بيليه في حياتنا
عروة قنواتي
رفض عام 2022 أن يطوي صفحاته في حياتنا قبل أن يُشعرنا بالحزن والألم مجددًا، ولربما كانت أيام المونديال مفرحة تحمل الحماسة والبهجة والندّية في كل مباراة، إلا أن الخبر الصادم، الذي أُعلن عنه الخميس الماضي، أنهى مسيرة العام بغصة رياضية، بل عالمية، إذ رحل عن عالمنا ملك كرة القدم وأسطورتها العظيمة وجوهرتها السوداء، صاحب الثلاثة تتويجات بكأس العالم، البرازيلي إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو، المعروف بـ”بيليه”، عن عمر ناهز 82 عامًا بعد معاناته مع المرض لسنوات.
بيليه الذي لم يحضره جيلنا عبر الشاشات، وتقريبًا الجيل الذي قبلنا لم يشاهده إلا في ملامح الطفولة والمراهقة لمن كانوا يمتلكون تلفزيونات في منازلهم، فهو لاعب القرن الـ20، بحسب تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم، اعتزل اللعب في عام 1977 ضمن نادي نيويورك كوزموس الأمريكي، أي أن جيلنا والجيل الذي سبقنا لم يشاهد بيليه في قمة عطائه ومجده وحصاده لنجمات البرازيل الثلاث في مونديال 1958، و1962، و1970.
ضجيج إخباري وبرقيات ورسائل تعزية من شخصيات سياسية كبرى في العالم، ومن نجوم وأساطير كرة القدم والرياضة في الكرة الأرضية، القدماء والجدد، تذكّر بالحالة التي أعقبت وفاة الراحل دييغو أرماندو مارادونا قبل عامين، ويومها كتب الراحل بيليه في عزاء مارادونا: “لم نلعب كرة القدم معًا في الأرض يا صديقي، سنلعبها يومًا في السماء”.
يحتار القلم أين يذهب في الإحصائيات والأرقام والذكريات والعظمة والقدرة التي توّجت مسيرة الجوهرة السوداء في العالم، ترتجف الأصابع وهي تكتب عن أبرز محطات بيليه في الساحرة المستديرة، أسلوبه، الفن والمراوغة، حسم المباريات، روح القائد، كل هذا لا يُختصر في أسطر أبدًا.
عندما كنا صغارًا نلعب كرة القدم في الحي أو في المدرسة ويطول غيابنا عن المنزل، كان الأهل يشعرون بالغضب ويقومون بالتوبيخ، كما درجت العادة، ومما أذكره في أثناء التوبيخ عند معرفتهم أن سبب الغياب هو لعب كرة القدم: “محسب حالك مارادونا ولا بيليه؟”، وعندما كبرنا قليلًا ورغب بعضنا بالانتساب للأندية المحلية في مرحلة الفئات العمرية، كان السؤال العائلي يأتي بطريقة ساخرة أحيانًا: “يعني رح تصير لعيب متل بيليه؟”، وفي أثناء تفاعلنا بمشاهدة المباريات عبر التلفاز مع الأهل لأي فريق أو منتخب، وفي حال تسجيل هدف عالمي كانت الجملة: “سجل هدف ما بيقدر عليه بيليه”.
الراحل الأسطورة ارتبط بحياتنا بأكثر مما ذكرت من طفولتي ومراهقتي، إذ دخل أيضًا في تقييماتنا المنفعلة والمجتهدة والمتعبة، إذا ما كان هو الأفضل في العالم أم مارادونا، ثم انضم ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو لقائمة التقييم، وطالت سنوات المد والجزر.
بيليه حيّر العالم لأنه لم يلعب في أوروبا، كما الكثير من أساطير كرة القدم في قارة أمريكا الجنوبية، على الرغم من أن وسائل إعلام أوروبية تحدثت طويلًا عن رغبة فرق أوروبية كبرى آنذاك، مثل بايرن ميونيخ ومانشستر يونايتد وإنتر ميلان ونابولي، في الظفر بخدمات الجوهرة السوداء، ويحكى أن الرئيس البرازيلي وصف بيليه بـ”الكنز الوطني” عام 1961، وهذا يعني أنه لم يعد يستطيع اللعب خارج البرازيل، فقضى أغلب عمره الكروي في نادي سانتوس البرازيلي، وفي آخر ثلاث سنوات لعب لنادي نيويورك كوزموس الأمريكي.
في كل مونديال كان يطل بتصريحاته، بتوقعاته، بالأرقام التي يتجهز النجوم الجدد لتحطيمها بعد أن كانت لعقود طويلة باسمه فقط، واليوم يطل مرة أخيرة برحيله عن عالمنا ليصعد كجوهرة كروية مرصعة بالأمجاد والألقاب إلى السماء بين النجوم. وداعًا بيليه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :