علي عيد
كشف زلزال سوريا- تركيا عن صدع آخر، وصراع بين قوتين كبيرتين، الأولى قوة الإعلام التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة، والثانية قوة النخب المالية والسياسية المسيطرة أو الطامحة لاستغلال ظروف الكوارث وتحريك الجمهور نحو تبرير أهدافها وخططها.
يتحدث الباحثان سيمون كوتيل وكارين آل يوجنسن في دراسة بعنوان “الكوارث ووسائل الإعلام” حول سياقات تدخل الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في حالات الكوارث، من الداخل إلى الخارج وبالعكس، ما يعطي الإعلام دورًا مركزيًا نظرًا لسرعة الانتشار والوصول والتشبّع ومستوى التأثير، وعجز الحكومات عن إخفاء المعلومات، كما كان يجري سابقًا، ومثاله التعتيم الإعلامي الذي فرضته السلطات الصينية على زلزال تانغشان عام 1976، إذ استغل الحزب الشيوعي الحاكم الظروف لإنهاء الثورة الثقافية التي خرجت على حكم هوا جيو فينج خليفة ماوتسي تونغ.
لم تعد الأمور على حالها في كوكب سكانه 7 مليارات شخص ويوجد بين أيديهم 5 مليارات هاتف محمول، منها 4 مليارات لدى سكان مناطق الكوارث في العالم، حسب تحليل رقمي يسرده الباحثان كوتيل وآل يوجنسن.
لقد استطاعت المأساة السورية الوصول بالاستناد على الإعلام من جهة، والكارثة الموازية وغير المحظورة إعلاميًا في تركيا، إذ أسهمت جغرافيا الكارثة وتوزعها بين دولتين إلى معالجتها كقضية واحدة، وكشفت خللًا بالغًا في التعاطي الدولي مع مأساة السوريين.
لاحظ العالم انكشافًا غير مسبوق لانخراط القوى الدولية في الصراع السياسي على حساب مأساة السوريين، وظهر ذلك في تأخر وصول المساعدات إلى منطقة الكارثة في شمال غربي سوريا، فيما كانت فرق من 90 دولة تعمل داخل الأراضي التركية.
قبالة كل ساعة تأخير في إيصال مساعدات منقذة، مثل المعدات الحديثة للاستكشاف أو المركبات والوقود، كان العشرات من المطمورين تحت الأنقاض يفقدون حياتهم، وينسحب الأمر على الجرحى الذين يحتاجون تدخلات عاجلة.
على المقلب الآخر، كان النظام السوري يستهلك الوقت لفرض شروطه للقبول بدخول المساعدات “عبر الخطوط”، والهدف فرض سيطرته على عمليات دخول المساعدات لأسباب سياسية واقتصادية، وإثبات أنه طرف وحيد قادر على إيجاد حلول في مثل تلك الكوارث داخل سوريا.
فشل النظام السوري في الرسالة الإعلامية، وفي إخفاء حجم الكارثة في المناطق الخارجة عن سيطرته، وامتد فشله إلى عجزه عن لملمة الآثار السياسية، وكونه سببًا في العجز الدولي، وهو ما يستتبع كثيرًا من التحولات في القضية السورية، ويلعب إعلام “الكارثة” الدور الأهم في هذا الفشل.
وعلى المستوى الداخلي، لم تعد نظرية المسلحين و”الإرهابيين” صالحة لمنع حملات الإغاثة والتعاطف، وبلغ الفشل أعلى درجاته في المسألة العاطفية، عندما خرج بشار الأسد من حلب وهو يوزع الابتسامات بين مناصريه، وهي صور ستترك أثرها العاطفي طويلًا في ضمائر السوريين، ويحللها خبراء لغة الجسد وعلم النفس السياسي والاجتماعي.
دراسة “الكوارث ووسائل الإعلام”، تتطرق لمسألة استغلال النخب السياسية والاقتصادية لظروف الكارثة من خلال اللعب على عواطف الضحايا والجمهور، وإيصال فكرة ضرورة تدخل الجيوش مثلًا كجهة ضامنة لأمن الشعوب، أو الطعن بقدرة السلطة المدنية، وكذلك ترويج نظريات منها الإرهاب والمسلحين كما حصل في سوريا بصورة عامة، وخصوصًا محاولة شيطنة الدفاع المدني “القبعات البيض” الذين ظهر للعالم أنهم فريق محترف أسهم في إنقاذ أرواح آلاف المدنيين.
الكاتبة الكندية نعومي كلاين، تحدثت في كتابها “عقيدة الصدمة”، عن الطرق التي يمكن أن تخدم فيها الكوارث والأزمات مصالح الشركات والحكومات، ولتبرير تشديد القبضة وبقاء نظام الحكم، ويبدو أن النظام السوري لم يستطع الاستثمار في هذا الحقل بسبب قوة تصادمية كبرى هي الإعلام الحديث، وقدرة كاميرا الهاتف على الوصول، ووجود منصات بتقنيات تنقل الحدث على الهواء مباشرة، وتعجز معها أدوات المنع التي عادة ما تستخدمها السلطات.
أكبر أخطار إعلام الكوارث يتمثل في استغلال عواطف الجمهور، ونشر الشائعات، والتزييف، والتخويف، واستخدام خطاب التمييز والكراهية، وقد ظهر جانب من هذه المخاطر في زلزال سوريا- تركيا في كلا البلدين، ولكن، بصورة مختلفة.
في تركيا، حاولت المعارضة السياسية تحريك الشارع ضد حكومة “العدالة والتنمية”، وظهر أثر هذا في الخطابات والبيانات الرسمية التي خلطت بين ما هو خدمي وما هو سياسي للتقليل من أثر دعاية المعارضة.
أما في سوريا، فقد تبدّت محاولات استخدام إعلام الكارثة عبر بعض الخطابات والتصريحات لمسؤولين، بينهم محافظ إدلب عن حكومة النظام، الذي برر عدم وصول المساعدات للمناطق المنكوبة شمال غربي سوريا بوجود جماعات مسلحة و”إرهابيين”، وهو ما قوبل بعدم استجابة من قبل الشارع لهذا التنميط، ومن مستوى الاستجابة يمكن تحليل موقف الرأي العام في مناطق سيطرة حكومة النظام حيال الخطاب القديم الممتد لنحو 12 عامًا، فالمتغيرات على مستوى الرأي العام تبرهن على عدم تطابق بين نظريتي السلطة والرأي العام حيال مستقبل البلاد.
لم تنته الكارثة بعد، وسيمتد دور الإعلام إلى ما بعد الكارثة، كما أن انكشاف الخلل السياسي – الإنساني في التعاطي مع المسألة السورية، ودور النظام السوري المزمن في زيادة معاناة السوريين سيكون له أثر بالغ في مختلف النشاطات والفعاليات الدولية المقبلة، إنها لحظة اختبار قد لا تتكرر كل قرن من الزمن، وليس من السهل تجاوز آثارها.. وللحديث بقية.