خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم
في المنطقة التي يغلب عليها الطابع العشائري شمال شرقي سوريا، اختارت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، “وحدات حماية الشعب” (الكردية) شريكًا أساسيًا لواشنطن في سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
الدعم الأمريكي للقوات الكردية، همّش دور العشائر العربية دون أن يقصيها، إذ يلتقي قياديون أمريكيون باستمرار وجهاء وشيوخ هذه العشائر، كما تبدي واشنطن توجهًا لاستمالة المكوّن العشائري في المنطقة، وهو ما يسعى له النظام السوري وحليفتاه، روسيا وإيران.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع باحثين وخبراء، إمكانية عودة العشائر إلى الواجهة مجددًا بعد سنوات التهميش، وعوائق هذه العودة بالنظر إلى تمسّك “قسد” بمركزيتها في إدارة المنطقة، واهتمام واشنطن بتحالفها مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) أكثر من غيرها.
خيارات مفتوحة لواشنطن
أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، في آذار 2020، تقريرًا انتقد إقصاء المكوّن العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات، داخل المؤسسات العسكرية والمدنية التابعة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، الجناح السياسي لـ”قسد”.
وذكر التقرير أن أغلبية المكوّنات العربية في المنطقة تنظر بسلبية إلى “قسد” ومؤسساتها المدينة.
وقالت وكالة الاستخبارات الأمريكية، إن “قسد” و”وحدات حماية الشعب” تستأثران بمراكز السلطة واتخاذ القرارات حتى داخل الإدارات المدنية.
وبحسب التقرير، يؤكد هذا السلوك عدم رغبة تلك القوات في تقاسم السلطة مع المكوّن العربي، حتى في مناطقه، رغم أن أغلبية العناصر المنتشرين على خطوط الجبهات هناك من العرب، كمحافظة دير الزور.
وأحدث ما أُثير لإحياء المكوّن العربي في المنطقة، تسريبات لم تؤكدها مصادر رسمية حتى إعداد هذا الملف، عن اجتماعات ضمّت مسؤولين من دول خليجية ومسؤولين أمريكيين لتعزيز دور العشائر.
مواقع كردية تحدثت، في 12 من كانون الثاني الحالي، عن مشروع أمريكي جديد، وتوجّه لإعادة إحياء فصائل عشائرية عربية قديمة، أبرزها “لواء ثوار الرقة” بقيادة أحمد علوش (أبو عيسى).
“لواء ثوار الرقة” فصيل أُسّس في 2013 بمحافظة الرقة، ويشكّل أبناء المحافظة أغلبية مقاتليه، وبعد سيطرة التنظيم على المحافظة، وجّه الفصيل بنادقه نحو تنظيم “الدولة” معلنًا تحالفه مع “قسد”. وفي 2016 مع سيطرة “قسد” على الرقة، دمجت الأخيرة الفصيل داخل مكوّناتها العسكرية، واختفى قادته من الواجهة. |
ونقل موقع “Basnews” (باسنيوز) الكردي، عن مصدر مقرب من “قسد”، أن أمريكا لديها مشروع لدعم فصائل معارضة في المنطقة، وتوسيع مشاركة المكوّن العربي في مؤسسات “الإدارة الذاتية”.
وقال المصدر، إن واشنطن تعتزم بناء تحالف جديد بين “مسد” وأطراف سورية معارضة، لتحقيق مشاركة عربية في المؤسسات القائمة بمختلف المجالات، لتشكيل تحالف واسع بالتزامن مع مساعي التقارب بين تركيا والنظام السوري، مشيرًا إلى أن فصيل “ثوار الرقة” سيعود إلى الواجهة مجددًا بدعم أمريكي.
ولم تؤكَّد هذه المعلومات من مصادر رسمية حتى إعداد الملف، إذ حاولت عنب بلدي التواصل مع قياديين سابقين في “ثوار الرقة”، لكنهم رفضوا التعليق.
“جس نبض”.. التوازن مطلوب
الحديث عن مشروع إحياء العشائر، جاء أيضًا بعد زيارة وفد أمريكي لـ”ثوار الرقة” في مقر “الفرقة 17″، ولقائهم بقائده “أبو عيسى”، مع تداول أنباء عن إرسال أسلحة ومعدات أمريكية إلى مقر “الفرقة”.
كما تنشط ردود الفعل الأمريكية في سياق تفعيل المكوّن العشائري، مع أي تهديد أو تلويح بعملية عسكرية تركية برية ضد “قسد”.
الباحث السياسي فراس علاوي يرى أن الحديث عن لقاء أمريكي مع قائد “ثوار الرقة” جرى تضخيمه كثيرًا، وأن واشنطن لا تبحث بعد عن عملية استبدال أو إضعاف لـ”قسد” مقدار ما تدعمها، كما أن مخرجات الاجتماع لم تظهر، ولا مؤشرات أو حقائق ملموسة في الوقت الحالي.
وقال علاوي لعنب بلدي، إن اللقاء الأمريكي مع قائد “ثوار الرقة” محاولة “جس نبض” لتقديم حلول تمنع العملية التركية، أو لتقديم تنازلات لأنقرة في سبيل تخفيف التوتر بالمنطقة.
من وجهة نظر مغايرة، يرى الباحث والكاتب في الشأن السياسي ماجد العلوش، أن واشنطن ربما بدأت تدرك أن القوى الاجتماعية في المنطقة، وخاصة التشكيلات العشائرية، أكثر ضرورة للانخراط في المشروع الأمريكي.
وأوضح العلوش لعنب بلدي، أن الأمريكيين يطورون تموضعهم شرق الفرات، وهو ما يفرضه استمرار وجودهم بانتظار الحل النهائي في سوريا، بغض النظر عمن يتضرر ومن يستفيد.
“تأخر الأمريكيون كثيرًا في إدخال تعديلات جوهرية على الوضع شرق الفرات، ربما كانوا يعتقدون أنهم قادرون على تعديل سلوك (قسد) تدريجيًا وفك ارتباطها بـ(العمال الكردستاني) أو نسف أوهامها الأيديولوجية”.
ماجد العلوش باحث وكاتب في الشأن السياسي |
الباحث السياسي فراس علاوي، يستبعد حدوث تغييرات في المنطقة، إلا إذا حصلت فعلًا العملية التركية، أو تحقق تقارب أمريكي مع الأتراك.
وفي حال وجود مقترحات أمريكية بهذا الشأن، يعتقد علاوي أنها تتجلى بإيجاد قوة عربية للفصل بين “قسد” وتركيا، على أن تكون مقبولة تركيًا وتشبه فصائل الشمال السوري، بينما يفضّل الباحث ماجد العلوش التريّث قبل إطلاق الأحكام، كون الصورة غير واضحة، وفق رأيه، معتبرًا أن نجاح التوجه الأمريكي الجديد مرتبط بالسكان المحليين.
وربط التوصل إلى نتائج أفضل بنجاح القوى الفاعلة محليًا في التعامل مع التوجه الأمريكي، وبناء نموذج إداري يمتلك حدًا أدنى من “العقلانية”.
مبادرة لم تبصر النور
تتصدّر المبادرات الأمريكية المشهد الميداني والسياسي، استجابة لاحتجاجات أو تطورات ميدانية.
الباحث مع المتعاقدين الحكوميين مزاحم السلوم والمطلع على عمل قوات التحالف الدولي في سوريا والعراق سابقًا، قال لعنب بلدي إن مشاريع التحالف في هذا الصدد لم تتجاوز مرحلة التخطيط، وأبرزها مشروع طرحته غرفة عمليات “العزم الصلب” سابقًا، يهدف إلى نقل مقاتلين محليين من “مغاوير الثورة” (جيش سوريا الحرة حاليًا) من قاعدة “التنف” إلى بلدة الباغوز شرقي دير الزور.
وأضاف أن هذا المشروع يُعاد طرحه بداية كل عام، لكن المسؤولين الأمريكيين دائمًا ما يفضّلون “قسد”، ولا سيما أن المؤثرين على القرار الفعلي لدى قوات التحالف في سوريا، من بقايا إدارة أوباما، لم يجرِ تغييرهم، وهم من يعيد طرح هذا المشروع بشكل متكرر.
الأطروحة الأمريكية “القديمة الجديدة” تتناول أيضًا تحويل إدارة قاعدة “التنف” في الأردن إلى غرفة عملياتها في أربيل، وهذا يعني تغيرات استراتيجية واستخباراتية.
وعن غاية أمريكا من وراء هذا المشروع قال السلوم، إن واشنطن تريد تشكيل قوة عربية فعليًا إلى جانب “قسد” في المنطقة، خصوصًا في الباغوز المطلة على نهر “الفرات”، وعند الحدود العراقية، وفي بضعة آبار نفطية.
لكن الهدف الاستراتيجي الأبعد بالنسبة للتحالف، إيجاد مبرر لفتح خط إمداد لوجستي بين شمال شرقي سوريا و”التنف”، مرورًا بمناطق تسيطر عليها قوات النظام وإيران، وفي حال تقسيم “مغاوير الثورة” بين ريف حمص الشرقي والريف الشرقي من دير الزور، فإن مبرر فتح طريق الإمداد صار موجودًا.
مصدر عسكري من العاملين سابقًا مع “مغاوير الثورة”، ويقيم في مخيم “الركبان” حاليًا، قال لعنب بلدي، إن الخطة الأمريكية جرى الحديث عنها مرارًا، وكان أبرز مبرراتها فساد عناصر وقادة “مغاوير الثورة” قبل التعديلات التي شهدها الفصيل منتصف 2022.
وكان من مبررات الأمريكيين في “التنف”، أن هذه التعديلات ضرورية لإحضار عناصر جدد من خارج “مغاوير الثورة” إلى المنطقة، بعيدًا عن عناصر وقادة الفصيل من مخيم “الركبان”.
حصة “قسد” ودورها
يعتبر ملف العشائر أحد الملفات الشائكة في منطقة تشهد تجاذبات وصراع قوى، ومشاريع لدى بعضها بتأسيس كيان مستقل أو حكم ذاتي، ومع عودة هذا الملف إلى الواجهة، تتجه الأنظار نحو “قسد” وموقفها على أنها “الحلقة الأضعف” في المنطقة.
وفي 20 من تشرين الثاني 2022، بدأت تركيا عملية “المخلب- السيف” الجوية، ضد مناطق نفوذ “قسد”، وحزب “العمال الكردستاني” في العراق.
تسارعت التصريحات التركية عقب انطلاق “المخلب- السيف”، حول تنفيذ عمل عسكري بري و”اجتثاث الإرهابيين”، ما قابلته أمريكا بتحذيرات، ودعوات لـ”ضبط النفس” وتركيز الجهود على محاربة تنظيم “الدولة”.
في حين علّق قائد “قسد“، مظلوم عبدي، على ردود فعل واشنطن حينها، بأن “هناك حاجة إلى تصريحات أقوى”، فمن دون “ضوء أخضر” من واشنطن أو موسكو، لا يمكن لتركيا شن هجوم بري ضد القوات الكردية في سوريا، وفق رأيه.
ماجد العلوش قال في هذا الشأن، إن ما يجري هو تدخل أمريكي مباشر لتصحيح الأوضاع “الشاذة” في المنطقة على حساب “قسد”، فالخطأ الجوهري الذي ارتكبته الأخيرة هو اعتقادها بأنها صارت المحطة الأولى وربما الوحيدة لدى أمريكا، وبالتالي فالأمريكيون سيحافظون على موقعها ودعهما تحت كل الظروف.
وذكر الباحث العلوش أن “قسد” لم تدرك دورها بالنسبة للأمريكيين أساسًا، إذ كانت “بندقية جاهزة ومستعدة” لتنفيذ مهمة محددة، وهي السيطرة على منطقة غنية بآبار النفط، لمنع تنفيذ حل روسي، وإفشال المشروع الإيراني.
وأضاف أنه وفقًا للصيغة التي نشأت بين التحالف و”قسد”، لا حصة ثابتة ومعترف بها لـ”قسد” في المنطقة وإنما “دور فقط”.
مركز الأبحاث الأمريكي “Hudson Institute” نشر تقريرًا تضمّن خطوات للنجاح في توحيد مجالات النفوذ التركية والأمريكية في سوريا، وإعادة تنشيط الشراكة في العلاقات بينهما.
وتضمنت الخطوات إبعاد “وحدات حماية الشعب” عن دير الزور، عبر فصل “مجلس دير الزور العسكري” عن “قسد”، وإبعاد “الوحدات” عن الحسكة، وفق التقرير .
ليس على حساب “قسد”
التغييرات المحتملة التي تكرر طرحها تظهر على أنها تعزيز لطرف على حساب الآخر، كون التحليلات قائمة على تصوير أن عشائر سوريا و”قسد” أعداء، وأن الولايات المتحدة قد تكون مستعدة لتعويم العشائر.
فراس علاوي يرى في هذا الصدد أن أمريكا لن تتجه لدعم مكوّن عشائري بمنطقة شمال شرقي سوريا على حساب “قسد”، سواء بالاستبدال أو الإضعاف، إذ تريد واشنطن أن تدعم الحل الأمني، وتهيئ الأرضية المجتمعية خوفًا من انفجارها بأي لحظة، سواء عبر عملية تركية أو فشل “قسد” بعمل ما.
من جهته، قال الباحث السوري في إدارة النزاع محمود الحسين لعنب بلدي، إن أمريكا حافظت على “حد معقول” من العلاقة مع المكوّن العشائري، وخاصة في محافظة دير الزور التي تشهد علاقة مع التحالف الدولي أكثر من غيرها، ودائمًا ما تعقد اجتماعات وتتواصل مع شيوخ العشائر فيها.
ويرى الحسين أن الدعم للمكوّن العشائري سيبقى موجودًا، مع إمكانية ازدياده أكثر خلال الفترة المقبلة، مرجّحًا وجود تمثيل حقيقي، واعتماد أكثر على المكوّن العشائري العربي، لكن ليس على حساب القوات الكردية في المنطقة.
ولفت إلى أن هذه السياسة ربما تكون “مرحلية”، مع تأكيده أن المكوّن العشائري سيؤخذ بالحسبان عند أي محاولة لترتيب منطقة شرق الفرات.
الصحفي والباحث المختص في قضايا شرق الفرات سامر الأحمد، قال لعنب بلدي، إن القوات الأمريكية وإدارتها في سوريا لطالما حاولت تشجيع العشائر السورية على اتخاذ مبادرات وخطوات لإثبات وجودها في المنطقة لكن “ليس على حساب (قسد)”.
وإن حدث فعلًا واجتمع ضباط أو مسؤولون أمريكيون مع وجهاء من عشائر شمال شرقي سوريا، فإن الغرض منه هو تشجيعهم على أخذ دور فعال في المنطقة، وخصوصًا في محافظة دير الزور، لكن لا يمكن للولايات المتحدة أن تدعم كيانًا عسكريًا جديدًا على حساب حلفائها من “وحدات حماية الشعب” وما يُعرف بـ”كوادر قنديل” (PKK)، حسب تعبير الأحمد.
وربما يهدف التحريض الأمريكي للعشائر إلى فرض نوع من الاستقرار فيها، خصوصًا أن خلايا تنظيم “الدولة” لا تزال منتشرة في المنطقة، حيث مطامع الميليشيات الإيرانية والنظام السوري متنامية.
ومن المطالب التي طرحها وجهاء من عشائر دير الزور على قوات التحالف الدولي نهاية كانون الأول 2022، في بلدة الكسرة غربي المحافظة، تشكيل مجلس عسكري خاص لأبناء عشيرة “البكارة”، بمعزل عن سلطة “مجلس دير الزور العسكري” التابع لـ”قسد” (المسؤول الأمني والعسكري عن دير الزور)، لكن الأحمد يرى أن منح هذا النوع من الصلاحيات للعشائر غير وارد حاليًا.
حسابات إخبارية محلية نشرت حينها عبر “فيس بوك” صورة تظهر القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي، مع الشيخ حاجم البشير، أحد ممثلي قبيلة “البكارة” في مدينة الحسكة، للتباحث حول المستجدات الأمنية ومطالب الأهالي بريف دير الزور الغربي.
كيف تدير “قسد” المنطقة؟
تتكرر الاحتجاجات في مناطق شمال شرقي سوريا بشكل دائم، ويطالب فيها المحتجون “قسد” بتعزيز المكوّن العربي في إداراتها، وسحب القرارات الخدمية من أيدي “كوادر قنديل” في سوريا، لكن هذه المطالب غالبًا ما يجري تجاهلها.
الشيخ عامر البشير، وهو أحد وجهاء عشيرة “البكارة”، ورئيس الهيئة التنفيذية لـ”مجلس القبائل والعشائر السورية”، قال لعنب بلدي، إن “قسد” حكمت مناطق نفوذها في دير الزور عبر مجموعة من الكوادر الكردية الأجنبية التي استوردتها إلى المنطقة.
وليس لهؤلاء القياديين أسماء واضحة، ويُعرفون محليًا باسم “باران”، وهم الحاكم الفعلي لـ”مجلس دير الزور المدني” التابع لـ”الإدارة الذاتية”، إلى جانب
قائد إقليم دير الزور، لقمان خليل، والمسؤول العام العسكري عن دير الزور يطلق عليه اسم “روني”.
وبحسب البشير، فإن هذا الثلاثي هو مصدر جميع القرارات والتوجيهات، ومصدر لسياسة العمل في جميع أنحاء المحافظة، بعيدًا عن الواجهات الشكلية الموضوعة فيها.
ومنذ لحظة دخول “قسد” إلى دير الزور، بدأت سياسة “الإقصاء” للمكوّن العربي، بحسب البشير، فمن المستحيل أن يُعيَّن أي مدير أو مسؤول في “مجلس دير الزور المدني” دون موافقة “باران” حصرًا.
الباحث سامر الأحمد، يرى أن “قسد” انتهجت سياسة الإقصاء فعلًا ضد المكوّن العربي في المنطقة، ولم تختلف في هذا الصدد عن جميع سلطات الأمر الواقع في الجغرافيا السورية.
وعمدت منذ سيطرتها الفعلية على الرقة ودير الزور إلى استغلال بعض وجهاء العشائر واستخدامهم كواجهة لأعمالها، علمًا أن للمفهوم العشائري في المنطقة بعدًا كبيرًا، يمكن توظيفه في واقع أفضل.
“(قسد) دائمًا ما تحاول تهميش المكوّن العربي، لكن تحاول العمل على هذا الموضوع بطريقة غير مباشرة، لأنها تعرف خطورة المواجهة المباشرة مع أبناء المنطقة”
محمود الحسين باحث سوري في إدارة النزاع |
الباحث في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ، قال لعنب بلدي، إن “قسد” انتهجت سياسة الإقصاء بالنسبة لأبناء العشائر في المنطقة على الأصعدة كافة، السياسية، والعسكرية، والخدمية، وحتى الاجتماعية منها.
وعلى الرغم من أن “قسد” عيّنت شخصيات وأفرادًا من عشائر المنطقة في مناصب مختلفة، فإنهم في نهاية المطاف كانوا عبارة عن واجهات لمسؤولين منها، ومن غير المشاركين في صنع القرار.
وتمحورت علاقة “قسد” مع عشائر المنطقة حول شخصيات من خارج “بيت المشيخة” (لا يمثّلون العشيرة)، عُيّنوا في مناصب شكلية، وقامت العلاقة بينهم وبين “قسد” على شكل “علاقة مصلحية” لا أكثر، بحسب شواخ.
شروط التغيير
مشروع تغيير خريطة السيطرة في المنطقة غير واضح المعالم بعد، خصوصًا أنه مرهون بقوى إقليمية ومحلية، وتحيط به تغييرات على الصعيد المحلي، تتمثّل باحتقان شعبي واحتجاجات ضد بعض سياسات “قسد”، إلى جانب ملف التقارب التركي مع النظام، وأحداث عالمية مرتبطة بقوى تملك نفوذًا في سوريا.
الباحث السياسي فراس علاوي، يرى أن أي تغيير قد يحدث تبعًا لعملية تركية أو توافقات مع أنقرة، سيكون سياسيًا وإداريًا أكثر من كونه عسكريًا.
وأضاف أن هذا التغيير من المرجح أن يكون على مستوى الإدارة بالمنطقة، وبالتالي يمكن إعطاء دور للعشائر وأبنائهم في إدارة المنطقة وخاصة الملفين الاقتصادي والأمني.
وعن الملف العسكري، رجّح علاوي أنه سيبقى بيد “قسد” لفترة طويلة حتى الوصول إما إلى حل جزئي للمنطقة، وإما شامل لكامل سوريا.
الباحث السوري في إدارة النزاع محمود الحسين قال من جانبه، إن كلمة السر في منطقة شرق الفرات هي الوجود الأمريكي، وإن مستقبل المنطقة متوقف على ذلك، وفي حال بقاء أمريكا فيها، سيبقى الدعم لـ”قسد” ضمن خطة التحالف الدولي لـ”محاربة الإرهاب”.
وفي حال انسحب الأمريكيون، فالوضع يكون مختلفًا كليًا، فواشنطن ليست لديها سياسة واضحة تجاه سوريا، وسياستها “سلبية”، وهي تحاول الإبقاء على الوضع الحالي، في نطاق “صراع مجمّد دون التوصل إلى حل”.
وأشار إلى أن الوجود الأمريكي شمال شرقي سوريا سيُبقي الوضع على ما هو عليه، وهذا الأمر ينطبق على دور العشائر أيضًا.
الباحث ماجد العلوش، اعتبر أن حجم التغييرات في العالم من تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا، والاحتجاجات في إيران، وتهاوي الاقتصاد غير المسبوق في مناطق سيطرة النظام السوري، والتوجه التركي الجديد للتقارب مع النظام، لا يفرض البحث الجدّي عن حل منطقي، لكنه يفتح عيون الأمريكيين على فكرة “تغير مفاجئ”، لذلك بدؤوا يحضّرون الخيارات.
ومن هذه الخيارات، بحسب العلوش، تعزيز الوضع الأمني والاجتماعي شرق الفرات، ما يعني بذل جهود إضافية لجر أكبر قدر ممكن من الكتل الاجتماعية المحلية العربية خاصة، وغير العربية بما في ذلك الكرد من غير “قسد”، إلى تفاهمات جديدة من الممكن أن تحقق الهدف، وربما بمساعدة من دول عربية لها علاقة وارتباط بعشائر المنطقة، كالسعودية.
ولاءات العشائر
تنقسم عديد من كبرى العشائر السورية اليوم في الولاء، ويتضح هذا التفكك بين العشائر في مجالس كبار عائلاتها وشيوخها “التاريخيين”، كما يطلق عليهم محليًا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتبر عشيرة “الجبور” من كبرى عشائر الحسكة، وينتمي لها آلاف من أبناء المنطقة، ويعتبر شيخها التاريخي منذ الاستقلال عن فرنسا حتى الآن هو عبد العزيز المسلط، والد رئيس “الائتلاف السوري”، سالم المسلط.
وبينما يقيم نواف المسلط ابن الشيخ عبد العزيز في مدينة الحسكة شرقي سوريا دون أي صفة سياسية بعد، يمثّل شقيقه سالم المعارضة السورية المدعومة من تركيا شمال غربي سوريا.
أما حسن المسلط ابن أخ الشيخ عبد العزيز، فهو رئيس “مجلس العشائر” المدعوم من روسيا والنظام السوري.
هذه الحالة يمكن ملاحظة أنها متكررة أيضًا بالنسبة لعشائر دير الزور، حيث تعتبر عشيرة “البكارة” إحدى أكبر عشائر المحافظة، ويمثّلها في دير الزور اليوم الشيخ حاجم البشير، الذي تربطه علاقة جيدة بـ”قسد”.
بينما يمكن النظر إلى المناطق المحاذية لنهر “الفرات” من الجهة الغربية، حيث ينتشر أبناء “البكارة”، ويمثّلهم المعارض السابق نواف البشير، والمدعوم من إيران حاليًا، وهو يقود لواء “الباقر” الذي يشكّل أبناء “البكارة” قسمًا كبيرًا من مقاتليه.
بينما يقيم الشيخ عامر البشير في تركيا، وهو معارض للنظام السوري و”قسد” على حد سواء.
وفي عام 2019، قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان، إن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم الكرد شمال شرقي سوريا لدعم خططها في البقاء “الطويل الأجل”، ما يقوّض مسار “أستانة” السياسي.
التصريحات الروسية الرسمية جاءت حينها على خلفية إقامة مؤتمر للقبائل في الرقة، واصفة المؤتمر بأنه “خطوة لتحقيق تمثيل عربي واسع” بالنسبة لواشنطن.
النظام على الخط
في 21 من كانون الأول 2022، دعا ناشطون ووجهاء قرى وبلدات شمال شرقي سوريا إلى احتجاجات ضد “قسد” في مدينة الحسكة، على خلفية اعتقال الشيخ ميزر المسلط، أحد وجهاء قبيلة “الجبور” وعضو “مجلس شيوخ ووجهاء العشائر والقبائل السورية” بالحسكة.
اعتقال الشيخ جاء خلال عودته من فعالية نظّمها النظام السوري في المربع الأمني بالحسكة، حول دور العشائر المناهض لـ”قسد” والوجود الأمريكي شمالي سوريا.
وقالت الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا)، إن “قسد” عممت على حواجزها ومجموعاتها المسلحة “مذكرة لاعتقال شيخ قبيلة (طي) ضاري محمد الفارس”، وهو من الشيوخ المشاركين في الفعالية نفسها.
في حين تحاول وسائل إعلام النظام تقديم رواية الاحتجاجات في دير الزور على أنها “انتفاضة عشائر دير الزور ضد الوجود الأمريكي”، وهو ما يخالفه واقع المنطقة التي اعترض سكانها مرارًا على مرور أرتال روسية منها خلال عام 2021.
الشيخ عامر البشير قال لعنب بلدي، إن الريف الغربي لمحافظة دير الزور، حيث يقطن أبناء عشيرة “البكارة”، والمنطقة التي تشهد احتجاجات ضد “قسد”، شهدت لأكثر من مرة محاولة لعبور قوات روسية باتجاه محافظة الرقة، لكنها قوبلت برفض شعبي كبير.
كما أن هذه المناطق خرجت عن سيطرة النظام من الأشهر الأولى للثورة السورية، وهو ما اعتبره البشير “دليلًا دامغًا” على رفض أبناء العشيرة في هذه المناطق وجود النظام و”سياساته القمعية” التي عانوها سابقًا.
وعن قدرة النظام على إحداث تأثير في المنطقة قال البشير، إن النظام في دير الزور “ضعيف وهزيل”، لكنه يستمر بمحاولة تعويم نفسه مستغلًا أي حالة رفض لـ”قسد” على أنها مطالبات بعودته أو تأييد له.
ولا يزال النظام يعمل يوميًا على إيجاد ما يستند إليه في هذه المناطق، بحسب البشير.