عنب بلدي – جنى العيسى
أظهرت إحصائية نشرتها صحيفة “تشرين” الحكومية في 19 من كانون الأول 2022، نسبتها لـ”غرفة صناعة دمشق وريفها”، أن عدد العاملين الذين تركوا أعمالهم بالقطاع الخاص في سوريا منذ عام 2011 بلغ نحو 900 ألف عامل، منهم 200 ألف نتيجة الحرب، والبقية نتيجة السفر بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة.
بينما استقال نحو ثلث العاملين في القطاع العام، بالفترة ذاتها، وهو ما يقدّر بأكثر من 30 ألف عامل من أصل 87057 عاملًا في القطاع العام بمختلف مؤسساته.
الإحصائية التي أثارت جدلًا واسعًا حينها بسبب ارتفاع نسبة الاستقالات وترك العمل في القطاعين العام والخاص على حد سواء، حذفتها صحيفة “تشرين” من موقعها الرسمي ومعرفاتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أيام من نشرها، كما تنصلت منها “غرفة الصناعة” لاحقًا، ونفت “صحتها”.
وعلّق رئيس “اتحاد غرف الصناعة السورية” ورئيس “غرفة صناعة دمشق وريفها”، غزوان المصري، على الأرقام بقوله، إن “غرفة الصناعة” لم تصدر هذه الإحصائية، وليست لديها إحصائيات أساسًا حول ذلك، موضحًا أنه “لا توجد حاليًا هجرة للصناعيين، وأن الصناعة تستعيد قوتها، والدليل على ذلك وجود 400 منشأة صناعية حديثة بدأت بالإنتاج خلال العام الماضي”، بحسب قوله.
وأكد المصري، في الوقت نفسه، وجود نقص في العمالة الخبيرة بالقطاع الصناعي، لكنه عزا أسباب ذلك لخروج كثير من المنشآت الصناعية عن العمل نتيجة تدميرها بفعل الحرب.
تحاول عنب بلدي في هذا التقرير، البحث في دلالات الأرقام التي لم تعترف “غرفة صناعة دمشق وريفها” بصحتها، لكنها أكدت نقص العمالة، وأثر ذلك على القطاع الصناعي الذي يسجل خسارات متتالية لرؤوس الأموال، نتيجة ظروف الإنتاج الحالية، وما يرافق العملية من معوقات.
انهيار البنية التحتية
الأستاذ في “كليات الشرق العربي” والدكتور السوري في الاقتصاد عماد الدين المصبح، اعتبر أن هذه الأرقام لترك العمال في سوريا أعمالهم تدل على انهيار في البنية التحتية للاقتصاد السوري، نتيجة توقف المنشآت المشغلة لليد العاملة في مختلف القطاعات، سواء الصناعي أو التجاري أو الحرفي أو الزراعي، الأمر الذي أدى إلى تسريح العمالة.
ومنذ عام 2011، توقفت عديد من المنشآت الصناعية عن العمل لعدة أسباب، منها عدم قدرتها على تحمل ظروف العمل غير المشجعة، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب إمكانية الوصول إلى المواد الأولية وعوامل الطاقة بالقدر الكافي لتشغيلها، فضلًا عن الظروف الأمنية المتمثلة بتسلّط الأجهزة الأمنية ومن ورائها المافيات التي تفرض على المنشآت إتاوات لقاء بقائها، بحسب ما ذكره المصبح لعنب بلدي.
وأرجع المصبح ارتفاع أعداد العمالة التي خرجت من السوق في المنشآت التي لا تزال تعمل حتى الآن، إلى قيمة الأجور التي يتقاضونها، وهي دون “حد الكفاف”، ما يجبرهم إما على الاستمرار بهذا العمل إلى جانب البحث عن مصدر دخل ثانٍ بطريقة غير شرعية، وإما ترك العمل والهجرة خارج سوريا في حال المقدرة على ذلك.
“حد الكفاف” هو الدخل الكافي لتوفير الحد الأدنى من المعيشة، أو المتطلبات التي تضمن له البقاء من أكل وشرب وملبس ومأوى في الحدود الدنيا، ودون أي شكل من أشكال الرفاهية أو العيش الرغيد. |
وبحسب موقع “Salary explorer” المختص بأرقام سلم الرواتب والأجور حول العالم، بلغ متوسط الراتب الشهري في سوريا خلال 2022 نحو 146 ألف ليرة سورية، كما أن 50% من الموظفين بلغ معدل رواتبهم 146 ألف ليرة أو أقل، بينما يكسب النصف الآخر أكثر من 146 ألف ليرة.
ونهاية عام 2022، تجاوز متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، بحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، حاجز أربعة ملايين ليرة سورية، وفاق الحد الأدنى لتكاليف المعيشة 2.5 مليون ليرة سورية، لتتضح الهوة الهائلة التي تفصل الحد الأدنى للأجور في البلاد (لا يتجاوز 92.970 ليرة سورية) عن متوسط تكاليف المعيشة الآخذة بالارتفاع بشكل متواصل.
نزيف طاقات مستمر
المستشار الاقتصادي السوري محمد هزاع الحراكي، قال لعنب بلدي، إن هجرة الصناعيين والعمال تؤكد ما خلصت إليه أغلب التقارير الدولية الصادرة عن جهات معتبرة، حول استمرار الانكماش في الاقتصاد السوري ليصل إلى 2.6% سالب في 2022، في حركة هبوط عن العام الذي سبقه، إذ سجلت نسبة الانكماش حينها 2.1% سالب، وكذلك معدلات الفقر المرتفعة، فضلًا عن ارتفاع نسب التضخم.
واعتبر الحراكي أن سوريا كدولة “محكومة من قبل مافيا” تنزف اقتصاديًا واجتماعيًا منذ عام 2011، يضاف إلى ذلك أرقام الهجرة من سوريا، التي بدورها تعني نزيفًا قاتلًا للاقتصاد أولًا، يبدأ من الأطباء والخبراء والمهندسين، ومعظم المهن الأخرى، وصولًا إلى العمال، لتعاني الأسواق السورية اليوم نقصًا حادًا في الموارد البشرية التي تعد مفتاح النمو والتنمية الحقيقية وإعادة البناء.
القطاع “متهالك”
تعد مشكلة نقص العمالة إحدى أبرز المشكلات التي يعانيها الواقع الصناعي في مناطق سيطرة النظام، لكن إلى جانبها تبرز المشكلات الأكبر المتعلقة بهروب رأس المال، متأثرًا بعدة عوامل.
في 19 من كانون الأول 2022، قال نائب رئيس “غرفة صناعة دمشق وريفها”، لؤي نحلاوي، إن هجرة الصناعيين لا تزال مستمرة، مضيفًا أنه يجب الحفاظ عليهم، وأن ظروف القطاع الصناعي “الاستثنائية” تحتاج إلى قرارات استثنائية تتماشى مع الوضع الحالي، وجرأة أكبر لاتخاذ قرار إسعافي وسريع.
وخلقت الظروف الاقتصادية الأخيرة خلال السنوات الماضية، كتكاليف الحرب المباشرة، والعقوبات المفروضة على النظام السوري، والقرارات التي تتخذها حكومة النظام فيما يتعلق بالاستيراد والتصدير، جملة من التحديات الجديدة بوجه الصناعيين الذين لم يغادروا البلاد، ما دفعهم للتفكير والسعي لنقل أنشطتهم خارجها.
ويعد وضع القطاع الصناعي في سوريا حاليًا أبعد ما يكون عن الاستقرار وتحقيق الانتعاش، رغم حركة إعادة فتح المنشآت، والوصول إلى مستوى أعلى من الإنتاج، كما أن بيانات الدعم والتدابير الحكومية حول القطاع ليست كافية لطمأنة الأغلبية الساحقة من الصناعيين، خاصة أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة منهم، بحسب دراسة حول “قطاع التصنيع في سوريا: النموذج الحالي للانتعاش الاقتصادي“، أعدها الباحث الأستاذ المُنتسِب في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا بإيطاليا، والمشارك في مشروع “زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا”، الدكتور جوزيف ضاهر، في أيار 2019.
وأكدت الدراسة أن انتعاش قطاع التصنيع وتطوّره يمكن أن يشكّلا عنصرًا أساسيًا في استقرار الاقتصاد، وبشكل عام البلاد، إذ من شأنهما أن يعزّزا الإنتاج المحلي، ويقلّلا بشكل جزئي الضغط على الليرة السورية لتمويل السلع المستوردة، وقد يسهم هذا العامل إلى حد ما أيضًا في خفض اعتماد سوريا على المنتجات المستوردة من إيران وروسيا والبلدان الأجنبية الأخرى.
وتحدثت الدراسة عن ضرورة إيجاد فرص عمل بديلة عن تلك المرتبطة باقتصاد الحرب، مستبعدة نهضة القطاع الصناعي في المستقبل القريب.