علي عيد
أتاحت وسائل الاتصال الحديثة للجميع القدرة على الوصول إلى الجمهور، وغيّرت كثيرًا في مفاهيم العمل الصحفي، لكنها لم تغيّر في جوهره الذي يشبه المادة الأساسية في صناعة الذهب، فكل التجارب والمحاولات لصناعة المعدن دون مكوّناته الرئيسة الموجودة في الطبيعة بشكل شبه نقي كانت مجرد خداع.
خلال العقد الأخير التبس الأمر على كثيرين، فباتوا يسمون أنفسهم صحفيين، بل ويناكفون في ذلك، وهم لا يميزون بين الحمام الزاجل كأداة اتصال والمحرر الصحفي كمحترف يغطي الحدث ويسعى وراءه.
ذات مرة، احتاج الأمر إلى وقت غير قليل، ولكن دون نتيجة، لإقناع أحد الناشطين على منصة “يوتيوب” بأنه ليس صحفيًا، وهو الذي اعتبر أن ما يقوله من بنات أفكاره على فضاء مفتوح هو الصحافة بعينها، وأن لديه متابعين أكثر من مجموع متابعي مواقع بعض الصحف.
آخر يكتب مادة رأي في موقع إلكتروني حول التحف الأثرية المسروقة، وله ظهور متكرر على الشاشات لذات الغرض، احتاج إلى وقت أطول من سابقه، وكلاهما يعرّف عن نفسه اليوم بأنه صحفي.
في النموذج الأول، قيل للرجل، إن هناك عارضات أو نساء “موديل”، يحظين بملايين المتابعين على “يوتيوب” و”تيك توك”، لكنهن لسن صحفيات، وقيل للثاني، إن الصحافة لطالما فتحت أبوابها لذوي الاختصاصات الأخرى لفائدة جمهورها، وكلّ حسب مجاله، فما زلنا نقرأ حتى اليوم مقالات لواحد من أعتى السياسيين في العالم هو هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق في الولايات المتحدة، ومن آخرها مقاله في صحيفة “ذا سبيكتاتور”، الذي تداولته وسائل الإعلام الكبرى، وناقشته عشرات البرامج، ودرسته مؤسسات البحث، إذ يتحدث فيه عن احتمالات اندلاع الحرب العالمية الثالثة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فماذا لو خرج علينا كيسنجر بسيرة ذاتية تقول إنه عمل صحفيًا.
ومثل كيسنجر كثيرون، سياسيون وأطباء ومحامون وخبراء اقتصاد يقدمون إرشادات في مقالات متخصصة أو مقالات رأي، لكنهم ليسوا صحفيين مطلقًا.
في تعريف الصحفي، وهناك ألف صيغة، ثمة عناصر أساسية لا بد منها، وهي أن يكون قادرًا على متابعة وجمع المعلومات وتدقيقها وصياغتها لنشرها أمام الجمهور.
وجمع المعلومات وتدقيقها يحتاج إلى خبرة طويلة، وانضباط، ومعايير مهنية عالية لا يضعها الصحفي بنفسه، أما صياغة المادة الصحفية فتلك قصة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها.
الصحفي هو من اتخذ من الصحافة مهنة، وسخّر إمكاناته لتعلم أساسياتها، ثم احترافها، وباتت مصدر رزقه لا انتفاعه.
والصحفي كما كان يسمى “جامعة مصغرة”، يعرف شيئًا عن كل شيء، ليس ادّعاء بل معرفة بالحقيقة والأرقام والأدلة والمعالم غير القابلة للدحض، هو اليوم، ومع هذا التطور الهائل، رجل “مالتي تاسك” (متعدد المهمات)، وليس ضروريًّا أن يكون محترف صحافة رياضة أو اقتصاد أو سياسية معًا، لكنه يجيد أدوات التعامل مع مختلف هذه الاختصاصات إذا وُضع أمامها كمراسل أو محاور أو محقق أو محرر صياغة.
أزعم أن كيسنجر يدير نصف العالم بمقال على صدر صحيفة، لكنه لا يستطيع وضع عنوان عادل ومهني لقصة صحفية تعالج شأنًا اجتماعيًا، كما لا يجيد كتابة كلام الصورة، أو البحث وراء المصادر، وتلك قضايا مهنية تقنية.
الصحفي ليس شهادة جامعية في اختصاص معيّن، فالصحافة بالذات مهنة يمكن تعلّمها، وهناك عشرات الأمثلة الحاضرة عن صحفيين أداروا غرف أخبار ومؤسسات، وأجروا تحقيقات أفضل من حملة دكتوراه في الصحافة، وبالمناسبة، كنت أعرف أكثر من أستاذ جامعي يدرّسون في كليات الصحافة، ولا يستطيعون كتابة خبر صحفي.
الصحافة ليست “ترند”، إنها عمل متراكم، خبرة من أخطاء سنوات، دأب وقراءة، ومع ذلك كله هي شغف يحرّك صاحبه سعيًا وراء معلومة ما أو قضية تهم الرأي العام.
الصحفي ليس مقدّم برامج يظهر في نشرة الأخبار ليقرأ من “الأوتوكيو” ما كتبه محررو غرفة الأخبار، ثم يذهب إلى حفل استقبال دُعي إليه بوصفه شخصية عامة معروفة.
وبمناسبة هذه القصة الأخيرة، أتذكر بعض مذيعات التلفزيون الرسمي السوري، غير الصحفيات، فبينهن واحدة حوّلت عبارة صواريخ “جَو- جَو” إلى صواريخ “جُوجُو”.
وعلى ذكر “جُوجُو”، وعلى سبيل الجناس فإن “جوجو سيوا” هي “يوتيوبر” ومغنية وممثلة راقصة أمريكية، اعتبرتها مجلة “ذا تايم” بين أقوى 100 شخصية تأثيرًا في العالم لعام 2020، وكان عمرها آنئذ 17 عامًا، لكنها ليست صحفية يا سادة.. وللحديث بقية.