لعلّ تلاحق أحداث الثورة، وكثرة التحدّيات التي نمرّ بها جميعًا، يجعلنا نغفل أمرًا في غاية الأهمية، أو ربما ستكون ثورتنا بداية توجّه انتباهنا لأمر ناله الإغفال والتغييب طويلًا، عن قصدٍ في معظم الأحيان أو من دون قصد.
سواء كان هذا أو ذاك، فإن الأوان قد آن برأيي للتنبّه لموضوع «الأرشفة والتأريخ» لحقبة زمنيّة مهمّة، لعلّها منعطف تاريخي كُتِبَ لنا أن نعيشه جميعًا…
قد تكون الأرشفة هي الإرث الأهم الذي يمكن أن ينتقل من جيل لآخر، ولعلّها الأمر الذي أغفله العرب بشكل عام في القرون الأخيرة، رغم براعتهم به في سالف الزمان بشكل فاق كل الأمم.
كثرة الأحداث، وتلاحق المراحل، تزاحم التحدّيات، التغيّرات السريعة، جميعها قد تشغلنا عن هذا الموضوع، كما حدث مع مفكّري القرن الماضي مثلًا، فكانت النتيجة القليل جدّا من الوثائق التي كتبت لغرض «التوثيق»…
قد نلجأ لقراءة كتاب كُتِب في حقبة ما لمعرفة ما كان يجري في تلك الحقبة، فنستشفّ بجهد جهيد طبيعة الظروف التي كُتِب فيها، لكنّ هذا لا يكفي برأيي، فتوجيه خطابك لمن يعايشونك اليوم، لا يستلزم توصيفًا أو توثيقًا، أمّا الأرشفة والتأريخ، هي خطاب لجيل لم يولد بعد، وهو ما يستدعي الالتزام بقواعد التوصيف والتوثيق وكتابة الشهادات باعتبار الكاتب الذي يسجّلها «شاهد على عصر» لمن لم يشهد هذا العصر بعد.
وما أهمية ذلك؟!
يسأل سائل لا يرى من أهمية لمعرفته طبيعة الظروف التي مرّ بها أجدادنا في الحرب العالمية الأولى مثلًا، أو النهضة العلمية والصناعيّة التي كانت تشهدها سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي…
برأيي… ما الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية من هذا؟!
أن تقرأ دروسًا في كيفية تجاوزهم أزمات الحروب.. وسائل عيشهم البسيطة التي أعانتهم على الاستمرار.. كيف نهضت دولٌ وقامت على أقدامها، كيف عاشوا، تسلسل تطورهم «أو انحدارهم»، كيف خضع الناس لنظام فاسد مدّة طويلة؟ ما الظروف التي كانت تشغلهم آنذاك؟ كيف تقوم للأمم قائمة؟ كيف تباع الأوطان؟
للأمر أهمية أن يكتب عنه أثناء وقوعه، لا بعد أن يقع!
تمامًا ككتابة مريض ما لذكريات مرضه، الأعراض التي تظهر كل يوم، الأدوية التي يلجأ لها والعادات التي يمارسها، وتأثير أي من ذلك على صحته، سيسهّل هذا الأمر على الطبيب تشخيص مرضه بشكل أكبر، وستكون هذه الذكريات «التوثيقية» بمثابة دليل يرشد من يعاني أحد أعراض المرض ذاته لما يجب عليه أن يفعله، متفاديًا المرور بكل آلام ذاك المرض، متجاوزًا المطبات التي وقع فيها المريض الأوّل، ما استطاع!
واليوم، تقع على كاهلنا، كجيل يعايش فترة حسّاسة كهذه، أن ننتبه لأرشفة ما نمرّ به، بالتزام الموضوعية والصدق ما استطعنا، تسجيل الشهادات، توثيق الهجرات من مكان لآخر، توصيف ما يجري في منطقة ما، كيف كانت، كيف صارت، التغيّرات السكانية والديموغرافية فيها..
الكتابة الفكرية أو الأدبية أثناء الثورة -أثناء أي حقبة زمنية- تختلف عن الكتابة «عنها»… وهو ما أتحدّث عنه..
مشروع كبير؟ يحتاج لجهود حقيقية وصادقة؟ لا ريب..
لكن الأوان قد آن، لنفض الغبار عن أمر ربما كان المغيّب الأكبر له، ديكتاتوريات القرن الماضي، وغفلة مفكريه.
الأوان قد آن حقّا، لكتابة تاريخ بأقل قدر من الكذبات والتناقضات، لا يشبه كتب التاريخ التي ندرسها ونقرأها.