“صراع البقاء”.. نظام لإنهاء “آدمية المعتقل” في سوريا

  • 2023/01/26
  • 2:45 م

مخرج "صراع البقاء"، عبدو مدخنة، والباحث كاتب السيناريو، ساشا العلو، إلى جانب منير الفقير، أحد أبطال الفيلم يناقشون الجمهور_ كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

يواصل الفيلم التسجيلي “صراع البقاء” رصد ردود الفعل على نقاشه الواقع المأساوي للمعتقلين في سجون النظام السوري، منذ اندلاع الثورة في 2011.

ويقدّم العمل بأسلوب “الديكودراما” (إعادة تصوير الواقع) شهادات حية لناجين وناجيات من زنازين النظام، يروون تجاربهم الشخصية، على تفاوت مدة الاعتقال، وتشارك التجارب المختلفة ثقل المعاناة.

حظي عرض الفيلم باسطنبول، في 20 من كانون الثاني الحالي، بإقبال من المهتمين والمثقفين، وتبعته جلسة نقاش قصيرة تخللتها مداخلات وأسئلة للقائمين على العمل.

الفنان عبد الحكيم قطيفان والفنان همام حوت خلال عرض “صراع البقاء” كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

يرصد الفيلم الانتهاكات التي يواجهها المعتقلون والتهم الكبيرة التي تُلصق بهم، والتي تصل حد الاتهام بـ”خيانة الوطن”، بالترافق مع مشاهد تحاكي بشكل تعبيري أخف وطأة، المشهد الحقيقي، إلى جانب شهادات وآراء أطراف أخرى معنية.

وفي العمل، يروي ضابط منشق بنفسه شيئًا عن الانتهاكات بحق المعتقلين، والتي تبدأ من “حفلة الاستقبال”، عبر تعصيب العينين وتمرير المعتقل قريبًا من آخرين يصرخون، والضرب، والسير شبه جاثيًا، ليثبت السجان ولاءه أمام مرؤوسيه، تاركًا السجين أمام أفكار يتخيلها عن المكان الذي يدرك منذ اللحظة الأولى أنه سيلقى فيه الكثير من التعذيب في سبيل انتزاع “إقراره” بالجرم المنسوب إليه.

كما يستعرض “صراع البقاء” وجهة نظر “المركز الأوربي لحقوق الإنسان”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” حيال القضية، إلى جانب وجهة نظر يقدّمها الروائي السوري، مصطفى خليفة، وهو معتقل سابق لمدة 13 عامًا في سجون النظام.

كتب خليفة رواية “القوقعة” التي توثق مأساة الاعتقال، واستذكرها بعض المعتقلين في بداية اعتقالهم، للمقارنة بين ما يعيشونه من تعذيب وتجويع وإهمال طبي وحرمان من أدنى متطلبات العيش، وما وثقته الرواية.

الكاتب السوري مصطفى خليفة يتحدث في فيلم “صراع البقاء” خلال عرضه في “المنتدى السوري”_ كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

جائزة في مهرجان “كان”

وفي تشرين الأول 2022، وبعد منافسات مع 800 عمل من 40 دولة، فاز العمل بجائزة “الدلفين الفضي” في مهرجان “كان“، عن فئة “ديكودراما”، وهو من إخراج عبدو مدخنة، وبحث وسيناريو ساشا العلو، وحصلت “الجزيرة” على الجائزة باعتبارها ممنوحة لأفلام الشركات والإنتاج الإعلامي عبر الإنترنت.

الباحث ساشا العلو، اعتبر غاية العمل حفظ وتوثيق السردية، نظرًا لتجربته السابقة في معتقلات النظام.

وفي حديث إلى عنب بلدي، قال العلو، “أعرف التجربة ولدي هاجس أن الناس تربط موت المعتقلين في سجون النظام بالتعذيب البدني فقط، وهذا غير دقيق، فهناك طرق لا تحصى للقتل”.

وأوضح ساشا بالحديث حول تركيز الفيلم على جوانب من عالم المعتقل، أن الفيلم جرى إعداده لرصد كيفية العيش في المعتقل، وكيف يمر الوقت، وأهمية تكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية لحماية الإنسان من الجنون.

يضيء العمل على نظام غذائي مصمم لإنهاء آدمية المعتقلين، وحالة اليأس التي تتملك البعض بسرعة، فتضعهم في مواجهة مع الجنون، خلال فترة قد لا تتعدى ثلاثة أسابيع، وفق الباحث.

كما ينقل “صراع البقاء” أيضًا وفق الشهادات، تصورات المعتقلين عن العالم الخارجي، والتي تتخذ من الأحلام مادة مغذية لها وآلية تواصل مع العالم، تفرض حضورها على الجميع، على اختلاف خلفياتهم الثقافية والدينية والأيديولوجية، لدرجة إقامة حلقات لتفسير الأحلام.

الجمهور يتبادل وجهات النظر مع صناع فيلم “صراع البقاء”_ كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

وعلى مستوى الإشاعات التي تظهر في المعتقلات، توضح الشهادات أن السجين يتفاعل بإيجابية وأمل مع هذه النوعية من الأخبار، كما أن قوات النظام نفسها يمكن أن تسرب الإشاعات أيضًا، لأن غياب الإشاعة يعني الاستعصاء بطبيعة الحال.

“الناس تتغذى على الأحلام، فمن يدرك حتمية موته قد يتجه للاستعصاء، وجرى ذلك سابقًا في سجون ومعتلقات عدة في سوريا”، أضاف الباحث.

الصورة كالورق

وحول مدى التطابق بين الرؤية النظرية والترجمة البصرية للعمل، أوضح ساشا العلو أن التصوير جرى وفق رؤيته المسبقة للعمل، في سجن مهجور في تركيا، بعد وضع مخطط قريب للفرع “227” (فرع المنطقة) التابع لشعبة “المخابرات العسكرية”، حيث اعتُقل سابقًا.

ويرى أن ملف المعتقلين حاضر في إطاره القانوني، إذ تتشكل مجموعات من ذوي الضحايا تحاول تنظيم نفسها بالإضافة لروابط كثيرة من هذا النوع، لكن على المستوى السياسي الحديث مختلف، فالملف كأي ملف آخر قابل للتفاوض والتباحث، وعلى المستوى الإنساني لا يمكن أن يُنسى طبعًا.

غياب الحلول الجماعية يدفع نحو الفردية، في ظل غياب هيئة سياسية قادة على التأثير فعلًا في الملف، مئات آلاف البشر خاضوا تجربة الاعتقال، هناك طائفة معتقلين في سوريا.

ساشا العلو باحث وكاتب سيناريو فيلم “صراع البقاء”

 

إلى جانب ذلك، شبه ساشا العلو المعتقلات بـ”خطوط إنتاج للموت”، مشددًا على أن هذه السردية والقضية تتطلب تحشيدًا أمام واقع سياسي وارتزاق واضح، ما يعني أن هذه القضايا الواضحة الناصعة هي ما يمكن التمسك به والإجماع عليه حاليًا، وفق رأيه.

وحول إمكانية تجسيد قضية المعتقلين في فيلم سينمائي طويل يشدد الباحث على أن تعامله مع السينما التسجيلية كهواية يسخرها لقضية المعتقلين.

“ربما لأني صاحب تجربة سابقة، وقد يكون لدي عقدة الناجي أو عقدة نقص ما حول نجاتي وبقاء آخرين في السجون، ما يكبل الإنسان بالشعور بالعجز”، أضاف ساشا.

وخلال أربعة أشهر أمضاها الباحث في المعتقل بين نهاية 2013 وبداية 2014، قُتل نحو 704 أشخاص في نفس القسم، استطاع إحصاءهم بسبب إجباره على العمل في “سخرة الموت”، أي حمل الجثث ونقلها للسيارات.

وتعتبر “سخرة الموت” ظاهرة حاضرة في المعتقلات السورية بعد بدء الثورة، عبر تخصيص معتقلين لحمل وتنزيل الجثث.

“ديكودراما” أقل

لا يوجد توجه لأعمال الـ”ديكودراما” بالثورة، ومعالجة الفكرة تضع العاملين عليها تحت تحدي اختيار الطريقة، فالبعض قد يبالغ في معالجة قضية أو قصة السجون عبر استخدام جرعة أعلى من التصعيد أو تجسيد الدموية، وفق رؤية مخرج الفيلم، عبدو مدخنة.

وأضاف المخرج لعنب بلدي أن العمل حاول تقديم ما هو مختلف، لنقل الإحساس المطلوب ودون مبالغة وبواقعية، ورغم انتشار السينما الوثائقية والمحتوى التوثيقي المرتبط بالثورة، لكن الاتجاه نحو الـ”ديكودراما” قليل.

وفي الوقت نفسه، يرى المخرج أن الفيلم مساهمة في تكريس سردية يسعى النظام لطمسها وتغييبها، فالأعمال الفنية، التوثيقية والسينمائية أداة مهمة لحفظ الذاكرة وتوثيق اللحظة.

ملف المعتقلين وطني، ولا يمكن تشبيهه بملف آخر، إنه من أهم الملفات التي يجب أن تُستنفر الطاقات والإمكانات بمختلف الإطارات لخدمتها.

مخرج “صراع البقاء” عبدو مدخنة

 

مخرج “صراع البقاء” عبدو مدخنة_ كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

كما لفت المخرج إلى تفوق ورجحان كفة الثورة على مستوى المنتج التوثيقي، عند المقارنة بنتاج النظام ومؤسساته الإعلامية في هذا السياق، وعزا ذلك لاستناد المحتوى التوثيقي على المادة الحقيقية، وهو ما يفسّر وصول أفلام تخدم الثورة لأرفع مهرجانات العالم التي لا يمكن للنظام أن يفرض حضوره فيها.

خارج المنافسة

“النظام يخاطب جمهوره، نحن نخاطب العالم، ولدينا قضية واضحة كالشمس”، أضاف المخرج، مؤكدًا على استثناء النظام من أي منافسة عند الحديث عن الأفلام الوثائقية التي صدرت بشكل مستقل في السنوات الأخيرة.

وحول التركيز على القصص الفردية لمضاعفة التأثير، أشار المخرج عبدو مدخنة إلى تنوع أساليب العمل، بما يجعل المفاضلة بينها قائمًا على رؤية صنّاع العمل، موضحًا أن “صراع البقاء” اتبع أسلوب الرواية لسرد القصة، لمنح “الأنا” مساحتها، وهنا لا مجال للصح أو الخطأ، والمعيار كيفية تقديم الفكرة بأسلوب مؤثر، يحمل الرسالة لقبول المتلقي.

يحصي تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في 15 من آذار 2022، وجود 132 ألف و667 معتقلًا لدى قوات النظام السوري، 87 ألف منهم في عداد المختفين قسرًا.

كما وثّقت “الشبكة” اعتقال ما لا يقل عن ألفين و221 مدنيًا بشكل تعسفي خلال 2022، وفق تقريرها الصادر مطلع 2023.

ومن إجمالي عدد المعتقلين خلال العام، أحصت ألف و698 حالة اعتقال تحوّلت إلى اختفاء قسري، منها ألف و17 حالة على يد قوات النظام، من ضمنها 38 طفلًا و416 سيدة.

الفنان عد الحكيم قطيفان والمعتقل السابق منير الفقير وجانب من الحضور بعد عرض “صراع البقاء”_ كانون الثاني 2023 (عنب بلدي/ حسام المحمود)

مقالات متعلقة

  1. "عيوني".. فيلم يحاول رسم وجوه لأرقام المختفين قسريًا
  2. سبعة أفلام سينمائية سورية حققت نجاحًا نقديًا
  3. "آخر الرجال في حلب" يحوّل صراع الموت إلى أكبر الأفلام الوثائقية
  4. أفلام سورية على أنقاض المدن

حقوق الإنسان

المزيد من حقوق الإنسان