عنب بلدي – خالد الجرعتلي
لجأ شهم إلى سيارة منحه إياها جاره التركي في مدينة أنطاكيا جنوبي تركيا، بعدما نجا من الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة، محاولًا تأمين بعض الدفء لابنته من مكيف السيارة، وسط درجات حرارة دون الصفر وهطول للثلوج أرهق عائلته في الشوارع.
وبعد انتظار جاره ليعود دون نتيجة، استقل شهم السيارة من أنطاكيا إلى مدينة مرسين الساحلية، ليضع عائلته فيها، ثم أعاد السيارة مجددًا إلى أنطاكيا ليستفيد منها جاره أو من يحتاج إليها، في مشهد أعاد إلى ذهنه رحلات نزوح السوريين التي لم تتوقف على مدار عشر سنوات.
شهم واحد من آلاف السوريين الذين اضطروا للانتقال من محل إقامتهم، في ولايات الجنوب التركي، حيث ضربهم الزلزال، هائمين في ولايات تركية أخرى، ليجدوا مكانًا للبقاء فيه ريثما يستوعبون الصدمة.
ويضاف هذا النزوح أيضًا إلى قائمة طويلة من حركات نزوح عانى منها السوريون بمختلف انتماءاتهم.
بينما لم يتمكن آخرون من مغادرة الأحياء المدمرة التي كانوا يقيمون فيها، لأنهم لا يمتلكون إمكانية مادية لذلك، أو لأنهم لم يجدوا بعد ذويهم المفقودين تحت الأنقاض.
يبلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين في تركيا حوالي 3.5 مليون لاجئًا، ويقيم ما يقارب نحو مليون و750 ألف شخص منهم في مدن الجنوب التركي الذي حصل فيها الزلزال.
وتستضيف مدينة غازي عنتاب النسبة الأكبر في جنوبي تركيا، إذ تحتضن 460 ألفًا و150 لاجئًا، تليها مدينة هاتاي وعدد السوريين فيها 354 ألف لاجئ، وأورفا 368 ألف لاجئ، وأضنة 250 ألف لاجئ.
ويعيش في كل من كهرمان مرعش وكلس واديمان والعثمانية وديار بكر وملاطيا حوالي 550 ألف لاجئ، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن “إدارة الهجرة التركية” في 2 من شباط الحالي.
البحث عن ملجأ
كان شهم (32 عامًا) يقيم مع عائلته في مبنى حديث الإنشاء شمالي مدينة أنطاكيا كبرى مدن ولاية هاتاي الجنوبية، وعاد خلال حديثه مع عنب بلدي إلى اللحظات الأولى للزلزال محاولًا وصف هول المشهد، الذي أفضى به جالسًا في الشارع المقابل للمنزل حاملًا طفلته البالغة من العمر عامًا ونصف.
“كانت الدماء تغطي وجه ابنتي لحظة خروجنا من المبنى، عندما علمت أن هذه الدماء مصدرها رأسي شعرت بالطمأنينة، فلم أكن مهتمًا بمدى خطورة إصابتي حقًا، قال شهم.
بعد ساعات من البقاء في السيارة، في جوّ عاصف بالثلوج، وتشغيل مكيّفها بالتقسيط حتى لا تنفد المحروقات، قرّر الخروج من أنطاكيا لتأمين عائلته، وتوجّه إلى مدينة مرسين، لكن معاناته بدأت هناك للبحث عن مكان يقيم فيه بعيدًا عن استغلال التجار والسماسرة.
مرسين مليئة بالخيام التي أعدتها بلدية المدينة ومنظمات خيرية لإيواء العائلات، لكن شهم صُدم عندما طلب منه أحد المسؤولين عن الخيام مبلغ 200 ليرة تركية كأجر يومي للإقامة فيها.
“لا أعرف علاقة هذا الشخص بالمخيم أو الخيام حقًا، لكنه جاء ليعرض عليّ الإقامة في خيمة مقابل مبلغ مالي يومي”، أضاف شهم، الذي قرّر الاستقرار في فندق، بانتظار المجهول.
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أعلن مجموعة من الإجراءات لنقل المتضررين من المناطق المنكوبة، منها توجيه أوامر لشركة الخطوط الجوية التركية لنقل المسافرين من وإلى مناطق الزلزال مجانًا.
وحتى 10 من شباط، جرى إنقاذ 75 ألف شخص وإجلاء أكثر من 76 ألف شخص آخرين من المنطقة المتضررة ونقلهم إلى مناطق أخرى، وفق تصريحات الرئيس التركي، لكن لا توجد تقديرات للضحايا السوريين أو الذين جرى إجلاؤهم من هذه المناطق بعد.
وتعاقدت الحكومة التركية مع فنادق في ولايات أنطاليا ومرسين ومدينة ألانيا، بهدف بقاء العائلات المتضررة فيها.
وكحال شهم، وصل لاجئون سوريون إلى أنقرة وإسطنبول وغيرها من المناطق الأبعد عن دائرة الخطر، لكن كثرًا منهم لم يستفيدوا من التسهيلات الحكومية، وبدأوا البحث عن منازل لاستئجارها، وسط أزمة سكن بدأت تتضح ملامحها مع الأيام الأولى للكارثة.
ولتسهيل انتقال السوريين من المناطق المنكوبة، ألغت رئاسة الهجرة التركية شرط استخراج إذن سفر واعتبرت إقامة اللاجئ في مدينة أخرى قانونية لمدة 90 يومًا، لكنها استثنت مدينة إسطنبول من القرار.
وبررت رئاسة الهجرة قرار إلغاء الإذن بـ”منع الكثافة السكانية في المناطق المنكوبة، وتسهيل حركة عمليات الإغاثة والإنقاذ”.
ذكرى جديدة
في مناطق أخرى من ولاية هاتاي لم يفتك الزلزال بمبانيها، كمدينة الريحانية، اضطر السكان إلى النزول للشوارع مع سماعهم لأصوات تضعضع الجدران خوفًا من سقوطها عليهم، ومع أن هذه المباني لم تسقط، خلّف الزلزال تصدعات في جدرانها جعل منها غير صالحة للسكن مجددًا.
ومن بين هذه المنازل المتصدعة، تحدث نبيل (44 عامًا) لعنب بلدي عن ذكرى جديدة أضافها إلى قائمة ذكريات النزوح المحفورة في ذاكرته على مدار السنوات الماضية.
نبيل، هو صف ضابط منشق عن قوات النظام السوري منذ عام 2012، نزح خلال السنوات السابقة مرات كثيرة، وأجبر على الجلوس في مناطق خطرة لعدم قدرته على النزوح أيضًا مرات كثيرة، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
نزح نبيل من محافظته حماة إلى ريفها الشرقي بعد انشقاقه، ومنها إلى ريف إدلب الشرقي، ثم إلى ريف حلب الغربي، ومنه إلى تركيا.
يجلس اليوم على مقربة من منزله المتصدع، غير قادر على دخوله، وفي الوقت نفسه لا قدرة له على مغادرة المدينة التي تعاني شحًا في المواد الغذائية، وأولها الخبز، باتجاه منطقة أكثر أمانًا، نظرًا لصعوبة الحصول على مركبة تقلّه خارج ولاية هاتاي، إذ يطلب سائقو سيارات الأجرة مبالغ وصفها بـ”الخيالية”، وصلت حتى ألفي دولار أمريكي.
في المقابل رصدت عنب بلدي مبادرات عديدة لمواطنين سوريين وأتراك توجهوا بسياراتهم إلى المناطق المنكوبة، لإيصال المساعدات العاجلة والتبرعات إليها، ثم إخراج مواطنين منها في طريق العودة.
ولا تزال عمليات الإجلاء مستمرة، مع استنفار عدد كبير من فرق الإنقاذ والاستجابة يصل إلى ما يزيد عن 40 ألف شخص، بحسب الأرقام الرسمية التركية.
عدد اللاجئين السوريين يتجاوز 6.6 مليون لاجئ خارج سوريا، و6.7 مليون نازح داخليًا، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة.
ويتوزع أكبر عدد للاجئين السوريين في الدول المجاورة، حيث يوجد في تركيا 3.5 مليون لاجئ، وفي لبنان والأردن نحو 1.5 مليون لاجئ.
وبحسب إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإن الكثير من السوريين يواجهون رحلة محفوفة بالمخاطر في أثناء رحلتهم للبحث عن حياة أفضل.