عنب بلدي – لجين مراد
“لليوم ما منسترجي نقول الله يرحمه”، عبارة قالتها رئيفة الحاج صالح بلهجة رقاوية يتخللها صوت مرتجف، واصفة حالة عدم اليقين التي تعيشها عائلتها منذ اختطاف شقيقها فراس على يد تنظيم “الدولة الإسلامية” في الرقة، بين الأمل بعودته واليأس من ذلك.
ورغم مضي حوالي عشر سنوات على اختطاف التنظيم لفراس الحاج صالح، وهو ناشط معارض للنظام في الرقة، لا تزال عائلته بانتظار أيّ إجابة تكشف عن مصيره.
عائلة فراس واحدة من مئات العائلات التي تعيش انتظارًا لا تُعرف له نهاية، بينما يغيب الأثر الملموس لجهود دولية أو محلية حيال ملف للمفقودين والكشف عن الجهات المتورطة فيه.
ترك تنظيم “الدولة” وراءه ذاكرة ممتلئة بصور الموت، وعشرات المقابر الجماعية لضحاياه، وأخرى لضحايا عمليات التحالف الدولي التي طالت المدنيين خلال الحرب على التنظيم.
في أواخر 2022، أطلق “فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري” و”المركز السوري للعدالة والمساءلة” حملة بعنوان “طمنونا”، لتسليط الضوء على ملف المفقودين شمال شرقي سوريا.
وتناقش عنب بلدي في هذا الملف بعض الجهود المبذولة للكشف عن مصير المفقودين، ومستقبل مئات المقابر الجماعية في شمال شرقي سوريا، كما تحاول قياس أثر تلك الجهود، وتسليط الضوء على معوقات الوصول إلى نتائج ملموسة.
آلاف الضحايا.. فمن المتورطون؟
تعاقبت القوى العسكرية المسيطرة على شمال شرقي سوريا، وتحوّلت المنطقة لسنوات إلى “أرض الخلافة”، بنظر تنظيم “الدولة”، فيما اعتبرها التحالف الدولي لمحاربة التنظيم وكرًا لـ”الإرهاب”.
وبالنسبة لأهالي المنطقة، تحولت قراهم ومدنهم إلى مساحات “متشحة بالسواد”، حيث الكثير من ذكريات الموت والخوف والخراب، أخفت تحتها جثثًا للآلاف من أحبتهم.
مجازر عديدة، ومقابر لم يُعرف عددها الحقيقي بعد، جعلت ملف المفقودين في تلك المناطق من أكثر ملفات الصراع في سوريا تعقيدًا، وتركت العاملين بهذا الشأن أمام طريق طويل من البحث الذي يتطلب جهودًا كبيرة.
ورغم تعدد الجهات المتهمة بارتكاب المجازر، يعد “التحالف الدولي” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، أبرز المتهمين.
“الاستقلالية”.. أول الخطوات
خلال عام 2018، بدأ الحديث عن دور “فريق الاستجابة الأولية” التابع لـ”الإدارة الذاتية”، المظلة السياسية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في فتح المقابر الجماعية والبحث عن المفقودين، وسط اتهامات بتواطؤ الفريق لطمس ملامح الجريمة.
ورغم جهود الفريق خلال عمله ضمن “الإدارة”، تعد الاستقلالية والحيادية الجزء المفقود في عمله، وفق ما يراه الناشط هيثم الغرسي المنحدر من الرقة، وهو عضو في فريق طرح مشروعًا لإنشاء “بنك الـDNA” (الحمض النووي) للكشف عن مصير المفقودين.
وأضاف الناشط، العامل سابقًا لدى “اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة”، أن “قوات سوريا الديمقراطية” والتحالف الدولي، متورطان بارتكاب المجازر، ما يفرض أن يكون العمل بهذا الملف بعيدًا عن قبضتهم.
وباعتبار الاستقلالية أساس العمل في ملف المفقودين، توجه “المركز السوري للعدالة والمساءلة” للدفع باتجاه استقلال الفريق عن “الإدارة الذاتية” بشكل كامل.
ومنذ أواخر عام 2020، استقل الفريق، وبدأ العمل تحت مسمى “فريق شؤون المفقودين والطب الشرعي السوري”.
وتلقى الفريق تدريبات من قبل “الفريق الأرجنتيني لأنثروبولوجيا الطب الشرعي” (EAAF)، كما بدأ العمل على التحقيقات السياقية، وفق ما قالته مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين في “المركز السوري”، جمانة السلمان.
ولأن الجثث الموجودة تعود لضحايا مختلف أطراف النزاع، يجعل استقلالية الجهة العاملة بملف المفقودين أول خطوات العمل في هذا الملف، بحسب السلمان.
لأن الجثث الموجودة تعود لضحايا مختلف أطراف النزاع، فاستقلالية الجهة العاملة بملف المفقودين أول خطوات العمل في هذا الملف.
جمانة السلمان مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين في “المركز السوري للعدالة والمساءلة” |
وفي حين يتطلب العمل على هذا الملف “تمويلًا كبيرًا”، تصعّب تبعية الفريق لـ”الإدارة” حصوله على تمويل، بحسب ما قالته السلمان، كما أن العمل يتطلب أن تكون الجهة المشرفة عليه متخصصة، ولا تمتلك “الإدارة” هذه المؤهلات.
استجابة “طارئة”
رغم مضي نحو ست سنوات على خروج التنظيم من المنطقة، والمطالب المستمرة بالكشف عن مصير المفقودين، وهوية آلاف الأجساد المدفونة تحت الركام، ما زال العمل في المقابر الجماعية يقتصر على “الاستجابة الطارئة”.
وقالت مديرة المشروع في “المركز السوري”، إن الفريق كان مجبرًا على التعامل مع المقابر السطحية التي اكتُشفت خلال عمليات إصلاح البنى التحتية.
وحول آلية التعامل مع تلك الجثث، قالت السلمان، إن “فريق شؤون المفقودين”، يأخذ الجثث لـ”توصيفها” من قبل الطبيبين الشرعيين في الفريق.
ويحدد الطبيب الشرعي جنس الجثة وطريقة القتل، بالإضافة إلى تحديد عمرها وبعض التفاصيل التي يمكن أن تسهم بتحديد هويتها.
كما تُؤخذ ثلاث عينات، وهي عينة من الشعر ومن عظم الفخذ ومكان ثالث من الجسم، وتحفظ مع معلومات الجثة والمتعلقات التي كانت مدفونة معها.
شواهد على الانتهاكات
يحوي كل شارع من شمال شرقي سوريا آثار “خلافة” التنظيم التي استمرت لثلاث سنوات، طُمست خلالها معالم المنطقة، وحوّلتها إلى دمار شبه كامل طال البشر والحجر.
وشارك التحالف الدولي بتدمير ما نجا من المنطقة، جرّاء تنفيذ ضربات لم تفرق بين مدني وعسكري خلال حربه على “الإرهاب”.
ومن أبرز شواهد تلك الحقبة، السجون التي أُخفي فيها مئات المدنيين والمقابر الجماعية العشوائية، إلى جانب حكايات يرويها أهالي المنطقة.
ويتطلب الوصول إلى نتائج تكشف مصير المفقودين، العمل على مقاطعة المعلومات المستخلصة من تلك الشواهد، وهو ما يقوم به “فريق شؤون المفقودين”.
الفريق يعمل على “تحقيقات سياقية”، استطاع من خلالها تحديد مواقع العديد من المقابر الجماعية، وسجون التنظيم، بالإضافة إلى التوصل إلى معلومات أولية حول الجثث المدفونة في بعض المقابر، وفق ما قالته مديرة المشروع في “المركز السوري”، جمانة السلمان.
التحقيقات السياقية:
عملية جمع المعلومات من مختلف أنواع الشهود لمقاطعتها وتحديد مواقع المقابر الجماعية والسجون لتضييق نطاق البحث عن المفقودين. |
وتوضح السلمان، أن الفريق عمل على جمع هذه المعلومات من خلال التواصل مع عائلات المفقودين وشهود مقسمين إلى أربعة أنواع:
– المجتمع المحلي.
– الناجون والناجيات من سجون التنظيم.
– الشهود المطلعون (أشخاص عملوا بمهن تشغيلية ضمن التنظيم).
– أشخاص عملوا سابقًا في صفوف التنظيم وتورطوا بانتهاكات (قضوا عقوبتهم في سجون “الإدارة” أو يحاكمون خارج سوريا مثل خلية “البيتلز”)
ويشارك “المركز السوري” خرائط وبيانات توضح مواقع السجون التي توصل إليها من خلال الشهود، بالإضافة لإتاحة معلومات حول تلك السجون.
عراقيل تطيل عذاب العائلات
“ملف المفقودين جرح نازف في قلوبنا، وسيظل نازفًا إن لم نحصل على إجابات حول مصير أحبتنا”، بهذه الكلمات، وصفت رئيفة الحاج صالح لعنب بلدي حال عائلات المفقودين في سوريا، ومن بينهم شقيقها.
وبعد مضيّ 12 عامًا على بدء الصراع، لم يتوقف عداد المنظمات السورية عن رصد المزيد من المفقودين، جرّاء استمرار عمليات الخطف والاعتقال والإخفاء القسري من قبل مختلف أطراف الصراع.
كما عطّل استمرار الصراع وغياب الاستقرار السياسي معظم الجهود المبذولة حيال ملف المفقودين، وترك آلاف العائلات تعيش على بقايا أمل معلّق على جهود المنظمات.
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال إن الاستقرار السياسي أساس التوصل لنتائج ملموسة من قبل الجهات العاملة بملف المفقودين، خصوصًا في ظل تورط مختلف الأطراف فيه.
وتشمل الجهود المرجوّة من قبل المنظمات، تقديم الإجابات للعائلات وتعويضهم، ومحاسبة المسؤولين عن معاناتهم، وفق ما قاله الأحمد، لعنب بلدي.
ويحدّ غياب الاستقرار من قدرة “فريق شؤون المفقودين” على العمل، إذ تتطلب التحقيقات إجراء تدريبات مستمرة على يد اختصاصيين، لا يستطيع الفريق حضورها بشكل دائم، بحسب ما قالته مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين في “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، جمانة السلمان.
وأوضحت السلمان، أن أعضاء الفريق لا يستطيعون السفر بسبب عدم امتلاكهم جوازات سفر. في المقابل، يخشى الاختصاصيون من المجيء إلى سوريا “خوفًا من القصف التركي والخلايا النائمة للتنظيم”.
مخاوف من القصف وتبدّل النفوذ
يواجه “المركز السوري” العديد من المخاوف المرتبطة بعدم استقرار المنطقة، وأبرزها الخوف على عيّنات جثث استخرجها “فريق الاستجابة الأولية” قبل شراكته مع “المركز السوري”، بحسب ما ذكرته مديرة المشروع، جمانة السلمان.
ويرافق ذلك، مخاوف على أعضاء “فريق شؤون المفقودين” الموجودون في المنطقة من القصف، إلى جانب قلق من تغير خارطة النفوذ.
ويعيش أهالي المنطقة قلقًا مشابهًا، يمنعهم في كثير من الأحيان من تقديم شهادات يمكن أن تشكل أهمية كبيرة في التحقيقات السياقية.
وتدفع المخاوف “المركز السوري” لجعل سلامة الفريق والشهود أولوية في العمل، بحسب ما قالته السلمان، في إشارة إلى أن حماية الفريق والمجتمع المحلي أولوية.
وحول الجهود المبذولة لتوفير هذه الحماية، قالت السلمان، إن “المركز السوري” يتحفظ على أسماء الشهود، ويرسل منسقين للعائلات التي تواجه مخاوف أمنية من التنقل في المنطقة.
“الإدارة الذاتية” عاجزة
يرتبط الحديث عن ملف المفقودين في شمال شرقي سوريا بغياب دور “الإدارة الذاتية”، إذ لم تستطع الأخيرة الوصول إلى حلول تسهم بالكشف عن مصير المفقودين.
وترى رئيفة الحاج صالح، أن “الإدارة الذاتية” لعبت دورًا أساسيًا بإبقاء مصير شقيقها مجهولًا، وأسهمت بتعطيل ملف الكشف عن مصيره، خصوصًا في ظل وجود عشرات المتهمين بالانتماء إلى التنظيم في سجونها.
بينما قال مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، إن حجم الملف وتعقيداته، يجعل “الإدارة” غير قادرة على التعاطي معه بشكل صحيح، معتبرًا الحل خارج قدراتها.
ولا تستطيع “الإدارة”التحقيق مع المتهمين في سجونها، جرّاء عدم قدرتها على إجراء التحقيقات المطلوبة ومحاكمة المتورطين منهم، بحسب ما قالته، جمانة السلمان.
ورغم تأخر “الإدارة” في البداية لاستقلالية “فريق الاستجابة الأولية”، لم تعمل على عرقلة عمله بعد إعادة هيكلته وتدريبه ليكون “فريق شؤون المفقودين”.
في المقابل انتقد تقرير للمنظمة الدولية لشؤون المفقودين عام 2020، غياب جهود “الإدارة الذاتية” في ملف المفقودين.
وقال التقرير، إن “الإدارة” لم تحاول استجواب مقاتلي التنظيم المحتجزين في سجونها ومعسكراتها.
وبحسب التقرير، أطلقت “الإدارة” سراح مقاتلين من التنظيم، بهدف تحقيق مكاسب سياسية متعلقة بارتباط المقاتلين بالعشائر العربية في المنطقة، ما يعني احتمالية فقدان معلومات مهمة يمكن أن تكشف عن مصير المفقودين.
وتحدث تقرير صادر عن صحيفة “الجارديان” البريطانية، في تشرين الثاني 2021، عن إفراج “قسد”، عن سجناء على صلة بتنظيم “الدولة”، مقابل أموال بموجب مخطط “مصالحة”.
ووفقًا لوثائق رسمية ومقابلات أجرتها الصحيفة مع مقاتلَين أُفرج عنهما، يمكن للرجال السوريين المسجونين دفع غرامة قدرها ثمانية آلاف دولار أمريكي إلى قسم المالية في “قسد”، مقابل إطلاق سراحهم دون محاكمة.
بالمقابل، نفت “قسد” ما جاء به التقرير، معتبرة أن الصحيفة “وقعت في فخ التزوير، والشهادات التي اعتمدت عليها مزوّرة”، كما تعلن “قسد” باستمرار عن عمليات للقبض على أشخاص متورطين بعمليات تهريب عوائل التنظيم من معسكرات الاحتجاز التابعة لها.
التحالف الدولي “لا يؤتمن”
اعترف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بتورطه بقتل المدنيين خلال عملياته العسكرية ضد التنظيم، لكنّ اعترافه أظهر الحقيقة بشكل جزئي، إذ تعد أرقام المدنيين التي يعترف بقتلها جزءًا بسيطًا من تلك التي وثقتها المنظمات.
وخلق ذلك شكوكًا خلال السنوات الماضية، حيال مصداقية عمل فريق “الاستجابة الطارئة” المموّل من التحالف.
ولحقت تلك الشكوك عمل الفريق حتى بعد استقلاله عن “الإدارة”، باعتبار تمويله الأساسي ما زال أمريكيًا.
وبما أن “المركز السوري” مسجل بشكل أساسي في أمريكا، استطاع بموجب قانون حرية المعلومات إجبار الحكومة الأمريكية على تزويده بصور الأقمار الصناعية للمقابر، وإتاحة الوصول لمحاكمات عناصر التنظيم السابقين، وفق ما قالته مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين.
من جهته، استبعد مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أن يعرقل التحالف عمل المنظمات في ملف المفقودين، لافتًا إلى ضرورة الحديث عن ضحايا التحالف، وعدم التركيز على ضحايا التنظيم فقط.
المنظمات الدولية غائبة
اقتصر دور المنظمات الدولية في ملف المفقودين على حملات مناصرة، وإصدار تقارير دورية حول تطورات هذا الملف.
جمانة السلمان، مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين في”المركز السوري”، أرجعت غياب دور المنظمات الدولية، إلى غياب الاعتراف الدولي بـ”الإدارة الذاتية”.
ولا تعمل المنظمات الدولية دون الحصول على موافقة من الحكومة المسيطرة، شرط أن تكون حاصلة على اعتراف دولي.
بدورها ذكرت “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين”، أن اللجنة عملت منذ عام 2020 على تأسيس وتيسير عمل “فريق تنسيق السياسات للمفقودين والمختفين في سوريا”، وهو فريق يهدف إلى وضع توصيات عامة وإطار سياسي لعملية رسمية مستقبلية تتعلق بالأشخاص المفقودين في السياق السوري.
كما عملت اللجنة على إجراء تدريبات لـ”فريق الاستجابة الأولية سابقًا”، ركزت على حماية المقابر الجماعية وعدم العبث في المواقع التي من المحتمل أن تحوي أدلة جنائية مستقبلًا.
وأجرت تدريبات للمنظمات العاملة في ملف المفقودين في شمال شرقي سوريا، وقدمت اللجنة منحًا صغيرة لمنظمات سورية، لتقديم ندوات توعوية لذوي المفقودين في المنطقة، بحسب ما ذكرته المنظمة.
عمل عشوائي.. لطمس الأدلة؟
منذ انطلاقة عمل “فريق الاستجابة الأولية” في الرقة عام 2018، توالت الأنباء والبيانات حول فتح الفريق للعديد من المقابر الجماعية.
ووصف عمل الفريق حينها بـ”العشوائي”، أرجع البعض أسبابه إلى رغبة الفريق بطمس الأدلة وتغيير معالم المقابر الجماعية، لإخفاء هوية الجناة الحقيقيين، بحسب مدنيين من محافظة الرقة قابلتهم عنب بلدي.
قائد “فريق الاستجابة الاولية” سابقًا، ياسر خميس، قال لعنب بلدي، إن فريق “الاستجابة الأولية” في بداية عمله لم يكن مدربًا، وواجه العديد من المشكلات باعتباره فريقًا غير اختصاصي.
وأجبر في بداياته على فتح العديد من المقابر، بسبب وجود جثث مدفونة بشكل سطحي، وفي أماكن مأهولة بالسكان، بحسب ما قال خميس، والذي يعمل رئيسًا لـ”فريق شؤون المفقودين” في الوقت الراهن.
وأرجع خميس ارتكاب “فريق الاستجابة الأولية” العديد من الأخطاء خلال تلك المرحلة إلى وجود جثث بالطرقات وتحت الأنقاض وتوجه العديد من العائلات لنبش المقابر بحثًا عن أحبائهم، ما أجبر الفريق على إكمال عمليات استخراج الجثث.
ورغم توفر الدعم المالي للفريق حينها، لم تتوفر التدريبات أو الدعم التقني الذي يمكن أن يحد من ارتكاب الأخطاء، وفق ما قاله خميس.
ولا يُنكر الفريق وجود معلومات مغلوطة أو ناقصة في العديد من البيانات التي جمعها في وقت سابق، بحسب ما قاله رئيس الفريق سابقًا، معتبرًا أن الدمار الشامل الذي عاشته مدينة الرقة كان كفيلًا بالبحث عن أيّ سبيل لتخفيف من مشاهد الموت المنتشرة.
وخلال سنوات عمل “فريق الاستجابة الطارئة”، انتقدت العديد من تقارير المنظمات الدولية عمله العشوائي.
وفي عملية تقييم لملف المفقودين في شمال شرقي سوريا من قبل “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” عام 2020، انتقدت اللجنة “العمل البدائي” للفريق بالتعامل مع الجثث ومحاولات تحديد هويتها.
وأسفر العمل العشوائي والبدائي عن أضرار كبيرة بالمقابر الجماعية، ما يمكن أن يعوق قدرة المختصين مستقبلًا على تحديد هوية الجثث.
بينما قال ياسر خميس، إن الأخطاء السابقة يمكن أن تؤثر سلبًا، لكن تأثيرها طفيف، ويمكن تجاوزه من خلال تطوير العمل وإجراء المزيد من التدريبات لـ”فريق شؤون المفقودين”.
الانتظار مرفوض
رفضت العديد من العائلات انتظار توفر الإمكانية اللازمة لفتح المقابر، وتوجه العديد من عمل لفتحها بشكل عشوائي بحثًا عن ذويهم المفقودين.
ومن أبرز حوادث فتح المقابر العشوائي من قبل الأهالي، مقبرة “الشعيطات” التي ضمت حوالي 230 جثة.
جمانة السلمان، مديرة مشروع الكشف عن مصير المفقودين في”المركز السوري”، قالت إن عمليات فتح المقابر العشوائي من قبل الأهالي، يمكن أن تسهم بإخفاء الأدلة وتعقد عمليات البحث عن المفقودين.
ولا يعتبر اعتماد الأهالي على متعلقات أبنائهم المدفونة معهم لتحديد هويتهم كفيلًا بذلك، ما يعني احتمالية استخراج العائلات لجثث وإعادة دفنها في مقابر أخرى دون التأكد من أنها لأبنائهم، وفق السلمان.
وتعود مقبرة “الشعيطات” إلى مجزرة ارتكبها تنظيم “الدولة الإسلامية” منتصف آب عام 2014، بحق سكان “الشعيطات“، خلّفت مئات القتلى وعشرات المفقودين.
جاء ذلك بعد صدور “فتوى” من “أمراء الدولة الإسلامية” بقتل الذكور من أبناء المنطقة الذين تجاوزوا الـ14 عامًا ومصادرة أملاك المدنيين، إثر اتهام العشيرة بمحاربته.
الـ”DNA” ليس حلًا
في ظل وجود عشرات المقابر الجماعية، وآلاف المفقودين، لا يعتبر إجراء تحليل الـ”DNA” حلًا للكشف عن مصير المفقودين، وفق ما يراه “المركز السوري للعدالة والمساءلة”.
ورغم مطالبة الأهالي المستمرة بفتح المقابر وإجراء تحاليل لآلاف الجثث وعائلات المفقودين، وطرح العديد من المشاريع لذلك، بينها مشروع “بنك الـDNA” الذي اقترحه ناشطون من الرقة، لم تبدأ المنظمات بتلك الإجراءات.
وترى إدارة “المركز السوري”، أن تحاليل الـ”DNA” ستكون في مرحلة لاحقة للتحقيقات السياقية، ما يضيق نطاق البحث ويحد من هدر الموارد.
ولم يستطع “المركز السوري” الكشف عن مصير المفقودين حتى عام 2023، بحسب ما قالته السلمان، لافتة إلى أن العمل ما زال في بداياته، ويمكن أن يتطلب سنوات طويلة.
بينما قالت “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين”، إن المنظمة تسعى من خلال عملها للتمهيد إلى مرحلة متقدمة من العمل في سوريا بعد الوصول إلى انتقال سياسي.
وترى اللجنة أن إجراء تحاليل “DNA” أول خطوات الكشف عن مصير المفقودين، لافتة إلى أن عمل اللجنة حيال ملف المفقودين متكامل ويشمل الدفع لتحقيق العدالة للضحايا وذويهم.
ويتطلب الكشف عن مصير المفقودين تكاتفًا بين المنظمات المحلية والدولية، وفق ما قاله مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد.
ويرى الأحمد أن الآلية الدولية للكشف عن مصير المفقودين في سوريا، يمكن أن تسهم بذلك، منتقدًا التركيز خلال الحديث عن الآلية على المفقودين في سجون النظام السوري وتجاهل بقية أطراف الصراع.
وبرز الحديث عن آلية إنسانية دولية مستقلة، تُعنى بالكشف عن مصير المختفين قسرًا والمعتقلين لدى مختلف أطراف النزاع في سوريا، منذ ترحيب المفوضة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، في 8 من نيسان الماضي، بطلب الأمم المتحدة في القرار “76/228″، بالحصول على تقرير لدراسة آلية لتعزيز جهود الكشف عن مصير الأشخاص المفقودين.
بدورها توصي “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين”، بإنشاء قاعدة بيانات للأشخاص المفقودين، ودعم التعاون بين منظمات المجتمع المدني العاملة بهذا الشأن.
كما قدمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بعض التوصيات لمختلف الجهات الفاعلة بهذا الشأن، أبرزها:
– التواصل مع العائلات داخل سوريا وخارجها، للتأكد من أنها تعرف بمن تتصل وكيف، فيما يتعلق بأقاربها المفقودين.
– اتخاذ خطوات عاجلة لحماية المقابر الجماعية، باستخدام الخبرة الجنائية اللازمة لتنفيذ هذا العمل بفعالية.
– عدم نقل أي أشخاص سبق أن احتجزهم تنظيم الدولة، أو أفراد آخرين رهن الاحتجاز، إلى بلدان أو سلطات يُعرف أنها عذّبت أو أساءت معاملة أفراد في أثناء احتجازهم.
– تشجيع الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الدولية الأخرى على ضمان إتاحة مثل هذا الدعم والتدريب لهذا التحقيق، والتوثيق ضمن إطار غير تمييزي يحترم حقوق الإنسان.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :