ضحايا الصورة ومستثمروها

  • 2023/02/19
  • 11:48 ص
الصحفي السوري علي عيد

الصحفي السوري علي عيد

علي عيد

فرضت وسائل التواصل الاجتماعي (Social media) شروطها على القواعد المهنية والأخلاقية للإعلام، خصوصًا في مسألة الصورة الصادمة (Shocking photos) أو “البشعة”، وتراجعت أدبيات منع النشر التي كانت تلتزم فيها الصحافة التقليدية، على اعتبار أن هناك حقوقًا للضحايا والجمهور يجب احترامها.

أحدث الصور الصادمة، تلك التي أظهرت ضحايا زلزال تركيا- سوريا وأسرهم، لتمزج مشاهد الدمار بالدم والبكاء والصراخ، وتسببت بحالة من الفزع لدى الملايين من القاطنين في منطقة الزلزال، وحزن شديد وإحباط لدى ملايين آخرين بعيدين جغرافيًا، ووصل الأمر إلى تعزيز الشعور بعقدة الناجي (Survivor’s guilt).

ومنذ أول أيام الزلزال، تعمدت مؤسسات إعلامية عريقة نشر تلك الصور، ومنها شبكة “الجزيرة” وقنواتها، تبعتها وسائل إعلام أخرى عربية وأجنبية، ما أثار كثيرًا من التساؤلات حول مبررات النشر أو المنع.

تعددت نظريات استخدام الصورة الصادمة بين مدرسة تحرّم استخدامها نظرًا إلى أثرها البالغ، وأخرى ترى ضرورة نشرها لإطلاع الجمهور، وثالثة ترى نشرها بشروط، ما يعني التحكم بمسألة النشر تبعًا للأهمية أو خطر النشر في آن واحد.

المدرسة الأولى ركّزت على أخلاقيات المهنة، وضرورة تجنب نشر الصورة الصادمة لانتهاكها خصوصية الضحايا من جهة، وتأثيرها الكبير على الجمهور ومن بينهم الأطفال بصورة خاصة من جهة ثانية، وأذكر أننا خلال فترة غزو العراق 2003، كنّا نتلقى في غرف الأخبار صورًا لجثث مقطعة عبر وكالات الأنباء، نمتنع عن نشرها لقسوتها، التزامًا بمحاذير النشر وأخلاقيات العمل الصحفي.

وكان يتم إخفاء الصور البشعة في كثير من الأحيان لأسباب لا تتعلق بأخلاقيات المهنة، بل للتضليل، إذ كان الإعلام الأمريكي يستخدم الصورة لترسيخ مفهوم القوة والانتصار، ويتجنب التطرق لصور ضحايا تلك الحرب، وهو ما سبق وحصل في حرب الخليج الثانية 1990-1991، وتحدث عنه بيتر آرنت (Peter Arnett)، مراسل شبكة قناة “CNN” الأمريكية في مذكراته، حيث صوّر مذبحة بقصف صاروخي نفذه الطيران الأمريكي، وقُتل فيه نحو 400 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، مخترقًا منع النشر الذي فرضه الأمريكيون، إذ كان يُمنع نقل صور أو معلومات إلا بإشراف التحالف، وتسببت صور آرنت بتعرضه لهجوم من قبل الحكومة الأمريكية.

أنصار نشر الصورة الصادمة، يدعمون نظريتهم بحق الجمهور بالاطلاع، أو بأن يكون هدف الصورة تحقيق مصلحة الضحية، كأن يتم نشر صور الأطفال مصابي السرطان في حملة جمع تبرعات، وقد ينسحب الأمر على حالة ضحايا زلزال تركيا- سوريا، خصوصًا أولئك الذين تُركوا دون فرق إنقاذ أو أدوات تساعد على انتشال الضحايا كما حصل في إدلب السورية.

في كتابه “War Porn” (الحرب الإباحية)، يسأل المصوّر كريستوف بانجيرت، “كيف يمكننا رفض الاعتراف بمجرد صورة لحدث مروّع، بينما يضطر الآخرون إلى العيش في الحدث المروّع نفسه؟”.

ويقول فريد ريتشين، أستاذ في جامعة “نيويورك” والمدير المشارك لبرنامج التصوير الفوتوغرافي وحقوق الإنسان في مدرسة “تيش للفنون”، إنه بمجرد صنع الصور، فإن العقد الضمني (بين المصور ومن يقوم بتصويره) هو نقلها ورؤيتها من قبل الآخرين، خصوصًا من قبل أولئك الذين قد تكون لديهم فرصة ضئيلة لمنع استمرار مثل هذه المآسي. إذا ظلت هذه الصور غير منشورة، فقد يكون هناك شعور بالذنب بأنه لم يتم الوفاء بالوعد.

وساعد في تعزيز نظرية إتاحة النشر، ظهور ملايين الصور على مواقع التواصل الاجتماعي دون ضوابط، بل واستخدام كثير من الصور في حملات ترويج منها ما تم استغلاله لتحقيق مكاسب مالية عبر المتابعات، أو حملات دعم مزيفة، ووصل الأمر إلى تزييف أو تغيير كثير من الصور على بعض التطبيقات ومنها “تيك توك” (Tik Tok) بصورة بارزة.

لجأ أصحاب مدرسة النشر بشروط إلى إتاحة الصورة مع تنبيه الجمهور، أو تخصيص أوقات معيّنة، ساعات متأخرة من الليل، أو وضع عبارات تشير إلى مضمون مؤثر لتقليل ضرر الصورة على الجمهور أو الأطفال، لكن التكنولوجيا الحديثة وانتشار الأقمار الصناعية والقنوات ومنصات التواصل الاجتماعي المنفلتة، لعبت دورًا حاسمًا في تراجع أدوات التحكم.

تتشكّل اليوم نظريات جديدة في الإعلام، وعلم النفس الإعلامي، والآثار المترتبة على نشر الصور، مدفوعة بحقوق الضحايا، أو بضرورات التسويق التي تصب في مصالح شركات كبرى، وبين تلك المبررات تتحرك سلطات وأجهزة حكومية لضمان عدم تأثير الصورة والرسالة الإعلامية في تقويض مخططاتها وحروبها على الأرض.

وتتراجع أولويات الحفاظ على الصحة النفسية للجمهور أمام مصالح مستثمري الفضاء الإلكتروني، وهو ما خلق صراعًا تارة حول العوائد وأخرى حول تأثيرات المضمون وجرائم النشر، وهنا نرى أن الأوروبيين مثلًا خاضوا خلال السنوات الأخيرة معارك مع شركات “يوتيوب” و”فيسبوك” وغيرها حول قضايا مالية وأخلاقية، وشهدت الولايات المتحدة معارك مماثلة كما حصل في قضية منع تطبيق “تيك توك”، المملوك لشركة “بايت دانس ليمتد” (Bytedance Limited) الصينية، بزعم مخاوف من استخدامه في عمليات تجسس وتعقب الأمريكيين ومعرفة بياناتهم.

بالعودة إلى الصورة وكارثة الزلزال، ما زال معظم السوريين والأتراك وحتى كثيرين من شعوب دول المنطقة تحت تأثير صدمة الصور المروّعة، وربما أسهمت تلك الصور في تعزيز حالة التضامن، وحملات الدعم الإغاثي، لكنها تركت خلفها كارثة وندوبًا نفسية يصعب محوها لأمد طويل.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي