علي عيد
يخبرنا بعض الصحفيين السوريين عن رحلاتهم إلى خارج سوريا خلال سنوات ما قبل 2011، وكان يتم إيفاد العشرات في مهمات تغطية أو مرافقة وفود رسمية إلى دول مختلفة.
كما كانت الولايات المتحدة تستقبل الصحفيين السوريين وغيرهم، ضمن برنامج “الزائر الدولي”، رغم العداء المعلَن، والتهمة الحاضرة لكل من يمرّ بتلك البلاد آنذاك.
المفارقة أن بعض الصحفيين كانوا يعودون ليجدوا ورقة الدعوة إلى “فنجان قهوة” في ضيافة جهاز المخابرات حاضرة في المطار أو على الحدود مع لبنان، ومن الروايات أن الضابط، خلال الاستضافة، كان يشرح لضيفه الصحفي ما دار من أحاديث رسمية داخل الوفود أو جانبية بين الصحفيين أنفسهم، حتى ولو كانت “نكتة” بالهمس بين اثنين.
داخل البلاد، كان صحفيون يجوبون الدوائر الرسمية، يوطدون علاقاتهم بالإدارات، ويمررون لبعض مسؤوليها الأخبار حسب الطلب، وبعضهم كانوا يتحولون من صحفيين إلى وشاة.
وحصل ذات يوم أن تصارع اثنان من عتاة النظام السوري حول ملف الاتصالات، وكان الدجاجة التي تبيض ذهبًا وقتها، واختار أحد الصحفيين، ما زال حيًا ويعمل في صحيفة تمثّل وجهة نظر “الدولة”، أن ينسج علاقات مع أحد الطرفين الذي سلمه ملفًا سميكًا حول القضية للنبش والنشر.
حاول الصحفي أداء ما يلزم، ورغم عدم النشر، فإنه اختفى، ويبدو أن صحفيًا مخبرًا آخر من زملائه، وربما مديره المطّلع شخصيًا، قام بالتبليغ، حسب الأصول، وبجهود زملائه لا جهود المخابرات التي زوّدته بالمعلومات، وجد الصحفي قابعًا تحت الأرض لدى جهاز أمني آخر، واحتاج اكتشاف سرّ الغياب إلى الاستعانة بفرع المعلومات لتحديد آخر موضع ظهرت فيه شريحة هاتف الصحفي المختفي.
امتدت الحال إلى ما بعد 2011 في الجانب الآخر، فكثير من الصحفيين أو المواطنين أو الناشطين الصحفيين كانوا يقفلون يومهم بتقرير إلى جهة ما حول مجمل ما يحصل في مواقع عملهم أو تغطياتهم، وهم ربما لا يعرفون ما تلك الجهة، ولماذا تجمع المعلومات من آلاف الناشطين في حقل الصحافة.
كل ما سبق هو من المحاذير التي يتحول معها الصحفي من مخبر مهنة إلى مخبر أجهزة أمنية، كما يفسّر التضارب أو حالة الصدام بين نظريتين، الأولى إبعاد المخبر الصحفي عن توطيد علاقته مع المصادر، والثانية تعزيز علاقته بالمصادر لأنها تفيد في نقل الأخبار أو “السبق”.
إنها أشبه بـ”دائرة الطباشير القوقازية”، إذ إن هناك من سيربح في النهاية على حساب الآخر، والمختلف أن اللعبة هنا محفوفة بخطر خسارة أخلاق المهنة للصحفي حتى ولو ربح المعركة، فالمصادر تحاول جرّ الصحفي ليصبح أداة للترويج ونقل الأخبار المفيدة، والصحفي يسعى لاستغلال تلك العلاقة لفائدة عمله.
استقلالية الصحافة والصحفي مهمة شاقة في بلادنا القابعة أسفل الترتيب العالمي للشفافية، لذلك غالبًا ما يجد الصحفي نفسه متورطًا في علاقات مشبوهة، ويضطره تعزيز علاقاته مع مسؤولين بعينهم إلى تقديم ما هو مطلوب منه لأسباب متعددة، بينها أنه يصبح مهددًا برفع الغطاء عنه على اعتبار أنه بات محسوبًا على جهة بعينها، تعيّنه وتتوسّط لترقيته، أو تخصص له هدايا نقدية أو عينية.
في دول أتاحت للإعلام الوصول إلى المعلومات والإحصاءات وأرشيف الدولة، يندر أن ترى صحفيًا على مائدة وزير يحتمل أن يكون مصدرًا له، وقد يحصل ذلك في الخفاء، فالفساد طبيعة بشرية قد لا تمنعه الأخلاق، ويضبطه القانون والتشريعات والمعايير التي تفرضها المؤسسة على مخبريها الصحفيين.
القاعدة المهمة لعمل المخبر الصحفي، أنه لا يجوز له نسج علاقات استثنائية وخاصة مع مسؤولين أو حتى بيئة محلية اجتماعية يعيش ضمنها، أو قطّاع بعينه، لأنه سيتأثر بهذه العلاقات، وهو إما سيقوم بالمحاباة، وإما سيدفعه ظرف معيّن إلى استثمار موقعه اقتصاديًا أو تعزيز مكانته في وسيلته الإعلامية بطرق ملتوية.
كثير من وسائل الإعلام تدوّر صحفييها ومراسليها جغرافيًا، بل وتحاول تغيير قطاعات عملهم، ودوائر تركيزهم، وهو أسلوب قد تخسر بسببه الوسيلة كثيرًا لأن تخصص الصحفي أو المخبر الصحفي يعمّق معرفته.
نعود إلى ما بعد 2011، وطالما أن إعلام “الدولة السورية” انحدر في مهنيته أكثر من ذي قبل، فالمقصود بالعودة هو إعلام الضفة الأخرى “المعارض”.
دون تعميم، اعتقد كثير من الناشطين أن المخبر الصحفي يجب أن يمثّل وجهة نظر بيئته، أو الفصيل الذي يحميه، أو الثورة، والحقيقة أن ذلك كان أفدح الأخطاء، إذ لا يجوز للمخبر الصحفي أن يقدم في روايته الإعلامية أكثر مما شاهد، وألا يفكر في الأثر السلبي لنقله جريمة وقعت في منطقة تمثّل بيئة حاضنة للمعارضة.
ذات يوم عام 2012، كان درعا تشهد مواجهات دامية، وخلال عملي في قناة إعلامية، اقترح أحد المحررين استضافة ناشط من درعا، ليخبرنا عمّا يحصل، جرى الاتصال بالهاتف، وكان صوت الناشط المخبر يهتز على وقع انفجارات قوية، يخبرنا معها أنه يعاين ما يحصل من داخل درعا “البلد”، وينقل معلومات عن الإصابات والأبنية المتضررة، خرجت من “الغاليري” وإذ بصديق يتصل بي يخبرني أن الناشط نفسه موجود في قرية الطرّة الأردنية، الملاصقة للحدود، على بعد أقل من ألفي متر عن مدينة درعا.
قدم ذلك الناشط نموذجًا آخر للصحفي المخبر، لقد كان يبتدع ليسوّق نظرية البيئة الحاضنة، رغم أن ما يحصل كان لا يحتاج سوى إلى عين ولسان وقلم صادقين.
عزيزي الصحفي، لا تقبل فنجان قهوة فيه محاباة، وحذارِ، فإن كل من حولك من مصادر يسعون لاستثمارك. وللحديث بقية.