صفوان قسّام
يُحكى أن العين البشرية من العيون النادرة، إن لم تكن الوحيدة، في الأرض التي يمكن لها رؤية جميع ألوان الطيف، وربما رؤيته من الأساس؛ وألوان الطيف، أو كما تشيع تسميتها “قوس قزح”، هي انكسار أشعة الشمس عند اختراقها للهواء المثقل بقطرات المطر ورذاذ الماء وتحللها إلى الألوان المكونة لها، ولأنها تحاكي أشعة الشمس الدائرية، تأخذ شكل قوس ملونة يمكن تمييز سبعة ألوان أساسية فيها، والتي يرجع وضعها إلى عالم الفيزياء الشهري نيوتن، رغم أن عدد الألوان كما أثبتت الفيزياء الحديثة في قوس قزح، لا تقف عند سبعة وحسب، لأن العلماء لم يصلوا إلى نهاية تدرجات واضحة في عددها بعد.
وإن أطلنا قليلًا في الفيزياء، يتفرع شعاع الشمس إلى أشعة ملونة مختلفة في الخصائص، فنجد أن الشعاعين الأحمر والأصفر أطول من غيرهما، ولذا كانا الوحيدين القادرين على اختراق الغلاف الجوي للأرض (الأوزون) في الصباح والمساء، فلا يصلنا من أشعة الشمس عند الشروق والغروب إلا مزيجهما البرتقالي المائل إلى الحمرة. بل إن الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية التي لا نراها، هي امتداد أيضًا للقوس، إذ ثبت أن الأشعة غير المرئية في قوس قزح لا منتهية وذات أهمية عالية، فهي تستخدم في علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والطب والتكنولوجيا والحياة اليومية كطهي الطعام… فتنقل ترددات الراديو والرادار والتلفاز وتكشف الكسور وتصوّر في الظلام وتظهر الأبعاد غير المرئية وتنضج الطعام وتغلي الماء، وكل ما علينا هو اكتشاف موجة ما في هذا الطيف اللامنتهي واللامرئي من أشعة الشمس المنكسرة هذه، يمكن لها القيام بوظيفة ما للاستفادة منها.
قبل هذه الاكتشافات بقرون كان الناس يعتقدون أن قوس قزح هو طريق من الأرض إلى السماء، وربما سارت عليه آلهة اليونان والإغريق ورسلها، وفسره الفلاسفة بأهواء عديدة، ويُروى أنه كنّي بألقاب عربية، بعضها وصفه بأنه قوس الشيطان من باب الادعاء أن “قزح” هو اسمٌ للشيطان، لكن ذلك بطُل، وبعضهم قال إن علينا أن نسميه قوس “الله” أو “المطر”.
وكان له في علوم التربية بحث آخر؛ فصار قوس قزح رفيقًا للطفولة والتعلم والتربية والمتعة والخيال والبراءة لدى الأطفال، وشعارًا للطفولة في عدة جهات؛ ألوانه ورسوماته تضفي على جدران المدارس والرياض بهجة، وتذهب الملل عنهم في تلقيهم للتعليم والتربية في مساحاتها التعليمية، وتساعدهم على تعلم الألوان ذاتها، وتعميمها على البيئة المحيطة والكتابة والقراءة وغيرها من الفوائد، ولها في قصص الأطفال موقع فريد، من خلال محاكاة خصائص مرحلة الطفولة التخيلية، وربطها بالعالم والمرحلة السحرية التي تنمي ذكاء الطفل بِرَيِّها، وارتبط هذا الرمز لدينا بالبراءة وحب الحياة والسعادة والأمان وغيرها، فمن منا لم يحاول تصوير قوس قزح عندما يبزغ أو وقف متأملًا فيه وربما تذكر أول انفعالاته الطفولية حين رآه أول مرة!
بعد هذا الشرح المطول حول معاني وتاريخ وأبعاد قوس قزح العلمية، وارتباطاته الرمزية ودلالته الجميلة في نفوسنا ومجتمعنا، نجد أن فئات في الغرب، خرجت لتعطي رمز الطفولة الملون، تفسيرًا دون مراعاة لأي اعتبارات تربوية أو اجتماعية أو ثقافية، من باب أناني فقط، فحولت البراءة كلها بلحظة إلى مفهوم مناقض تمامًا لها، وربط الرمز بأمور شائكة اجتماعيًا وأخلاقيًا ونفسيًا وقانونيًا وعلميًا بشكل قسري رغم أنف الطبيعة. الرمز الذي ارتبط بالفيزياء والفلك وعلم الأحياء وطب العيون، وبتفسير الثقافات له، والتربية والبراءة صار فجأة رمزًا للتوجهات الجنسية التي تثير العديد من الأسئلة الاجتماعية، والتي نقف جميعًا مواقف متناقضة ومتخبطة وغير متوازنة منها.
حتمًا، تختلف الخصائص المجتمعية والثقافية بين المناطق الجغرافية والمجتمعات، ففي الوقت الذي نرى فيه أن التربية الجنسية في دول الغرب الأوروبي والأمريكي ومن دار في فلكهم أمر شائع ومُتَقَبّلٌ وضروري تبعًا لطبيعة مجتمعاتهم، فإنه ورغم أهميته النفسية والاجتماعية في منطقتنا يبقى غير مقبول من المجتمع، وليس السبب في أن هذا الموضوع غير ضروري وملح، إنما لأن المجتمع لم ينضج بعد، ويتعامى عن عيوبه ويرفض لوازم إصلاحها أيضًا بحجة الأخلاق والعرف والتسامي. ورغم أن المجتمعات الغربية ذاتها لم تحسم أمرها بعد في هذه المسائل الأخلاقية، فإن مجتمعاتنا التي لا تزال تعيش في مرحلة ما قبل التربية الجنسية للأطفال في المدارس، تجد نفسها فجأة مُطالبة باعتبار قوس قزح رمزًا للمثلية الجنسية وسحبه من رمزية الطفولة. أو ربما كان هذا الاعتبار مدروًسا حتى يتعايش الأطفال مع هذه الفئات باكرًا ويعتادونها.
وهنا نقف أمام اعتبارات لا يراها أولئك المدافعون عن هذا الاجراء، فكيف يمكن تعليم الأطفال أن الرجال يحبلون ويلدون؟ وأن الأسرة يمكن أن تكون من امرأتين فقط وأطفال؟ أو من رجلين وأطفال؟ كيف يمكن تعليمهم أن الميول الجنسية غير الطبيعية طبيعية، حيث يمكن لهم ممارسة الفاحشة مع أقرب الناس لهم تحت حماية القانون؟ يومها سيكون نمط الأسرة التقليدية محط شك وتهديد ورفض من قبلهم عندما يكبرون، إذ تعتبر هذه الدعاوى خطيرة ومهددة للتماسك الاجتماعي.
العاملون في الشق التربوي والنفسي والاجتماعي عارفون أن للأسرة دور مهم وأساسي في توازن الأطفال والمجتمع، وتنظيم حياتهم النفسية والاجتماعية والجنسية، وهدمها أو تغير نمطها يهدد ببلوغ المجتمعات مبلغ الكوارث الاجتماعية.
بعد كل هذا نجد الكثير من المتحمسين/ات، في مجتمعنا يطالبون بفرض هذا الأمر ومناصرته، ضاربين بعرض الحائط خصائص المجتمعات وساعين لتحويل مجتمعنا إلى مجتمعات لا تشبهنا! إلى هؤلاء نقول: هلا تركنا الأطفال بعيدًا عن مشاكلنا من فضلكم؟
لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ نجد من بين التفسيرات لعلم المثلية، تفسيرًا يعتبر أن ألوان علم قوس قزح السبعة تشمل كل الاتجاهات الجنسية الطبيعة وغيرها، في محاولة لدمج الاتجاهات الجنسية كلها في علم واحد، حتى تعطي مسحة من الاعتياد على وجود نمط طبيعي واحد، وستة أنماط غير طبيعية، علما أن هناك من يوصلهم إلى 15 اتجاهًا جنسيًا.
المهم، أن عملية إقحام الفئات التي لا تعبر عن النمط الشائع هي عملية مستمرة وتخترق كل تفاصيل حياتنا، ويمكن لمن أراد أن يفتح على الرسومات في “واتساب” وسيرى رجلًا “حاملًا” وعائلة من رجلين وأطفالًا أو رجلين بينهما قلب الحب، وأيضًا نساء.
عندما نصف المجتمعات وخصائها في العلوم الاجتماعية، نأخذ دائمًا بالأنماط الشائعة، مع التنويه إلى الأنماط غير الشائعة، ولا يجوز القول إن نمطًا وحيدًا من بين ملايين الأنماط هو الطاغي عليها، وعلى ما يبدو أن تكثيف الجهود لتعويم الأنماط غير الشائعة الذي ابتدأ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قد بدأ يثمر وبتسارع، والمشكلة تحديدًا ليست في ممارسة هذه الفئات حريتها وحقوقها، لكنها في تربية أجيال على ثقافتها وإقحامها في أنوفنا بدلًا من وضع أنفسهم في المكان الطبيعي لنشاطهم، كما يفعل كل الأفراد الذين يحترمون خصوصية أنفسهم ومجتمعهم، ويفهمون أن حريتهم تنتهي عندما تبدأ حدود الآخرين.