شتاء قاسٍ آخر
إبراهيم العلوش
لا تغيب معاناة السوريين طوال هذا الشتاء عن المحطات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تمتلئ بصور الخيام التي تسرّب الماء على ساكنيها، وصور الطرقات الموحلة، والعائلات التي تتضور جوعًا وبردًا وتستنجد بالمنظمات والدول لتخلّص أطفالها من بحار الطين والوجع والضياع.
وعلى عكس ما هو متوقع، وافق الروس هذا العام على تمديد قرار وصول المساعدات من معبر واحد في الشمال السوري لمدة ستة أشهر دون مماحكات وبازارات، ولكن حجم احتياجات السوريين يتفاقم خلال هذا الشتاء، ويجعل اللاجئين فريسة للبرد والجوع في خيامهم الممزقة التي ساقهم إليها نظام الأسد والطائرات الروسية.
في 9 من كانون الثاني الحالي، وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع على تمديد وصول المساعدات عبر معبر “باب الهوى” على الحدود التركية- السورية، متجاهلًا المعابر الأخرى التي كانت مفتوحة لنقل المساعدات إلى المخيمات التي يسكنها اللاجئون السوريون ويعانون فيها البرد والجوع، بعدما تم تهجيرهم من بيوتهم بحجة الإرهاب التي تتغنى بها أجهزة النظام.
وقبل ثلاثة أشهر كانت روسيا قد كافأت قائد قواتها في سوريا، الجنرال سوروفكين، بتعيينه قائدًا لجبهة القتال في أوكرانيا، وقام القائد المذكور بانتهاج نفس الوحشية التي تدرب عليها في سوريا بتقصد المدنيين والبنى التحتية، مستعينًا بالطائرات المسيّرة الإيرانية المفخخة، التي أبلت بلاء حسنًا في تدمير محطات الكهرباء، وحوّلت حياة المدنيين في المدن الأوكرانية إلى جحيم روسي قاتل، مشابه لحالة السوريين رغم الدعم الغربي لأوكرانيا.
نجاح الروس بتدمير سوريا لم يجعل الوصفة السورية التي تبناها الجيش الروسي بقيادة سوروفكين تنجح في إخضاع الأوكرانيين المدعومين بشكل جدّي من الغرب، وتم صرف صاحب الوصفة السورية من القيادة بعد ثلاثة أشهر من تعيينه في منصبه، إذ غيّر الرئيس الروسي بوتين قبل أيام قيادة الحرب هناك في رغبة أكيدة لمواصلة الحرب لمجرد الحرب، كما يقول بعض المعلقين الروس والغربيين، إذ يصفون بوتين وكأنه يلعب لعبة حرب على “بلاي ستيشن”، وهو يستمتع بها دون الشعور بالمسؤولية الإنسانية والأخلاقية تجاه الشعب الأوكراني وقبله تجاه الشعب السوري.
اللافت أن قرار الموافقة الروسي على تمديد وصول المساعدات إلى اللاجئين جاء سريعًا رغم تدهور سمعة روسيا في الحرب الأوكرانية، إذ كان الروس حريصين على نجاح وساطتهم بين أنقرة ودمشق وهم يستبشرون بلقاء رجب طيب أردوغان مع بشار الأسد، المتوقع خلال الأسابيع المقبلة، ليسجلوا نجاحًا دبلوماسيًا على الساحة السورية، بعد تآكل نفوذهم هناك، خاصة أن حربهم في أوكرانيا خففت من النفوذ الروسي بعد كثير من الكلام الذي قيل عن انسحاب وحدات روسية من سوريا للمشاركة في محاربة أوكرانيا.
والجدير بالذكر أن رغبة روسيا بإدخال النفوذ التركي في معادلة النفوذ الإيراني تأتي لإبقاء هذين النفوذين تحت مراقبتها، خاصة أن التمدد الإيراني صار يملأ الفراغ الذي تركته القوات الروسية، ويبدو ذلك واضحًا في الجنوب السوري الذي تم إغراقه بالمخدرات وبالاغتيالات التي تهندسها أجهزة النظام المدعومة من إيران.
في الجانب الآخر من قسوة هذا الشتاء، تلكأت إيران في إرسال المشتقات البترولية والغاز إلى سوريا في محاولة لإحراج النظام أمام السكان في مناطق نفوذه وخاصة أمام مؤيديه، حيث وصلت الحياة إلى حد الاختناق الذي طال أيضًا المناطق التي أمدّت عائلة الأسد بعشرات آلاف “الشبيحة” الذين ركبوا موجة التحشيد الطائفي ضد المتظاهرين.
وخلال الشهر الماضي، توقفت وسائل النقل الداخلي وتم إغلاق بعض الدوائر الحكومية لعدم توفر الوقود، وصار البنزين والمازوت شبه نادرين وسط شتاء شديد البرودة، وكان لإيران أسبابها الخاصة في ذلك التلكؤ، منها عدم مشاركتها المباشرة في اللقاءات التركية- الروسية- السورية، رغم رضاها عن ذلك التقارب.
وكان هذا الضغط أيضًا بسبب الزيارة المتوقعة للرئيس الإيراني إلى دمشق، وهو يطالب قبل وصوله بأن تتم الموافقة على فرض النفوذ الإيراني باتفاقيات مصدّقة تكبّل سوريا لعقود مقبلة، وتخضعها للسيطرة الإيرانية، أسوة بالسيطرة الروسية التي تم توثيقها بالاتفاقات المكتوبة والمصدّق عليها من قبل هياكل النظام التي تزعم الاستمرار باحتكار تمثيل الدولة السورية رغم الجرائم التي أفقدتها الشرعية.
لعل من أهم النتائج التي حصل عليها السوريون خلال هذه السنوات هي الجوع والدمار و”الكبتاجون”، بالإضافة إلى البرد الذي يهزّ أجساد السوريين طوال الليالي السوداء في هذا الشتاء، وصارت هذه النتائج علامات مميزة للسيطرة الروسية- الإيرانية بالتعاون مع نظام الأسد، وصار السوريون يقارنونها مع سنوات الجوع والوجع التي أصابت البلاد في بدايات القرن الـ20.
وبانتظار اللقاءات التركية- الروسية مع مسؤولي النظام، فإن الاستراتيجيات الدولية تتداخل وتعقد المؤتمرات والتحالفات، ولكن الشعب السوري غائب عنها، وهو مشغول بالبرد والجوع والتهجير والاعتقال، بينما تقرر الدول مصير السوريين، وتخطط لهم مزيدًا من المآسي التي تنتظرهم في العقود المقبلة، وما هذا الشتاء القاسي إلا واحد من شتاءات طويلة وكثيرة تنتظرنا ما دمنا عاجزين عن أخذ مصير بلادنا بأيدينا، بعيدًا عن تلك التحالفات المشبوهة التي ساقتنا إلى هذا المصير الذي خطط له نظام الأسد، وقد انطلقت جوقة إعادة الاعتراف به بحجة غياب البدائل!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :