أتموت الصحافة بموت الورق؟
علي عيد
قبل نحو 20 عامًا، ومع ثورة الاتصالات، بدأت الصحافة العربية تتحسّس خطر انتهاء عصر الصحيفة لمصلحة “الرقمنة”، وكان الغرب قد سبقنا بسنوات، وعندما بدأت الصحف العربية التفكير بالبدائل، كانت مئات الصحف المحلية وحتى الكبرى في الغرب تموت شهريًا على الورق، ومع تسريح آلاف الصحفيين، كان يجري العمل على تأهيل كوادر في مجال الابتكار الرقمي والتسويق الإلكتروني.
لعب تراجع الدخل دورًا أساسيًا في إغلاق الصحف الورقية، وليس السبب هو الأزمة المالية التي وقعت عام 2008، وامتد أثرها من الولايات المتحدة إلى أنحاء العالم، كما ذكرت بعض الدراسات، إذ ظهر ميل لدى المعلنين إلى استغلال المنصات الرقمية في الإعلان، وهذا الأخير كان أهم مصادر دخل الصحف الورقية.
أذكر في الفترة بين عامي 2004 و2008، أن صحيفة مثل “عكاظ” السعودية كانت تحقق أرباحًا صافية تتراوح بين 130 و180 مليون ريال سنويًا، وفاق توزيعها في بعض تلك الأوقات نحو 380 ألف نسخة دون مرتجعات، وهو رقم كبير إذا عرفنا أن مجموع ما تطبعه الصحف الرئيسة السورية (تشرين، الثورة، البعث) لا يتجاوز 30 ألف نسخة لأفضلها، مع مرتجعات وخسائر تدفعها الدولة من خزينتها.
أعود إلى “عكاظ” التي قصّرت في مواكبة عصر “الرقمنة” إلى أن وصل الأمر بها إلى بيع مقرها الرسمي في مدينة جدة، نظرًا إلى عجزها عن دفع رواتب موظفيها.
تتحدث دراسات غربية عن التحديات التي واجهت الصحافة المكتوبة وصولًا إلى موتها ورقيًا، لكن كثيرًا من الصحف التي كابرت واجهت خسائر كبيرة وعجزًا في التمويل.
ما سبق لا يعني موت الصحافة، بل موت الورق، كما أن بقاء الصحف على المنصات الرقمية بات مرهونًا بالابتكار والقدرة على المنافسة، وإن كان باب المنافسة ضيقًا، ودونه شروط لا يستهان بها.
بدل النسخة المطبوعة، ظهرت النقرة، والقارئ الذي كان يبتاع الصحيفة مع رغيف الخبز صباحًا، بات في مواجهة وسائل التواصل الاجتماعي التي تطلق في وجهه آلاف المحتويات على مدار اللحظة.
ماتت “كريستيان ساينس مونيتور” عام 2008 و”نيوزويك” 2012، وانتهت “إندبندنت” البريطانية 2016، لكن تلك الصحف استطاعت تسجيل حضورها الرقمي، ومثلها كثير من الصحف الغربية.
أولى مبادرات الصحافة الإلكترونية بدأت عام 1993 مع صحيفة “ميركوري” الأمريكية، و”ديلي تليغراف” و”التايمز” البريطانية عام 1994.
وشهد العالم العربي تأثيرًا مضاعفًا لتغيير عادات الجمهور، ففي منتصف عام 2018، توقفت صحيفة “الحياة” التي ظلت لعشرات السنين مصدر الخبر والتحليل ومقال الرأي، وسبقتها “النهار” و”السفير” اللبنانيتان.
لا يتسع المقام لسرد قائمة الصحف الميتة على الورق، لكن هذا لم يعنِ أبدًا انتهاء دورها أو دور الصحافة الورقية، بالقدر الذي رفع من منسوب المنافسة، واضطر مالكي وإدارات تلك الصحف إلى بناء استراتيجيات جديدة، ربما يُستحسن وصفها بـ”الإعلام الهجين”.
حادث سيارة على طريق رئيس في بلد ما سيسبق في نقله ناشطون على وسائل التواصل (فيسبوك، تويتر، تيك توك، إنستجرام)، لكن تفاصيل الحادث، وهوية الضحايا، وأسبابه ما إذا كان جريمة مفتعلة أم حادث سرعة، تلك مهمة الصحافة التي لا تموت.
بات الأهم الوصول إلى الجمهور، سواء عبر الورق أو الشاشة أو الصوت والصورة، لكن تحديات الصحافة باتت أكبر لتحقيق هذا الوصول، أبرزها مهنيًا عدم التسييس والانحياز، وعدم السعي وراء السبق قبل تدقيق الحقائق.
وتقنيًا وماليًا المنافسة على النقرات، وابتكار طرق استثمار وسائل التواصل، وإقناع الجمهور بالضغط على زر التبرع أو دفع ثمن قراءة المقال.
ولا ننسى هدف الإمتاع، فكثر من المؤثرين يقدمون محتوى مزيفًا، ويعتمدون على استمالة عواطف الجمهور، و”الترند”، وثقافة النميمة و”البصبصة” والتلصص، وهذا يرتب أعباء إضافية على الصحافة، إذ كيف يمكن أن تحقق المتعة بجودة عالية ومصداقية أمام جمهور بات يشكّك في كل ما يرى ويسمع.
السؤال الأكثر إلحاحًا، هو كيف ترضي الصحافة جمهورها، أمام هذا الكم الهائل من التعرض اللاإرادي، ورغبة كل شخص أن يكون مؤثرًا أو نجمًا أو صحفيًا ينقل الأحداث والمعارف بحسب ما يعتقد.
لم تمت الصحافة، ولن تموت، وما سبق يشير إلى أنها لا بد وأن تتخذ مسارًا عكسيًا لما كان سائدًا منذ نشأة الصحافة التقليدية، فالشخص الذي توقف عن شراء الصحيفة مع رغيف الخبز، بات ينام وفي يده هاتف حديث يتابع خلاله، ومن على سريره أخبار العالم والمشاهير، ويقضي وقتًا وافرًا في بعض الألعاب المسلية، وبات له مؤثرون وصانعو محتوى مفضّلون، ولكي تصل الصحافة إلى هؤلاء عليها أن تذهب إلى أسرّة جمهورها وغرف جلوسهم وسياراتهم، وأن تزاحم على هواتفهم، حتى وإن كانت تحافظ على قواعد المهنة وأخلاقياتها، وهذا يتحقق بدمج الإمتاع بالمعرفة، عبر الصورة المميزة، والرسالة البسيطة والواضحة، والدأب على علاقة غير منقطعة وميثاقية لا تتجاهل تغيرات وعادات المشاهدة والقراءة والإمتاع.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :