الاحتراق النفسي الناتج عن العمل في منظمات المجتمع المدني
صفوان قسام
هل تستيقظ صباحًا وتبقى مستلقيًا لفترة، وأنت تفكر في تقديم استقالتك، أو أخذ إجازة طويلة من دون راتب، أو البحث عن عمل آخر؟ هل عانيت ضغط العمل لفترة طويلة وبكيت من تعامل مديرك السيئ معك؟ هل شعرت أنك مهدد بالطرد دائمًا؟ هل سمعت بعض العاملين في المنظمات الإنسانية يرددون عبارة: نظام عبودي في منظمة إنسانية؟! ربما لو سمع مدير ذلك العامل هذه العبارة لوجه إنذارًا لقائلها، وربما فصله من عمله، متذرعًا بأي حجة يلتمسها في أنظمة داخلية وسياسات تشغيل لا تراعي الأسباب التي يمكن لها أن تدفع عاملًا لقول عبارة من هذا النوع، والتي يمكن أن تعبر عن ضغط نفسي في العمل تعرض له هذا العامل أدى به إلى ما يسمى “الاحتراق الوظيفي”، وهو وضع شائع بشكل عام في كل منظمات المجتمع المدني على اختلافاتها التي ربما لم تسمع بها، كالإنسانية، والإغاثية، والطبية، والإعلامية، والسياسية… ونستثني من ذلك المنظمات العاملة في الصحة النفسية.
ويعتبر الإجهاد النفسي أو “الاحتراق الوظيفي” حالة نفسية- انفعالية تصيب العامل نتيجة تعرضه الطويل لضغط العمل والإجهاد، ويتميز بأنه حالة دائمة من حيث استنفاد الطاقة والحماسة والحافز للعمل، ما يؤدي إلى تدنٍّ في فاعليته، مع شعور بتدني قيمة الإنجاز وميل للسخرية والتشاؤم من العمل.
ومن الشائع أن تظهر على الموظف المصاب بـ”الاحتراق الوظيفي” أعراض كالإحباط، وفقدان الدافعية للعمل، فهو يستيقظ كل صباح ويفكر في ترك عمله، أو ربما نجد لديه تصرفات بطولية لكنها متهورة، كالمغامرة بحياته دون داعٍ، أو إهمال متطلبات السلامة المدنية، ويشعر بعدم تقدير المنظمة ومديره له، ويفقد ثقته بزملائه في العمل، ويشعر أيضًا بعدم وجود أثر وفاعلية لعمله، وبانعدام الأمان الوظيفي وأنه مهدد بالطرد في أي لحظة، وهو من أصعب الضغوط التي يعايشها من لديه احتراق وظيفي، فيدخل في مشكلات واضطرابات النوم، وتظهر عليه تصرفات غير مقبولة اجتماعيًا، فربما بدأ بتناول السجائر بكثرة أو الكحول أو حتى المخدرات، ويصاب بعدم القدرة على التركيز والإحساس الدائم بالتعب عند أقل مجهود، وظهور أعراض لبعض الأمراض دون أن يكون لها تفسير طبي، كتسرع القلب أو ضيق التنفس أو تشنج القولون… دون وجود مرض عضوي، ويميل بعضهم عادة للسخرية من العمل أو الزملاء أو الإدارة، ولا يرى قيمة لعمله.
أما المديرون فنجد لديهم أعراضًا تتعلق بكونهم في موقع مسؤولية، كالمبالغة في الاعتداد بالنفس وأن العمل لا يمكن له السير من دونهم، أو انعدام الثقة بالموظفين وأنه لا يوجد أحد مثلهم يمكن أن يقوم بالمهام، ما يدفهم للاعتقاد أن عليهم البقاء في وضعية المراقبة اللصيقة دائمًا، والاطلاع على كل تفاصيل العمل الدقيقة دون وجود داعٍ، والتقليل من كفاءة العاملين وعدم مدحهم، والغضب الدائم والسريع، وتعطيل العمل بسبب ضعف التخطيط، وإصدار القرارات المتناقضة، والنسيان وعدم القدرة على الإنجاز، وتراكم العمل بسبب ضعف التركيز، وتأجيل متابعة المهام أو تنفيذها من دون كفاءة كالاطلاع على ملفات بسرعة دون قراءة واعتبارها صالحة… ومن المحتمل أيضًا أن يبلغ الأمر حد الإصابات بالانهيار العصبي أو اضطرابات القلب وربما ارتفاع الضغط والسكري والكوليسترول، وتم التبليغ بالفعل عن حالات انتحار أو اعتداء جسدي على زملاء العمل.
وتعود الأسباب الرئيسة لهذه المشكلة إلى عدم وجود معلومات كافية عن العمل أو الاستعداد المناسب له من قبل المؤسسة أو الموظف أو المدير، ما يشكّل عبئًا على الموظفين، أو أن يكون الموظف منتميًا لمجتمع يتعرض لأزمة وهو يعمل في هذا المجتمع ويشاهد أبناء مجتمعه يعانون، يضاف إلى ذلك شعوره بالذنب لأنه حصل على الموارد والمأوى ويعيش بأمان وعدم قدرة الآخرين على الوصول إليها، والتعرض الطويل الأمد للأزمات والخطر والضغط والإجهاد، وعدم قدرته على الحصول على قسط كافٍ من النوم أو الراحة، خصوصًا في المؤسسات التي لا تحترم أوقات عطل موظفيها أو إجازاتهم أو راحتهم بعد انتهاء العمل، فتطالبهم بالعمل حتى في أوقات راحتهم، “هنا تحديدًا سنسمع العبارة: نظام عبودي في منظمة إنسانية، لأن المدير لا يعرف أنه قد استعبد موظفه”، وعدم حصولهم على الراحة يحرمهم من الوقت اللازم للتعافي من ضغط العمل، وهو أيضًا يفصلهم عن نظام دعمهم النفسي- الاجتماعي (المنزل والأسرة والأصدقاء)، وإشعارهم من قبل الإدارة بأنهم غير أكفاء للقيام بالعمل المطلوب أو التقليل من إمكانيتهم وعدم تشجيعهم أو الثناء عليهم، كما أن بعض الأعمال تثير لدى الموظفين تساؤلات أخلاقية قد تشعرهم بالضغط، وأيضًا الشعور بالإحباط من السياسات وقرارات الرؤساء والإشراف غير الكافي وغير الواضح والمزاجي.
وللتعرف إلى مدى انتشار الإجهاد النفسي لدى العاملين والعاملات في منظمات المجتمع المدني السورية، أجري استطلاع إلكتروني حول وجود بعض الأعراض والمسببات لـ”الاحتراق الوظيفي”، ونُشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبيّنت عيّنة الاستطلاع التي بلغت 100 إجابة وجود أربعة أعراض لـ”الاحتراق الوظيفي” على الأقل لدى 37 من المشاركين، وهو تقريبًا يتجاوز المعدل العالمي.
ومن هؤلاء وجدنا 26 موظفًا/ة لديهم/ن عوامل لـ”الاحتراق الوظيفي”، ما قد يدل على احتمالية قوية لوجود “احتراق”، علمًا أن لدى العيّنة 56 إجابة أبدت وجود عوامل تؤدي إلى “الاحتراق الوظيفي”. واللافت أن 11 إجابة، رغم وجود عدد كبير من علامات الإجهاد النفسي الناجم عن العمل، لم تتحدث عن ضغطه، وهو أمر شائع لدى من يخشون الطرد من العمل نتيجة إفشاء مشكلاته، ويراكم ضغطًا نفسيا مضاعفًا عليهم، لأن التعبير عن الانزعاج يخفف من الضغط والعكس بالعكس.
يمكن بقليل من الخطوات في أي مؤسسة كانت تجنيب الموظفين هذا الإجهاد، من خلال تقديم الدعم النفسي والتعزيز الإيجابي للعامل والتوجيه البسيط، وتنظيم العمل، وضمان حرية التعبير البنّاء دون خوف ومحاسبة، وترتيب لقاءات منتظمة تجمع كل الفريق من أجل مناقشة الإجهاد، واحترام مبدأ السرية عند الإفصاح من أجل راحة العاملين، واللطف والاحترام في إعطاء الأوامر والتوجيه، ومراعاة الفروق الفردية بين العاملين، والاهتمام بأوقات راحتهم ومنحهم إياها دون تكليفهم بمهام خلالها، وتخصيص يوم أو نصف يوم في كل شهر للقاء بالعاملين داخل أو خارج مكان العمل والقيام بأنشطة ترفيهية وبنّاءة، ومراعاة مشكلات العاملين الشخصية، واحترام تعبير الزملاء لبعضهم أو لأصدقائهم حول انزعاجهم من العمل دون الإضرار به أو المس بكرامة أحد، وتوجيه العاملين إلى الاعتناء بالجسم من خلال الرياضة وتمارين الاسترخاء، والنوم والتغذية الجيدين، وغيرها، والاعتناء بالعقل من خلال الأنشطة الروحية، والإبداعية، والفكرية، كالموسيقا، والرسم، والغناء… وتشجيعهم على التواصل مع الأهل والأصدقاء والأقارب.
هناك أفكار شائعة في الإدارة حول بعض المهن التي تتطلب الاستنفار الدائم كالطبيب والشرطي والإعلامي، وبالتالي يجب أن يتوفروا طوال النهار والليل! وهذا غير صحيح، فمن المعروف أن “الاحتراق الوظيفي” لدى الأطباء يبلغ 44%، وهي المهنة التي لا يُتوقع “الاحتراق” بها، ولذا يبذل المديرون الجهد لتنظيم العمل والمناوبات لدعم وحماية موظفيهم، لأن المدير قادر على أن يحمي موظفيه من الإجهاد النفسي بنسبه 70%، والعكس بالعكس.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :