يونس الكريم – كاتب وباحث سوري
لم تنجح المفاوضات بين مجلس مصالحة الزبداني والنظام، برعاية روسية ممثلة بالسفير الروسي في دمشق شخصيًا، نهاية 2015، في إبرام اتفاقٍ من شأنه المحافظة على هوية مضايا ومنع التغيير الديموغرافي فيها.
ومنذ شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2015 وحتى منتصف كانون الثاني الجاري، اشتد الحصار، فلم يعد يسمح بإدخال أي نوع من السلع الغذائية إلى مضايا تحت أي مسمى، لتبدأ حرب التجويع التي أودت بحياة 60 شخصًا حتى الآن.
والسؤال لماذا الضغط المتزايد للنظام وحلفائه على الزبداني ومضايا تحديدًا، وكيف اجتاح الموت المنطقة بصورة واسعةٍ مقارنة بالمناطق المحاصرة الأخرى؟
منابع المياه هدف النظام السوري
يسعى النظام السوري إلى تحقيق مكسب عسكري، بفرض سيطرته على منطقة بقيت خارجة عنه، إلى جانب استعادة السيطرة على منابع مياه الفيجة وبقين بحيث لا تهدد العاصمة بالعطش إطلاقًا، ما يشكل ضغطًا على حاضنته الشعبية، إضافة إلى المحافظة على معبر وحيدٍ آمن مع العالم الخارجي إلى لبنان، والمعروف بجديدة يابوس.
نقاط ارتكاز لحزب الله وإيران
اهتمت طهران، مع يقينها بانتهاء دور الأسد بحكم سوريا، بالبحث عن نقاط ارتكاز تجعل منها دولة لها دور أساسي بالمنطقة وليس أداة إقليمية بيد الدول العظمى، وذلك لعدة أسباب:
تعتبر مدينة الزبداني البديل المناسب عن سهل البقاع اللبناني لزراعة الحشيش والقنب والأفيون، حيث بدأ يتعرض حزب الله إلى ضغوط من الحكومة اللبنانية ومن قوى إقليمية لمنع زراعته بالبقاع.
وتعتبر زراعة الحشيش نفطًا أخضر لحزب الله، فقد قدّر إنتاج البقاع، نهاية عام 2013 من هذه الزراعة بـ 55 مليون حبة كبتاغون و50 طنًا من الأفيون لصناعة الهيروين، ألف طن قنب، وفق تقارير لبنانية سابقة، وهو ما يعتبر ثروة لا تنضب من الأموال.
لذلك عمد الحزب إلى ردم الآبار في سهل الزبداني، وتدمير المشاريع الإنتاجية وحرق الأشجار، ثم اتجه نحو مضايا لاستكمال المشروع، والدور المقبل على وادي بردى.
وجعل مقاتلو الحزب من الحصار ورقة ضغط على الأهالي لشراء عقاراتهم عبر مقايضتها على حصص غذائية، ليقوم بعدها بتوطين سكان موالين لحزب الله وإيران، بتجربة شبيهة لما يحصل في لبنان.
السيطرة على منابع المياه التي تغذي العاصمة دمشق، وبالتالي إمكانية الضغط على الحكومة المقبلة، بغض النظر عن تبعيتها، ولعب دور سياسي كبير.
فك حصار جيش الفتح عن كفريا والفوعة، التي تحوي مقاتلين إيرانيين وشيعة موالين لإيران، مقابل فك الحصار عن أحرار الشام في الزبداني ومضايا، كونها تعتبر أحد المكونات الأساسية في جيش الفتح.
إعادة فتح معسكرات لحزب العمال الكردستاني (ppk) في الزبداني للضغط على تركيا، وتخزين أسلحة حزب الله في جرودها الوعرة بعد الضغوط الدولية على حزب الله لنزع سلاحه من لبنان، وفق مصادر كردية أكدت دعم طهران لوحدات حماية الشعب الكردية.
العمل على فتح مراكز تطوير أسلحة وتخزينها لإيران، تكون بديلًا عن مراكزها التي سمحت بمراقبتها بموجب الاتفاق الدولي 5+1.
السيطرة على طرق نقل الطاقة من وإلى لبنان (أحواض لبنان البحرية)، كون الزبداني تتوسط الطريق الآمن لإيران بين حمص ولبنان.
الاستفادة المادية من حصار مضايا، وهذه السياسة هي سياسة النظام لترغيب جنرالاته بالذهاب إلى خطوط المواجهة، وهذا ما رغّب حزب الله بإدارة الحصار، فتعداه من شراء أراضي سهل الزبداني إلى بيع الحصص الغذائية مقابل أموال نقدية كبيرة، مع تسهيل دخول أموال الإغاثة عن طريق تاجر يتهم بأنه مقرب لحركة أحرار الشام.
وتبلغ عمولة تحويل عشرة آلاف دولار إلى مضايا ما يقارب 350$، وهذا المبلغ بالكاد يشتري 45 كغ من الأرز، وكمية أقل من الطحين أو حليب الأطفال.
ويبدو أن الحزب دعم وضعه المادي بعد انخفاض أسعار النفط العالمية وتسرب إشاعات عن تخفيض إيران دعمها المادي له، ما جعل الحصار أحد موارد حزب الله لتمويل الحرب على سوريا.
قطع الطريق أمام “داعش” لتشكيل إمارة في القلمون، ما يهدد مخازن السلاح لحزب الله في الشمال ويهدد تجارته في النفط والمخدرات، وإرباك لوضع سلاح حزب الله داخل لبنان.
سوريا كلها ملك لروسيا
لم يكن لروسيا مطامع محددة في مدينة الزبداني، فهي تعتبر سوريا ككل “ملكًا لها”، بحسب التسريبات التي نتجت عن اجتماع الأسد ببوتين في موسكو في تشرين الأول الماضي، وبالتالي اعتبرت ما يحدث صراعًا داخليًا بين فرقاء، وقد حاولت إرضاء كل من تركيا (قبل حادثة إسقاط الطائرة الروسية) وإيران والنظام.
لذلك لم تنجح محاولة لجنة “المصالحة الوطنية”، ومنهم أبو عمار جميل وأبو محمد مأرومة، مع محافظ ريف دمشق وعقيد عن النظام لتوقيع هدنة جديدة برعاية روسية، إذ التقت اللجنة بالسفير الروسي، وعند إرسال الأخير للوفد لتوقيع هدنة في الزبداني، رفض حزب الله إدخال السفير إليها، وتدخلت إيران لدى روسيا لصالح حزب الله، ووئد الاتفاق، الذي كان من شأنه القضاء على اتفاقية تبادل “الفوعة كفريا- الزبداني”.
هل تسهل “الأحرار” تغيير ديموغرافية المنطقة
واجهت حركة أحرار الشام الإسلامية، الفصيل الأبرز في مضايا والزبداني، إلى جانب جبهة النصرة، عدة انتقادات في طريقة تعاملها مع الهدنة المبرمة مع النظام السوري وحزب الله، وألمح البعض إلى أن الحركة تسهم بطريقة غير مباشرة في تغيير ديموغرافية المنطقة، عن طريق قبولها ببنود الهدنة.
كذلك فإن معلومات متداولة في مضايا، تشير إلى أن عددًا من التجار والشخصيات المقربين من الحركة، ساعدوا في بسط حزب الله سيطرته على مساحات واسعة من سهل الزبداني، ليتركز نفوذ الحركة في الشمال السوري بدعم تركي، على أن تخضع المنطقة الحدودية مع لبنان في محافظة دمشق لسيطرة ونفوذ حزب الله، وبالتالي إيران.
لكن ناشطين من المنطقة، يؤكدون أن أحرار الشام حرمت حزب الله والنظام السوري من احتفالية النصر في الزبداني، بعد ثلاثة أشهر على معارك استنزفت عشرات العناصر اللبنانيين والسوريين على حد سواء، كذلك فإنها تسعى إلى إفشال جهود تفريغ منطقة سهل الزبداني من المدنيين، وفق بياناتها الرسمية خلال المفاوضات.
الأمم المتحدة بدور المتفرج
مع كل هذه الحرب بأشكالها وأسلحتها المتعددة، لا تلعب الأمم المتحدة دور المتفرج فحسب، بل يندرج عمل منظماتها في الزبداني وكل سوريا في المحافظة على ميزان القوى، ريثما يتم الاتفاق بين القوى الكبرى على الحل.
فقد فشلت الأمم المتحدة برعاية أي هدنة أو اتفاق لإخراج المدنيين أو تحييدهم في مناطق النزاع، بل كانت أحيانًا سببًا في زيادة معاناتهم للمحافظة على ميزان القوى، كما حدث في 18 تشرين الأول الماضي، عند إدخالها بسكويت عالي الطاقة ومنتهي الصلاحية (320 صندوقًا من أصل 650) إلى بلدة مضايا، عوضًا عن حليب الأطفال، والذي أدى إلى وفاة غسان عوض، و41 حالة تسمم.
لهذا كله، سقطت مضايا بسهولة بين فكي الجوع، لدرجة أنها لم تصمد أكثر من شهرين، رغم أن مخيم اليرموك شهد حصارًا أشد وصمد أكثر، ولم تصل أسعار السلع فيه لما وصلت إليه في مضايا، فعلى سييل المثال وصل سعر كيلو الأرز في مضايا إلى 85 ألف ليرة سورية، الطحين 90 ألف ليرة، السكر 58 ألف ليرة، حليب الأطفال 115 ألف ليرة.
كل هذه السلع، باستثناء البسكويت، لا يعرف اسم الشركة المصنعة لها، أو تاريخ الإنتاج، إنما تأتي بأكياس بيضاء شبيهة بأكياس الإغاثة التي توزعها الأمم المتحدة.
سهل الزبداني ببلداته وقراه، أضحى “مستعمرة إيرانية”، يديرها حزب الله، بحضور رمزي للنظام السوري، ومباركة روسية، وصمت دولي، بحسب توصيف أهالي المنطقة.
ويتخوف ناشطوها من تهجير جماعي للمكون “السني” من مضايا والزبداني وبقين، عبر دفعات، نحو الشمال السوري، وتوطين الميليشيات اللبنانية والعراقية عوضًا عنها.
مضايا بلدة تتبع إداريًا لمنطقة الزبداني، وتقع شمال غرب دمشق في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتُعد مصيفًا رئيسيًا مهمًا في سوريا جنبًا إلى جنب مع مدينة الزبداني وبلودان.
يبلغ عدد سكان الناحية 16,780 نسمة حسب تعداد عام 2015، وبعد التهجير القسري لسكان الزبداني باتجاه مضايا أصبح تعدادهم حوالي 40 ألف نسمة، ليبدأ حصار البلدة من قبل قوات الأسد وعناصر حزب الله.
داخليًا يسيطر على البلدة حركة أحرار الشام المؤلفة من كتائب حمزة بن عبد المطلب، ولواء الفرسان المؤلف من كتائب شهداء الزبداني ومحمد بن مسلمة وشهداء الحق، مع وجود لجبهة النصرة لكن بنفوذٍ أقل.
وبعد صراع طويل ومدمر بين الحزب والقوى المقاتلة الداخلية، عقدت هدنةٌ في أيلول 2015، والمعروفة باتفاق “الزبداني-الفوعة وكفريا”، وينص على رفع الحصار عن كلا المنطقتين وإخراج المقاتلين بالتزامن مع إجلاء الجرحى، إضافة إلى بعض البنود التي من شأنها إحداث تغيير ديموغرافي للمنطقة.
إلا أن الحصار لم يرفع ولم تفتح طرق آمنة لخروج السكان، مع رفض أهالي الزبداني الانتقال إلى إدلب حسب الشروط.