الأقلية جماعة متوطنة في مجتمع أكبر، لها خصوصية اجتماعية أو ثقافية أو دينية، تختلف بها عن مجموع السكان وترغب في المحافظة عليها.
وفي الثقافة الإسلامية لا يوجد مصطلح أقليات، إنما يوجد مصطلح أهل الذمة، لأن الإسلام لا يعترف بالتقسيم على أساس اللون أو العرق أو اللغة، وإنما يعتمد المعتقد الفكري. فأهل الذمة جماعةٌ لا يريدون الالتزام بالإسلام، لكنهم يوافقون على العيش ضمن المجتمع الإسلامي أو بحمايته، إذ أن الذمة تعني العهد والضمان.
وفي الوقت الذي لم يعرف الغرب مفهوم المواطنة قبل الثورة الفرنسية، كان المسلمون قد أسسوا دولة المدينة على أساس الوثيقة التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ضمن بموجبها التعددية الدينية والمساواة في الحقوق والواجبات، فقد نصت على أن (اليهود أمة مع المؤمنين، ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم، على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنما بينهم النصر على من حارب أهل هذه الوثيقة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم). وبهذا يكون الإسلام قد ضمن حرية الاعتقاد وحرية الاقتصاد والحقوق المدنية، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدًا، أو انتقص حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»، وفي نص معاهدته لنصارى نجران: «… ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد على أموالهم وملتهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير». وفي رسالته إلى أهل الحيرة «وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني، فإنه في المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانية لا يفتن عنه».
لقد أرسى الإسلام قواعد السلم الأهلي بين مختلف الطوائف عندما منحهم حريات مدنية واقتصادية، حيث سمح للمسلمين بالزواج من الكتابيات مع بقائهن على ديانتهن، بل أسهم النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس علاقات اجتماعية، حيث كان يتعامل مع اليهود ويستدين منهم ويعود مرضاهم ويقف احترامًا لجنائزهم. وتذكر السيرة أن خياطًا يهوديًا دعاه إلى وليمة غداء فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم واستأذنه في أن يصطحب معه زوجته عائشة. ويؤكد التاريخ تقلّد العديد من أبناء الأقليات لمناصب حكومية ووزارية.
وبالرغم من أن الإسلام يعتبرُ عقائدَ أهل الكتاب باطلةً، إلا أنه لا يشجع على الكراهية والاعتداء، بل يلزم المسلم بمجموعة من القواعد والآداب.
يقول الله تعالى:
1. (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) الممتحنة: 8 – 9 .
2. (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
3. (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم).
4. (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة : 256.
5. (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آل عمران : 19.
وبهذا يعترف الإسلام بنبّوة جميع الأنبياء، ويؤكد على أن التحريف والتلاعب حصل في الديانتين اليهودية والنصرانية، لكنه يصر على السماح بهذا الاختلاف، والتعامل معه بمنتهى الأدب، ومحاولة الابتعاد عن الجدل الديني لكي لا يتحول الاختلاف المسموح به إلى اصطفاف ايديولوجي .
أما مفهوم الجزية، والذي يدور حوله لغَطٌ كثير، فهو ليس إلا بدل نقدي يدفعه القادر من الرجال، لقاء الحماية والأمن، ولقاء كفالة جميع أفراد الطائفة من بيت مال المسلمين في حال الشيخوخة والمرض والعجز، وهي كمبلغ نقدي أقل بكثير مما يؤخذ من المسلم كزكاة مال. كما أن هنالك اجتهادات فقهية تُسقِط هذه القيمة إذا ما التحق هذا المواطن بالخدمة العسكرية.
ولربما يتحفظ البعض على المصطلح ولا يقبلونه، وهذا لا يشكل مشكلة، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلب منه بنو تغلب وهم من العرب النصارى قائلين: إننا نأنف كلمة الجزية ونريد أن تأخذ منا باسم الزكاة أو الصدقة.. فقبل منهم ذلك رضي الله عنه .
إن بعض الأراء الفقهية، كانت قد كتبت لزمان غير زماننا فهي لا تُلزِمنا حاليًا، كما أن هناك بعض الأحاديث التي وردت تتحدث عن طرق خاصة بمعاملة الذميين، حملها العلماء على التقييد بزمن الصراعات والحروب، لا تؤخذ على إطلاقها. بل يوجد من الأراء الفقهية ما مفاده عدم إلزام أهل الذمة بقانون العقوبات الاسلامي .
أسباب التوتر الطائفي :
1. المزاج الخاص لبعض الحكام والولاة، حصل هذا في عهد المتوكل العباسي، وفي عهد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي. ولقد لحق المسلمين من هذين الحاكمين ما لحق غيرهم من الأذى، وحصل في أمثلة معاصرة أيضًا .
2. تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومحاباة بعض الموظفين الإداريين من الأقليات أهلَ مللهم على حساب المجموع، أو سيطرة لون طائفي معين على الدولة واضطهاد الآخر .
3. في فترات التدخل الأجنبي كان المستعمر يستدرج شرائح من الأقليات للعمل معه في التشكيلات العسكرية، كما حصل بالتشكيل الذي كان يتزعمه يعقوب حنا أثناء حملة نابليون على مصر، كذلك تطوع بعض من أبناء الأقليات بالجيش الفرنسي أثناء احتلال سوريا. أضف إلى ذلك الميزات الإدارية التي منحت لهم من قبل المستعمر. كذلك ادعاء كلٍ من الفرنسيين والإنكليز أن احتلالهم لسوريا ومصر جاء لحماية تلك الأقليات، علمًا أن بعض المؤتمرات الكنسية كانت تشجع على ذلك أحيانًا.
4. حملات التبشير والتنصير والاستشراق والدعوات إلى استبدال اللغة الفصحى بالعامية، ولغة الهكسوس وسلخ الوطن العربي عن محيطه الإسلامي، وتبني الدعوات الإقليمية والقومية واليسارية المناوئة للثقافة الإسلامية، والتي وللأسف كانت متبناة من قبل الكثير من شخصيات الأقليات وبعض الزعامات الكنسية .
5. الحركة الصهيونية العالمية واليهودية، وما قامت به من سلب لفلسطين وتشريد لشعب بأكمله .
6. محاولاتُ الاستعمار استعمالَ الأقليات كرأس حربة في الاقتتال الأهلي والتدخل العسكري .
وهكذا نرى أنه لا يوجد مشكلة أقليات لطبيعة ثقافتنا الإسلامية، فبعد مرور مئات السنين على بزوغ شمس الإسلام لازالت الأقليات موجودة في مجتمعاتنا منخرطة ضمن النسيج العام، بل تشهد على أنها لقيت من الإنصاف ما لم تجده من أبناء ملتها. ويذكر التاريخ أن أقباط مصر قبل دخول الإسلام كانوا لا يجرؤون على ممارسة عباداتهم إلا في الاصطبلات، بالرغم من أنهم كانوا محكومين بأبناء ملتهم المسيحيين، ولم تبنَ كنائسهم إلا بعد الفتح. والدليل التاريخي الباهر الآخر على ذلك، أننا نلحظ وجود الأكراد والأمازيغ والشيعة والإسماعيلية والنصيرية واليزيدية والزيدية والصابئة والنصارى واليهود ضمن النسيج السكاني العام.
ولا يفوتنا عند ذكر بعض المواقف الوطنية التي كانت تتبناها أقسام واسعة من الأقليات أن نذكر مقولة مكرم عبيد (نحن مسلمون وطنًا، نصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن نصارى، اللهم اجعلنا نحن النصارى لك وللوطن مسلمين)، وكذلك موقف فارس الخوري عندما سمع مقالة الجنرال غورو أنهم جاءوا لحماية الأقلية المسيحية في سوريا، عندها توجه إلى المسجد الأموي وأعلن من هناك أن الفرنسيين إذا جاءوا لحماية المسيحيين فإنه يشهد من هنا، من المسجد الأموي، بأنه لا إله إلا الله، وخرج على رأس تظاهرة طافت شوارع دمشق، اختلط خلالها المسيحي بالمسلم يرفض التدخل الفرنسي .
يجب أن نعترف أن الأقليات تخاف حين تتوقع الظلم والحيف من الآخر، ولربما تندفع بشكل غريزي للاستقواء بالأجنبي، أو يستدرجها الأجنبي لذلك.
ويجب أن نعترف أن التاريخ القريب منح بعض الأقليات الكثير من المزايا على حساب المجتمع. وللأسف فإن بعضًا من هذه الأقليات يلعبون لعبة مفادها عدم الرضا عن الأكثرية تخوفًا منها كأكثرية، إلا إذا تنازلت عن كمٍ من مزاياها وخصائصها، وهذا أمرٌ لا يصحّ في السلوك الديمقراطي.
لا تمانع التجربة الإسلامية السياسية من تبني الحل الأمثل المتمثل بالعودة إلى المواطنة الكاملة التي تتساوى فيها الحقوق والواجبات، وتتمتع فيها الأكثرية بالحكم والأقلية بالمعارضة، ولكن ليس على أساس طائفي أو ديني، وإنما على أسس سياسية وطنية ديمقراطية، وبمرجعية صناديق الانتخاب النزيهة .