قوة الاحتجاج
إبراهيم العلوش
هبّت في فرنسا خلال الأسابيع الماضية موجة احتجاجات كبيرة ضد مشروع القانون الجديد للإصلاح التقاعدي، ووصل عدد المتظاهرين، في 31 من كانون الثاني الماضي، إلى مليونين كما تقول النقابات، و800 ألف كما تقول المصادر الحكومية، بالإضافة إلى الإضراب الذي انضمت إليه كل فئات النشاط الاقتصادي والخدمي، ما شكّل عرقلة كبيرة في المواصلات وبمختلف الخدمات الأخرى.
يحتج الفرنسيون دائمًا، وعلى أي شيء لا يروق لهم، وتشهد أيام السبت احتجاجات متفرقة في مراكز وساحات المدن الكبيرة، منها للممرضين والممرضات والأطباء، وغيرها على التلقيح، وأخرى على ارتفاع الأسعار والتضخم، وأحيانًا يشارك الأجانب في احتجاجاتهم، مثل الاحتجاج على قمع النساء في إيران وفي أفغانستان، وعلى الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وسابقًا الاحتجاج على القصف الكيماوي وغير الكيماوي الذي يشنه نظام الأسد على السوريين بدعم إيراني وروسي يتحدى القيم الإنسانية والأخلاقية.
ونحن كأجانب ننظر إلى هذه الاحتجاجات باستغراب، وأحيانًا بخشية أن تصل إلى حدود الخوف الذي اعتدناه تحت حكم مخابرات الأسد، فالكثير من اللاجئين السوريين يحاولون أن يكونوا بريئي الذمة من أي احتجاج على الحكومة، حرصًا على إضبارة لجوئهم، كما يتخوفون حتى ولو كان لديهم قرار لجوء يضمن معاملتهم مثل أي مواطن فرنسي، عدا حقي الانتخاب والترشيح.
والكثير منا لم ينشأ على تربية تحترم الاحتجاج على أي شيء، ابتداء من منع الاحتجاج في المنزل الذي يسيطر عليه الأب أو الأخ الأكبر، لما لهما من سيطرة أدبية واقتصادية على الأسرة، ويتفاقم المنع من الاحتجاج بشكل طاغٍ على النساء وعلى البنات، خاصة بعد سن البلوغ الذي يهز استقرار بعض العائلات.
الأنظمة العربية المتشددة اعتبرت أن الاحتجاج شر مطلق لا يجب التهاون في عقابه، وتم عبر العقود الماضية بناء أجهزة استخبارات تملأ البلاد طولًا وعرضًا لمنع أي احتجاج ضد رغبة الحاكم، وطغمته المستفيدة من عطاياه مقابل خدماتها في قمع الاحتجاج المتوقع دائمًا، وقد تطورت أساليب محاربة الاحتجاج في الثقافة وبالتشريعات بالاعتبار زورًا أنه ضد قيمنا الدينية والعائلية، وضد خصوصيتنا الثقافية، وكأن كل قيمنا ومفاهيمنا هي أدوات لـ”التدجين” والعبودية.
وفي سوريا مثلًا، أُطلقت رزمة من الاتهامات المتنوعة ضد المحتجين، اعتبارًا من زعزعة استقرار الأمة، والإضرار باقتصادها، ومحاربة الثورة والنظام الاشتراكي، وآخرها تهمة التبعية للغرب الراعي والمشجع على الاحتجاج، ووصلت الحرب إلى أعلى مستوى عبر إطلاق تهمة الخيانة والتبعية للسفارات الأجنبية على أي محتج.
الكثير من رجال الدين ركبوا موجة محاربة الاحتجاج عبر إطلاق سيل من الفتاوى التي تعتبر الاحتجاج كفرًا والديمقراطية مفهومًا شريرًا تجب محاربته، وهذا ما فعلته الكثير من الفصائل السورية المتشحة بوشاح الدين، حتى قبل وصول “داعش”، التي تساوت مع نظام الأسد في التجريم المطلق للاحتجاج.
بعد كل مظاهرة أو إضراب في فرنسا تعود الحياة إلى مجاريها ويلتزم العمال بعملهم، وتخطط النقابات في 7 و11 من شباط الحالي من جديد لاحتجاج مقبل، دون أن يتم التحقيق مع قادة التظاهرات أو المخططين لها، أو احتجاز أي من أقاربهم أو معارفهم، بل تقوم الحكومة بجهود التفاوض معهم على المكان وعلى الإجراءات، ولا يتم تخوين أحد، أو اعتباره كافرًا، لأن الدولة الفرنسية لا تسمح للجهات الدينية بالتدخل في الحياة العامة، وتمنع عنها أي دعم مادي من الأموال العامة، على عكس ما يفعل نظام الأسد، من تشكيل كيانات دينية وطائفية مشبوهة يتلاعب بها، ويضرب بعضها ببعض، ليبقى هو المرجع الأخير في السيطرة على الحياة العامة.
في سوريا، استولى نظام الأسد على النقابات التي من المفترض أنها تنظم الاحتجاجات، وجعل الكثير من قادتها مخبرين، ومنافقين علنيين يروّجون للنظام، وصاروا يترصدون أي محاولة للاحتجاج في صفوف النقابات، بالإضافة إلى سيطرته المطلقة على الإعلام المكرّس لتمجيد القائد، مهما ارتكب من تجاوزات ومن أخطاء اقتصادية أو إدارية، أو حتى لو ارتكب الفظائع التي تصل إلى الخيانة العظمى، كما فعل بشار الأسد من تدمير وتعذيب وتسليم للبلاد ومواردها إلى القوى الأجنبية.
مقاومة الاحتجاج هي الأساس في تثبيت الحكم المطلق والاستبداد المستدام في بلادنا خلال العقود الماضية، وما هذه المؤسسات التي كانت تملأ الحياة العامة والسياسية في البلاد إلا قلاع لمقاومة الاحتجاج، رغم أن الاحتجاج في البلدان الأخرى هو وسيلة للتفاوض، وإعادة النظر بالقوانين، والتقاليد السائدة، ووسيلة لتقويم الاقتصاد والسياسة، وكل تجليات الحياة العامة، بما فيها وضع المرأة في بلادنا التي صارت مثار انتقاد وقلق من تغييب نصف المجتمع تحت ركام من الهراء والتقاليد السامة.
ولعل أهم ما قامت به الثورة السورية في مطلع آذار 2011 هو إطلاق قوة الاحتجاج، ما جعل الشعب السوري ينزل بكل أطيافه إلى الشارع، ويطالب بوجوده، وبحقه في المشاركة السياسية والاقتصادية بالبلاد بعد عقود من الطغيان والسلوك الغاشم في كتم أنفاس المجتمع ونهب ثروات البلاد.
اليوم ونحن نشاهد مئات الألوف من المحتجين الفرنسيين وهم يحاولون إجبار الحكومة على تغيير سياساتها أو تعديلها على الأقل، نكتشف أن الاحتجاج قوة كبيرة قادرة على البناء وإطلاق الإبداع، وليست كما تقول أجهزة النظام بأنه خيانة وطنية، وعمالة أجنبية، بل هو الوسيلة الفعالة لإزالة الأوثان وتحطيم هيمنتها على حياتنا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :