جميع المنشآت الصحية كامل مخزونها الاستراتيجي على قلته بشكل عام، ووصلت بعد الأيام الأولى للزلزال إلى عتبة حرجة من استنزاف الأدوية والمستهلكات.
كما تعاني جميع مستشفيات المنطقة محدودية عدد الأسرّة في العنايات المشددة والجراحية، ونتيجة احتياج كثير من مصابي الزلزال إلى هذه الأسرّة، أوضح الدكتور أسامة أبو العز، أن بعض المستشفيات اضطرت لوضع هؤلاء المرضى ضمن غرف عنايات مشددة من اختصاصات أخرى كالقلبية وغيرها، إلا أن نقص كفاءة الطاقم في هذا القسم، وعدم وجود الخبرة الكافية للتعامل مع أعراض المرضى، أدى إلى نتائج صعبة.
فمعظم المصابين بحالة حرجة مثلًا من رضوض الدماغ والعمود الفقري، يحتاجون إلى كادر مدرب ولديه خبرة كافية للتعامل مع هذا النوع مع الإصابات، وهو ما لم يكن متوفرًا نتيجة نقص أسرّة العناية المشددة في معظم المنشآت، وفق الدكتور.
ومن أكبر معوقات الاستجابة للمصابين جراء الزلزال، بحسب الطبيب أسامة أبو العز، غياب الأجهزة الطبية الاستقصائية المهمة، وأبرزها أجهزة الطبقي المحوري، فمثلًا ورد إلى أحد المستشفيات العاملة في المنطقة خلال الساعات الأولى للزلزال أكثر من 50 مريضًا تعرضوا لإصابات عصبية بالغة، ونتيجة لوجود جهاز تصوير طبقي محوري واحد فقط في المستشفى، يضطر المصابون للانتظار ضمن دور طويل.
ويعتقد الدكتور أن عددًا من مصابي الزلزال توفوا في أثناء انتظار دورهم للتصوير بجهاز الطبقي المحوري، نتيجة تعرض معظمهم لإصابات عصبية وعظمية معقدة، تستوجب أحيانًا متابعة أكثر من طبيب في آن واحد.
جهاز الطبقي المحوري (CT) هو جهاز فحص ماسح يعمل بحركة دائرية، مرتبط بجهاز حاسوب ذي أداء عالٍ يقوم بتحليل الصورة الشاملة، ويتيح التعرف على الضرر الذي قد يكون لحق بأعضاء الجسم، كما يكشف عن وجود آفات في أحد الأعضاء الداخلية.
ويتيح التصوير بهذا الجهاز رؤية المبنى التشريحي الدقيق لجسم المريض قبل إجراء العمليات الجراحية، أبرزها العصبية والعظمية. |
نفسيًا وطبيًا.. الاحتياجات تتراكم
خلال الفترة الحالية والمقبلة، تتعدد احتياجات مصابي الزلزال في شمال غربي سوريا، سواء ممن تعرضوا لأذيات صحية مباشرة، أو حتى نفسية.
يرى الدكتور عبد الكريم اقزيّز، والدكتور أسامة أبو العز، أن من أبرز احتياجات المصابين بشكل عام الدعم النفسي، في وقت يعد النظام الصحي في شمال غربي سوريا غير مجهز إطلاقًا من هذه الناحية، إذ يوجد في المنطقة ثلاثة أطباء نفسيين فقط، بينما يحتاج عشرات الآلاف من الناس وربما أكثر للدعم النفسي، نتيجة تعرضهم للجراحة أو الرض النفسي بسبب انتشالهم أو انتشال أقاربهم من تحت الأنقاض.
ويرى المختصون أن الاستجابة النفسية تتعلق أيضًا بتحسين ظروف المريض العامة، إذ لا يمكن دعم الشخص نفسيًا وهو في العراء، بمعنى أن المرحلة المقبلة تتطلب تحسين ظروف المعيشة من ناحية الملجأ والطعام وسبل المعيشة الدنيا التي تتيح للشخص إعادة إنشاء حياته من جديد، بالإضافة إلى الدعم النفسي.
كما يحتاج مصابو الزلزال أيضًا إلى المتابعة الطبية الفيزيائية، فمثلًا تحتاج “الأذيات الهرسية” إلى أكثر من شهرين لإجراء عمليات متتابعة للتخلص من النسيج الميت لمنع تموت الأجزاء الأخرى المحيطة به.
الدكتور أسامة أبو العز، أوضح أن أمر المرضى المصابين جراء الزلزال لا يتوقف عند علاجهم الأولي والإسعافي في المستشفيات، إنما يتطلب تقديم خدمات لاحقة تتمثل بمعالجة الاختلاطات الطبية التي قد تحدث لهم، خاصة العلاج الفيزيائي الذي شهد إهمالًا واضحًا في الدعم خلال الفترة الماضية نتيجة تراجع أعداد الإصابات الرضية الناتجة عن الحرب.
ويجب في هذه المرحلة إعادة الالتفات والانتباه لخدمة العلاج الفيزيائي بشكل يتناسب مع الحاجة الكبيرة بعد الإصابات البليغة نتيجة الزلزال، وتوفيرها بشكل يكون من السهل وصول المرضى لها بحسب المناطق والتجمعات السكنية الأكثر تضررًا، وداخل المخيمات، الأمر الذي يحتاج إلى تمويل مادي كبير بسبب ما تتطلبه من تجهيزات مكلفة.
ويجنّب العلاج الفيزيائي للمصابين العديد من الاختلاطات المهمة التي قد تصيبهم نتيجة تعرضهم لإصابات، منها تحدد الحركة أو الاندمال أو تكلس المفاصل وغيرها.
وفي 20 من شباط الحالي، قالت نائبة المندوب الأممي إلى سوريا، نجاة رشدي، إن التوقعات تشير إلى احتياج نحو 8.8 مليون شخص متأثر بالزلزال في سوريا إلى كل شكل من أشكال المساعدة الإنسانية.
وبحسب أرقام صادرة عن منظمة الصحة العالمية قبل أيام، تضررت نحو سبعة مستشفيات ونحو 145 مرفقًا صحيًا في سوريا جراء الزلزال، العديد منها في مناطق شمال غربي سوريا، التي دمرتها الحرب على مدى عقد من الزمن، وهي أكثر عرضة للصدمات.