مراكز تطوير الوعي السياسي.. حاجة ملحّة لمستقبل السوريين

  • 2023/01/31
  • 5:20 م

خلقت الثورة السورية وما طرأ على الشأن السوري دوليًا من متغيرات خلال السنوات الماضية، الحاجة إلى توعية وتنمية جيل الشباب سياسيًا، إذ تعد الخبرة والوعي والإدراك السياسي من أولى خطوات الحصول على نتائج إيجابية في القضايا السياسية، وذلك بالاستناد إلى معلومات أكاديمية وإدراك عميق للعمل السياسي.

وما عزز هذه الحاجة، فشل المعارضة السياسية حتى الآن في تحقيق أي تقدم ملموس على صعيد تحقيق تطلعات الشعب، من تغيير سياسي، كأبرز المطالب التي خرجت في الهتافات الأولى للثورة.

ونتيجة لهذه الحاجة، نشأت العديد من المراكز الأكاديمية المتخصصة في هذا السياق، بأهداف حملت تحت عناوينها العريضة توعية الشباب سياسًا، ليس فقط للمتخصصين، وطلاب العلوم السياسية، وإن كانت هذه الفئة من أكثر رواد هذه المراكز، بل أيضًا لتوعية الفئات المختلفة من شرائح المجتمع بالشؤون السياسية.

“مقاربات” أحدها

مركز “مقاربات للتنمية السياسية” كان أحد أبرز هذه المراكز، أنشئ عام 2019 في مدينة اسطنبول التركية، بدواعٍ وأهداف متعددة، من أبرزها تلبية حاجة السوريين في استعادة قرارهم وحياتهم السياسية المشروعة، كباقي دول العالم المتحضر، وملء الفراغ والفقر السياسي الذي يعانيه السوريون، بالإضافة إلى الحاجة الماسة لبناء كوادر سورية، قادرة على الممارسة السياسية، و متدربة على أسس العمل التنظيمي والحزبي، والشأن السياسي والدبلوماسي، مع امتلاك مهارات التحليل والبحث السياسي والتفكير، والتخطيط الاستراتيجي.

يجري المركز العديد من الدورات المتخصصة بالاشتراك مع جامعات ومراكز متخصصة، كما يقدم برامج دورية عبر منصته في “يوتيوب” لذات الأهداف، في مختلف المجالات منها السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، تخرج في دبلوم “أسس العلوم السياسية” الذي قدّمه المركز بالشراكة مع “المركز الدولي للتمكين القيادي” بجامعة طرابلس بلبنان 23 طالبًا وطالبة، وفي دبلوم “الممارسة السياسية” 39 طالبًا وطالبة، كما أطلق المركز، في تشرين الثاني 2022، دبلوم “التأثير المدني والسياسي”.

كما يعمل المركز على مجموعة من النشاطات والحزم التثقيفية والدورات التأهيلية، في جامعات و مراكز ضمن مناطق الشمال السوري

وعبر منصاته في وسائل التواصل الاجتماعي، أنتج المركز نحو 130 حلقة من برنامج “تأسيس سياسي” مع نخبة من الأكاديميين وأصحاب الفكر والتجربة السياسية، وسلسلة لقاءات حوارية دورية تتعلق بملفات الثورة السورية.

ينظم المركز عدة فعاليات شهرية، منها “ديوان علي عزت بيغوفيتش” بحضور عدد من طلاب العلوم الاجتماعية والفاعلين السياسيين، و”صالون القراءة السياسي” الذي يهدف لمناقشة الكتب السياسية مع مؤلفيها إن أمكن، وبحضور أكاديميين متخصصين، وغيرها من الورشات الدورية منها بالحضور الفيزيائي أو عبر الإنترنت.

المدير التنفيذي لمركز “مقاربات للتنمية السياسية، مؤيد حبيب، إلى جانب الباحثة السورية رغداء زيدان- 5 من كانون الثاني 2022 (مركز مقاربات)

لـ”تمكين الطاقات الشابة”

المدير التنفيذي لمركز “مقاربات للتنمية السياسية” والحاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، مؤيد حبيب، قال إن المركز يقيم العديد من الندوات والدورات التي تهدف إلى نشر الوعي السياسي لغير طلاب العلوم السياسية.

وأضاف حبيب، في حديث إلى عنب بلدي، أن المركز يُعنى بالتأهيل والتدريب والتثقيف وفتح مساحات للحوار بين الناشطين والمهتمين بالعمل السياسي، ويهدف إلى تمكين الطاقات الشابة (بغض النظر عن تخصصها)، وتطوير أدواتها المعرفية لتكون أكثر فاعلية ومشاركة في الشأن العام.

ومن ضمن أنشطة المركز إطلاق حزم تثقيفية عامة بشكل دوري، تتميز ببساطتها وإيصال المعلومة بطرق سهلة يفهمها الجميع من عامة الناس المهتمين بالشأن السياسي.

ويرى حبيب أن كلًا من الدورات التثقيفية لعامة الناس أو لطلاب الجامعات تترك أثرًا، إذ يكون لإقامة الدورات العامة أثر مباشر مطلوب، لأن المشاركة السياسية والعمل السياسي لا يقتصران على النخب، وهما ملك للجميع.

بينما يركز “مقاربات” في نفس الوقت على طلاب الجامعات من خلال عدة برامج مدروسة ومكملة لهم، لتهيئة نخب سياسية متخصصة تقود المجتمع في المستقبل، “فنحن كسوريين نفتقر للنخب السياسية الفاعلة، وهذا ما خلّف شتاتًا وتصحرًا سياسيًا لدينا”، بحسب ما قاله المدير التنفيذي للمركز، مؤيد حبيب.

في الشمال تصطدم بمعوقات

بدأ عمل مركز “مقاربات للتنمية السياسية” في مناطق الشمال السوري بدورات وندوات أقيمت عبر الإنترنت، لكن هدفه المتمثل بتلبية حاجة السوريين وملء الفراغ والفقر السياسي الذي يعانونه، أوجب على المركز العمل الفيزيائي داخل الشمال وبين سكانه.

يقيم المركز العديد من الندوات التثقيفية من خلال المشاركة والتعاون مع عدد من الجامعات والمراكز، كجامعة “حلب الحرة” وجامعة “النهضة” و”مركز تشارك” في اعزاز بريف حلب، ومركز “نجم” في إدلب.

المدير التنفيذي، مؤيد حبيب، اعتبر أن الإقبال على هذه الدورات “كبير”، بسبب أهمية العناوين التي يتم تقديمها، وفتح مساحات للحوار تولد توصيات وحلولًا تخدم القضية السورية، وسط خطة لتعزيز وجود هذه الدورات في الشمال هذا العام من خلال إطلاق برامج جديدة هناك.

نقاش سياسي في مركز “مقاربات” حضره الباحثان السوريان عمار القحف ومعن طلاع في تشرين الأول 2021 (مركز مقاربات)

لكن العمل بالتوعية السياسية في مناطق الشمال السوري حيث تسيطر حكومات الأمر الواقع لا يخلو من المعوقات.

مدير البحوث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن من أهم معوقات عمل التوعية السياسية في الشمال السوري حجم الفجوة “الكبيرة جدًا” المرتبطة بالوعي السياسي.

وأوضح طلاع أن هذه الفجوة نشأت نتيجة مجموعة من الأسباب، جزء منها البرامج التي كانت تطرح في مفهوم التوعية السياسية والتي كانت لديها أزمة خطاب، بمعنى أنها لا تعلم طبيعة التحولات وطبيعة الصراع الناشئ في الجغرافيا السورية، فيأتي خطاب التوعية السياسية خطابًا كلاسيكيًا جامدًا.

كما تعد أزمة المناهج واحدة من الأسباب التي أسهمت في تشكيل هذه الفجوة، إذ ترتبط بالمواد التوعوية التي تهدف للتوعية السياسية، إذ يعتمد بعضها مبدأ المحاضرات، والندوات التنظيرية من نخب سياسية وثقافية، وبالتالي وجود هوة بين المتحدث والمتلقي، أو بمعنى آخر هي من ضمن حزمة دروس نظرية بحتة يغيب عنها الشق العلمي، بحسب طلاع.

تكبر هذه الفجوة في ظل أن منهج التعاطي مع مفردات الوعي السياسي هو منهج لا يراعي أدوات التواصل والأدوات التي تسهم في جعل الهدف من التوعية السياسية هدفًا ناجعًا وقابلًا للقياس.

الباحث معن طلاع.

وأضاف طلاع أن هناك جزءًا إضافيًا من عوامل تشكّل هذه الفجوة، منها غياب الحافز عن المتلقي، أو عند المستجيب، فأمامه جملة من المحبطات سواء فيما يتعلق بالواقع المعيشي الصعب، وفي واقع تعليمي يشوبه العديد من التحديات، وضيق على كل المستويات، بالإضافة إلى غياب الأمل في حل سياسي.

ومن بين المعوقات الإضافية، يرى طلاع أنه لا يمكن لأي مشروع يطمح لمخاطبة الشباب وزيادة التوعية والتنشئة والتنمية السياسية لديهم أن يعمل منفردًا، وبالتالي لا بد من شركاء، لكن هؤلاء الشركاء، سواء كانوا حكوميين أو حتى محليين، لا تزال عوامل عدم التنسيق بينهم كبيرة ومتفاوتة، سواء لأسباب ذاتية أو لأسباب موضوعية، بحسب تعبيره.

محاضرة بهدف رفع الوعي السياسي للشباب السوري في مدينة مارع بريف حلب شمالي سوريا في 25 من تشرين الثاني 2022 (مقاربات)

تعطش رغم المعوقات

منذ بدء العمل الفيزيائي لمركز “مقاربات” في الشمال السوري، شارك الباحث معن طلاع في العديد من الندوات والمحاضرات وبرامج العمل التي أقامها المركز هناك، موضحًا أن هذه الندوات شهدت إقبالًا واضحًا خاصة لدى الشباب.

فسر طلاع هذا الإقبال بخطاب هذه البرامج ومنهجيتها، معتبرًا أنها أولًا وبشكل عام كسرت احتكار المنبر السياسي من قبل جهات محددة، وتمكنت بطريقة لا تخلّ بالمعرفة السياسية من أن تبسط مفردات هذا المجال وتقدمها بصيغ قابلة للفهم من قبل المعنيين و المستجيبين في هذا الموضوع.

كما يرى طلاع أن تقديم مركز “مقاربات” لهذا النشاط السياسي أو المحاضرات، دون غاية حزبوية أو أجندة أيديولوجية، أسهم أيضًا في زيادة الرغبة بالالتحاق بهذه البرامج.

ولعب القائمون على فكرة البرنامج في مركز “مقاربات” جزءًا من هذا الإقبال والحافز، كونهم من فئة الشباب، ويدركون حجم الإشكاليات والطموحات، حتى صاغوا برامج و أنشطة تناسب عقلية هؤلاء الثوار والناشطين في المجال العام بالداخل السوري وخارجه، بحسب الباحث.

ويدل هذا الإقبال، وفق ما يرى طلاع، على وجود تعطش حقيقي في الداخل السوري للانخراط في الفضاء السياسي، الذي بات حكرًا على قوى تقليدية، أو بات ممنوعًا من بعض القوى في المجال العام.

ومما لا شك فيه أن غاية كل مراكز التفكير والتنمية السياسية تنحصر بجعل المنطقة المدروسة أفضل مما هي عليه، سواء من حيث المعرفة أو من حيث السياسات أو من حيث معالجة التحديات، بحسب الباحث، مضيفًا أن من القضايا التي يجب العمل عليها في الأعوام المقبلة، الدخول في حقل الهويات والانتماءات، وهي قضايا تفرض نفسها في ظل العديد من الانتكاسات التي شهدتها المنطقة عبر عشر سنوات.

وأوضح طلاع أنه يجب العمل على هذه القضايا بطريقة منهجية علمية بسيطة متماسكة تعزز هذه الهوية وهذا الانتماء بمكان ما، وبالتالي هنا نكون على الأقل نعمل على صيانة الحامل الاجتماعي للتغيير أو حتى للصمود ولصيانة النفس، وبالتالي هذا أمر بالغ الأهمية يجب العمل عليه في السنوات المقبلة، بحسب الباحث.

حفل توزيع شهادات لخريجي “دبلوم الممارسة السياسية” في الشمال السوري في آذار 2022 (مركز مقاربات)

ما الأثر؟

حول أثر توعية الشباب السوري سياسيًا في مستقبل القضية السورية، اعتبر الدكتور في الفكر الإسلامي عبد الكريم بكار، أن الوعي الذاتي هو الإدراك العميق من قبل الشخص لأوضاعه الشخصية، وللمحيط الذي يعيش فيه، إدراك عميق للذات ولمحيطها.

بينما يعد الوعي بعمل السياسة وعمل الماكينة السياسية وكيف تتصرف الحكومات وكيف تواجه الإكراهات المختلفة، وكيف تبني التحالفات، وغيرها من قضايا الشأن السياسي، مهمًا جدًا لكل شاب وشخص، إذ إن ما يقلل من تعرض الشعوب للخديعة هو وعيها، بحسب ما يرى الدكتور بكار في حديث إلى عنب بلدي.

وأضاف بكار أن التوعية السياسية قد تؤدي إلى أن يسهم الشباب الحر والوطني والشريف في تشكيل الطبقة السياسية، ما يعني أن تتشكل لدينا مع الأيام طبقة سياسية لا يغلب عليها المندفعون وأصحاب المشاريع الشخصية، وأصحاب الانتماءات الضيقة، بل ممن لديهم خبرة بالشأن السياسي.

وحول متطلبات تحسين الوعي السياسي لدى السوريين، وتحفيز رغبتهم بالانخراط في هذه القضايا، يرى بكار أن أبرزها وجود المؤسسات التي تنشر الوعي السياسي (الأكاديميات، مراكز الأبحاث، مراكز الإعلام السياسي، الدورات التدريبية، المحاضرات، الدورات، الحوارات، الندوات، اللقاءات، وغيرها) فهذه جميعها أدوات لنشر الوعي السياسي.

الدكتور في الفكر الإسلامي عبد الكريم بكار (مركز مقاربات)

معنيان للوعي السياسي

الأستاذ في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة “القاهرة” منذ عام 1998، الدكتور والأكاديمي المصري سيف الدين عبد الفتاح، يرى أن الوعي السياسي للشعوب يتعلق بمعنيين مهمّين في الوعي السياسي، هما الوعي السياسي الآني والوعي السياسي الممتد.

وأوضح عبد الفتاح، في حديث إلى عنب بلدي، أن الوعي السياسي الآني هو الذي يرتبط بالموقف، والشأن الحاضر، وبالأمور الجارية، كل هذه الأمور تشكّل مجالًا لوعي سياسي آني بما يرتبط بجملة القضايا التي تظهر على الساحة الآن، بينما يكون الوعي السياسي الممتد تدريبًا لهذه الشعوب على نوع من الممارسة السياسية القائمة على العمق والفاعلية والتأثير.

ومن هنا فإن المسألة المتعلقة بالوعي السياسي الممتد ترتبط بهذا الوعي السياسي الآني أو بالمدى القصير، ولكن أيضًا ترتبط بشكل وبنوعية الثقافة السياسية التي يجب أن تتوجه إلى هذه الجماهير، وقدرتها على المطالبة بحقوقها، ومواجهة الاستبداد الذي قد يتسرب إلى حياتها، القدرة الكبيرة لهذه الجماهير على تكتيل حركتها في مواجهة أي حاكم مستبد أو كل الأمور التي تتعلق بآلية حكم المستبد فيها في هذا المقام، ومن هنا فإن المسائل التي تتعلق بالوعي ترتبط بهذين المستويين من الوعي.

الأكاديمي المصري سيف الدين عبد الفتاح.

 

ويتعلق الوعي السياسي بأمور مهمة ومعلومات أساسية، حول حقوق الإنسان، والتعرف على هذه الحقوق، والوعي بها، والمداخل التي تتعلق بالممارسة فيها، والأمور التي تتعلق أيضًا بقدرته على مواجهة كل من يقوم بانتهاك هذه الحقوق والكيفية التي يتعامل بها، بحسب ما أوضحه عبد الفتاح.

وتشكّل كل هذه الأمور مجالًا لما يمكن تسميته الوعي السياسي، سواء كان آنيًا، لارتباطه بقضايا موجودة حاليًا وآنية، أو الوعي الممتد الذي يشكّل حقيقة الثقافة السياسية التي تتأثر بمسالك التنشئة السياسية التي يُدرب عليها في إطار الأسرة، والمدرسة ومعاهد التعليم والجامعات.

ويرى عبد الفتاح أن الوعي السياسي للشعوب يرتبط بالبيئة الموجودة، وبالوعي والمعرفة المسؤولة والملتزمة من جانب كل فرد حيال ما يتعلق بقضاياه التي ترتبط به، وكذلك بقضايا الوطن، فإن هناك جملة من القضايا التي تتعلق بالوطن تتطلب قدرًا من الوعي السياسي الذي يرتبط بهذا السياق.

وبحسب ندوة أجراها مركز “نما للأبحاث المعاصرة” في أيلول 202، حول “دور الوعي السياسي في تطور المجتمعات- سوريا نموذجًا”، يعتبر الوعي السياسي عنصرًا أساسيًا في تشكيل الثقافة السياسية للمجتمع وبالتالي تحديد السلوك السياسي العام للأفراد، وبعد عام 2011، أظهر الشعب السوري ملامح وعي سياسي لجهة تحديد مطالبه القيمية كالحرية والكرامة، لكنه أظهر أيضًا ملامح عدم نضوج سياسي في تعامله مع المتغيرات السياسية اللاحقة.

الأكاديمي الدكتور سيف الدين عبد الفتاح في نقاش حول ثورات الربيع العربي في حزيران 2022 (مركز مقاربات)

مقالات متعلقة

  1. ندوات حوارية لزيادة الوعي السياسي في الغوطة
  2. نحو "عهد جديد".. منتدى الشرق الشبابي يعقد دورته الثالثة في اسطنبول
  3. الأكاديمية العلمية للتنمية البشرية توقع اتفاقية مع حلب
  4. مثقفو الغوطة يناقشون موقعها في المعادلة السياسية السورية

سوريا

المزيد من سوريا