عنب بلدي – حسام المحمود
يبدي بعض الكتّاب والمعنيين بالنشاط الأدبي والفلسفي اهتمامًا بعملية الترجمة، لكونها حلقة وصل بين عالمَين تعرّف أحدهما إلى الآخر، أو تلعب دور الوسيط والناقل فقط.
نور حريري، شابة سورية مقيمة في ألمانيا، حاصلة على بكالوريوس في هندسة الاتصالات، وشقت طريقها في مجال الكتابة والترجمة، وتبدي اهتمامًا خاصًا بالفلسفة، ما دفعها إلى دراسة الفلسفة في ألمانيا من البكالوريوس وصولًا إلى تحضير رسالة الدكتوراه.
لنور قصة قصيرة منشورة بعنوان “أسباب وأسماء”، وعدة ترجمات منشورة عن الإنجليزية، لكتب الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، منها “الحياة النفسية للسلطة”، و”مفترق الطرق”، و”قوة اللاعنف”، وعدة أبحاث منشورة منها “الترجمة تفكيكيًا: الخطاب النسوي نموذجًا”.
وحول سبب تركيزها على أعمال بتلر، أوضحت المترجمة الشابة لعنب بلدي أنها تفضّل الاختصاص في الترجمة، كما أن ترجمة أكثر من كتاب للفيلسوفة الأمريكية قرّبتها من لغتها الصعبة، كما وصفتها، وساعدتها على حل إشكاليات في ترجمة نصوصها، بعد إدراك أهمية ترجمتها إلى العربية.
الترجمة فلسفيًا
في الوقت الذي اعتبرها عالم اللاهوت البريطاني بنيامين جويت، “حلًا وسطًا بين الحرفية والاصطلاحية”، ذهب الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بولاخيس أبعد من ذلك في تعظيمها، معتبرًا أن “العمل الأصلي خائن للترجمة” (لا العكس)، إذ لا يمكن التوصل إلى ترجمة مُرضية، ولا يمكن أن تكون الترجمة نهائية، وهي مجرد محاولة للقيام بمهمة مستحيلة، وفق آراء فلاسفة وأكاديميين ومنظرين.
الشاعر السوري هاني نديم، وصف في وقت سابق المترجمين بأنهم “من منحنا شرفات لمنازلنا وإن كانت في القبو، وآفاقًا لعقولنا ولو كنا في الزنازين، وعوالم لم نكن نتخيلها ونحن على أريكتنا لم نتحرك على الإطلاق”، بينما شبهتها الروائية الأيرلندية آيريس مردوك، بأنها “كأن يفتح شخص فمه، لتسمع صوت شخص آخر يصدر منه”.
وأوضح الدكتور عز الدين الخطابي وسعيد الحنصالي، مترجما كتاب “مديح الترجمة: تعقيد الكوني”، للفيلسوفة الفرنسية باربارا كاسان، أن الترجمة بمنظور كاسان هي مهارة التعاطي مع الاختلافات بكل تنويعاتها، ولا سيما الاختلافات السياسية.
تحذير من مفاهيم
كتاب “قوة اللاعنف” هو أحدث ترجمات نور حريري عن أعمال جوديث بتلر، وهو كتاب ينظر في كيفية احتكار السلطة لمفهومي العنف واللاعنف من خلال ممارسة “التسمية والتوصيف”، فتصف السلطة المظاهرات التي تطالب بالحرية مثلًا بالعنيفة، وتصف ممارساتها الخاصة بغير العنيفة، كما يتصدى الكتاب لبعض الافتراضات الرئيسة المتعلقة به، ويدعو إلى فهم جديد للاعنف بوصفه ممارسة اجتماعية وسياسية.
ولفتت المترجمة إلى ضرورة انتباه القارئ لكثير من المفاهيم التي يجري استخدامها عادة دون تفكير، مثل العدوان، والعنف، واللاعنف، والواقع، والممكن، مع ضرورة إعادة النظر في العنف المرافق للثورات وأشكاله غير المتساوية، وضرورة التفريق بينها، مشيرة إلى وجود عنف ثوري مبرر، وآخر هدّام رجعي غير مقبول.
وتدعو المترجمة في هذا السياق لرفض ثنائية “العنف والسلم”، والعزوف عن طرح سؤال “السلمية أم العنف؟”، باعتبار مثل هذه الثنائية تحرف الانتباه عما يحدث باسم العنف وداخل العنف أو ما يحدث باسم السلم، فكل الأنظمة القمعية والاستبدادية والاستعمارية تزعم أنها تنشد تحقيق السلم.
وإلى جانب الترجمة، تعمل نور في كتابة المقالات الصحفية، وتعتبر العلاقة بين القراءة والكتابة والترجمة أساسية وجوهرية، فهي لا تستطيع القراءة لكاتب أو مترجم لا يقرأ، وهو ما يمكن اكتشافه بسهولة من وجهة نظرها، على اعتبار أن اللغة والمنطق يشرحان الكثير من شخصية الكاتب أو المترجم.
الترجمة “كريمة”
ترى نور حريري أن الترجمة تضيف إلى المترجم أكثر بكثير مما تأخذ منه، لأنها أداة معرفة، وربما أهم أدوات المعرفة، وكثير من المفكرين والفلاسفة خاضوا تجربة الترجمة، فالخوض في اللغة من الناحية الشكلية والدلالية واللفظية، والتعرّف إلى الاختلافات البنيوية بين اللغات، والانفتاح على سؤال اللغة، واكتشاف الآخر من الداخل، والمسؤولية التي يفرضها النص والقارئ على المترجم، والاحتمالات الجنونية التي يضعها النص أمامه، والقيود التي يجري فرضها عليه، وهامش الحرية المتاح للتصرف والحركة، والحالات النفسية التي يعيشها المترجم مع النص، كلها مهارات وأدوات وعمليات إدراكية وانعكاسية عميقة يختبرها المترجم، ولا يمكن الحصول عليها بهذا الزخم من أي أداة معرفة أخرى.
وحول أهمية النقد في الكتابة والترجمة، أوضحت أن قيمة النقد تنبع من ضبطه لحركة الفكر، في سبيل إنتاج المعرفة العلمية والتخلص من الأيديولوجيا، إلى جانب عدم اكتفاء النقد بالنتائج أو الواقع القائم، بل إنه يتعداه إلى النظر في المقدمات والمنطلقات، فـ”النقد يسأل كيف أصبح الواقع كما هو عليه؟ وما سبيل تغييره؟ وهو ورشة فكرية مستمرة تتيح للفكر موقعًا جديدًا، فيجب ألا يكتفي الفكر بإظهار الخلل والمشكلة، بل يتخذ موقفًا منها أيضًا”.
وبالنظر إلى مكان اللغة في الكتابة والترجمة، فهي بمنظور نور حريري تخضع لعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية، غير قابلة للتغيّر المفاجئ، لكنها تخضع لقانون التغيّر العرضي، وهي ليست نظامية عقلانية تمامًا، أو اعتباطية لاعقلانية تمامًا.
أجد في الترجمة “روح” العمل والنشاط، لا “أنا” فيها إلا عبر الآخر، فيها جهد وكدح وعرق جبين، وفيها الصحة والشبع والغنى. إن ترجمة كتاب واحد تعادل حضور ما لا يقلّ عن 20 جلسة علاج نفسي.
المترجمة السورية نور حريري |
الفلسفة أصعب
وللتمييز بين ترجمة الكتب الفلسفية وبقية الترجمات، أوضحت نور أن ترجمة كتب الفلسفة أصعب من ترجمة الكتب الأخرى، مبيّنة أن الصعوبة لا تكمن في إجادة اللغة، أو ترجمة المصطلح الفلسفي، بل في فهم النص نفسه، وفهم سياقاته الثقافية والاجتماعية والسياسية، أي في الجانب المعرفي، بالإضافة إلى الموقف الأخلاقي الذي يحتّم على المترجم اتباع استراتيجيات ترجمة نقدية معيّنة، كما تتطلّب ترجمة الفلسفة الإلمام الواسع بالفلسفات المختلفة والنظريات الاجتماعية والسياسية وغيرها.
“في ترجمة الفلسفة جهد جسدي، و(عرق جبين)، إنها تنهك العقل والجسد معًا، أكاد أجزم أن مترجمي الكتب الفلسفية والفكرية يعانون آلامًا مزمنة في الظهر والعينين والأطراف”، أضافت المترجمة.
جمالية وإخلاص
تحتاج ترجمة كتب الفلسفة إلى وقت طويل للقراءة والبحث والترجمة والمراجعة، إذ تعتبر فترة المراجعة الأصعب على مستوى الجهد العقلي والجسدي والنفسي المبذول خلالها، وهي فترة منهكة، يصعب قياسها أو تحديدها، بسبب إعادة قراءة الترجمة مرات عديدة، وإجراء تعديلات وتصحيحات، وفق المترجمة التي ترى في لحظة تسليم الكتاب إلى دار النشر لحظة حساسة تبعث على القلق، وكل ذلك يعني أن ترجمة كتاب من 200 صفحة مثلًا قد تستغرق ما لا يقل عن سنة كاملة.
وبالنسبة لحالة التضاد أو عدم الاتفاق التي لفت إليها الروائي الروسي يفغيني يفتوشينكو، بين جمالية الترجمة ومدى إخلاصها، ترى نور حريري أن جمال النص لا ينكشف دفعة واحدة، بل ينبثق في لحظة معيّنة بعد تفاعل طويل بين القارئ والنص، فلا يمكن أن يكون الجميل خائنًا في هذه الحالة، فجماله لا يُدرَك من المفردات والتراكيب، بل من طريقة النص في البوح وسعيه للإيصال.
“في لحظات معيّنة، يُدرك المترجم أنه يجب وضع القارئ فوق النص، وفي لحظات أخرى، وضع النص فوق القارئ، وإبقاء النص غريبًا بعض الشيء، فيقسو على القارئ، ويطالبه بالتفكير والتساؤل قليلًا”.
والخيانة في الترجمة تحصل حين يختار المترجم إرضاء القارئ فقط أو إرضاء النص الأصلي، والإخلاص هو التناقض والتذبذب المستمر الذي لا يمكن حسمه أو وضع قاعدة ثابتة له، بحسب المترجمة.
الفلسفة والثورة
باعتبارها متخصصة في المجال الفلسفي، لفتت نور حريري الانتباه إلى ادعاء استخدام أنماط التفكير التجريبية أو العقلانية في السياسة، مع إسقاطها على الحالة السورية.
وأوضحت أن التجربة السياسية السورية هيمن عليها النمط التجريبي، الذي رفض (انطلاقًا من موقع جهل وأيديولوجيا ومصالح سياسية) ما له علاقة بالتفكير العقلاني أو العلمي، وأخذ بشكل تدريجي طابعًا شعبويًا، وراح يدعو الناس دعوات عاطفية وطائفية بلا برامج وطنية أو خطط سياسية واضحة.
هذه العوامل أسهمت بالتلاعب في عواطف الناس وتحريضهم على الكراهية والعداوة والعنف، ثم هيمن على المشهد السياسي السوري ما جرى اعتباره نمط تفكير عقلاني، لكنه لم يكن كذلك بقدر ما كان رد فعل على التجريبية والشعبوية المنتشرة، وقد أخذ طابعًا نخبويًا وسلطويًا، ولم تكن له برامج سياسية واضحة، أو كانت برامجه السياسية فاسدة، إضافة إلى خطابه المتعالي الذي يوجّه اللوم باستمرار إلى الشعب، وهو أبعد ما يكون عن معاناة الشعب أو عن الواقع السوري.
وبناء على ذلك، لا يكون العقلاني (الوضعي والنخبوي والسلطوي) مختلفًا كثيرًا عن التجريبي (العاطفي والطائفي والشعبوي)، وهذا مجرد مثال على المزاعم التجريبية أو العقلانية الأيديولوجية (التي تدّعي بأنها غير أيديولوجية) في الحقل السياسي.
تترجم نور حاليًا كتاب “ذوات راغبة” لجوديث بتلر، الذي يدور حول الرغبة كجوهر للذات البشرية، وكيف فهمها وفسرها الفلاسفة، كل على طريقته، كما تعمل على ترجمات أخرى عن الفرنسية والألمانية.