طعم الموت
إبراهيم العلوش
أذاقنا زلزال 6 من شباط الحالي الموت من جديد، حاولنا كسوريين أن ننسى الموت، ولو قليلًا، ولكنه سرعان ما تسرّب إلينا عبر اهتزاز الأرض وموجات الرسائل التي تنعى أحبتنا، وفيض الأخبار الواردة من الأماكن المنكوبة والمليئة بالفقدان واليأس، والأمل، وسط أنقاض تكومت فوق أرواحنا، وفوق أحبتنا الذين لا نزال نترقب أخبارهم.
وإذا كان الكردي محرومًا إلا من صداقة الجبال، فإن السوري اليوم ليس له من مرافق دائم إلا الموت، وهو حوله، في حله وترحاله، في بيته المدمر، وفي بيت النزوح، وفي مأوى الهجرة، يتسرب إليه من الشقوق ويرقص معه رقصة الموت التي تؤديها الأبنية التي داهمها الزلزال ابتداء من ذلك الفجر الحزين.
ننطوي على أنفسنا أمام شاشات التلفزيون وأمام شاشات المواقع الإلكترونية، متأملين موجة الحزن العميقة التي تعتصر الناجين من الزلزال وهم يترقبون بقية عائلاتهم التي لا تزال تستغيث بهم، والعالم، من أجل انتشالهم من تحت الأنقاض قبل أن يموتوا، يرسلون أحيانًا بعض الناجين منهم مثل الطفلة آية التي غادرت رحم والدتها تحت ركام جنديرس، وخرجت تاركة أمها عفراء جثة مرمية لم تستمتع بلحظة الأمومة التي تداهم الأم بعد صراعها مع آلام المخاض.
يتأسف العالم على تقصيره بحق السوريين، ويَعِد بإرسال معدات الإنقاذ، ولكن بعد فوات الأوان، فالسوريون ومنذ عقد من الزمان لم يعودوا إلا مجرد أرقام يقتلها نظام الأسد ويصدّرها إلى وسائل الإعلام بسخاء مع تهمة جاهزة هي الإرهاب، مدغدغًا مشاعر العنصريين، وأصحاب “الفوبيا” الإسلامية، و”فوبيا” الهجرة، ومختلف أنواع الأمراض العنصرية التي لا تستحي من صراحتها ولا من تعاطفها مع القاتل ومع الدول التي ترعى إرهابه منقطع النظير.
ينام السوري في الشارع الغريب منتظرًا نهاية المطاف في هذا الزلزال، ويتوارى عن الأصوات العنصرية التي تبحث عمن تصبُّ عليه جام غضبها متذرعة بتهم كاذبة، حتى ولو كان السوري يقوم بأعمال الإنقاذ مع أهالي البلد الغريب، وينتشل ضحاياهم كما ينتشل ضحاياه، ينام في العراء بالبرد وتحت مظلة بطاقة اللجوء التي تقيّد حركته، ومستقبله، ومستقبل أولاده في البلاد التي تعتصرها المصيبة، ويصب العنصريون غضبهم على رؤوس السوريين الذي يتضورون جوعًا وبردًا وحرمانًا من الأمان.
في الطرف الآخر من المأساة، يأتي الدكتاتور إلى حلب ليشمت بالضحايا وهو يطلق ضحكاته فوق الأنقاض، ويعيد الترحيب بالميليشيات الإيرانية والعراقية التي كانت حليفته في تدمير حلب، ويشيد بما أنجزته من قتل وتهجير عند اقتحام حلب، مدعيًا النصر، خاصة أن هذا الزلزال يصب في خزينة انتصاراته التخريبية بحق السوريين.
يتصل قادة الدول اللقيطة، كما قال محمود درويش يومًا، ويعلنون عن تعاطفهم مع نظام الإجرام وقائده الذي لا يزال يطلق ضحكاته البلهاء فوق أنقاض السوريين، ولعلهم يعِدونه بالعودة إلى حلبة الجامعة العربية، كإعادة اعتبار وغسل سمعة بحجة المأساة الأخيرة من الزلازل، معربين عن تعاطفهم المكتوم مع انتصاراته على المحتجين السوريين، ومتمنين في داخلهم نفس المصير لشعوبهم المتذمرة، ومتمنين لأنفسهم نفس الانتصارات التي تسحق منتقديهم.
ويبقى السوري مشردًا حول بيته أو بعيدًا عنه، تدور الأخبار عنه، وتُعقد الصفقات، ويتم بيعه وشراؤه ومصادرة ما تبقى من ذاكرته، ومن بيته أو محله، وتوزيعه على الميليشيات، وعلى الدول المنتصرة، ويتم حشو ما تبقى له في اتفاقات تديم الإرهاب الروسي والإيراني والدولي لـ50 عامًا على الأقل من أجل أن تبقى ضحكات الأسد فوق الأنقاض إلى الأبد.
المعارضة التركية أطلقت كل أحقادها ضد السوريين، وشملتهم بتحليلاتها العنصرية التي لا تعترف بآدميتهم، ولا بفضلهم على الاقتصاد التركي، ولا على السياسة التركية التي صارت عقدة متينة تم ربطها على حساب مصير السوريين، متناسين أن روسيا وأوروبا وأمريكا أعادت الاعتبار لبلادهم بسبب السوريين، وبسبب المصير البائس لهم، فالسوري كان يريد أن يبقى في بلاده ولا يريد أن يشارك الآخرين بجهده، ولا بما يملك من قدرة على الإبداع والعمل إلا وفق معادلة تضمن الاحترام له، وليس الحشر في “كملك” يضعه في الإقامة الجبرية أو يدفعه إلى مواجهة الموت في البحار، وهو هارب إلى المجهول يبحث عن مصير جديد لعائلته رافضًا إعادة تسليمه إلى مخابرات الأسد النازية.
أعاد الزلزال الأخير طعم الموت إلى أفواهنا، وصار يتسرب إلينا مع رشفة الماء ومع لقمة الخبز، ويطفح في فنجان القهوة الذي نحاول شربه أمام الشاشات المأساوية التي تعيد رواية الموت السوري، وتعيد رواية الجوع والبرد والبؤس التي تعصف بأحبتنا.
ولكننا لن ننساق إلى الموت الذي رسموه لنا، ولن نستسلم للمأساة التي تجتاحنا، ونحن نرسل المساعدات لمن نجا من أحبتنا، ونخطط لأفكار تعيد الاعتبار لآدميتنا، فنحن لسنا مجرد أرقام على جدران مبكى، ولسنا عشاقًا للموت، ولا نزال رافضين للعودة إلى سجون الأسد، وإلى ضحكاته الهستيرية فوق الخراب، لا نزال نحلم بإعادة ترتيب مصيرنا، ولا نزال نبحث عن ابتسامة نمنحها للناجين من الخراب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :