“2254”.. سبع سنوات من الخيبات

  • 2022/12/18
  • 11:07 ص

هادي البحرة رئيس اللجنة الدستورية يخاطب الصحفيين أمام مقر الأمم المتحدة في جنيف - 18 من تشرين الأول 2021 (الأمم المتحدة)

جنى العيسى | حسام المحمود | لجين مراد

قبل سبع سنوات، وبإجماع الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وبالاستناد إلى بياني “جنيف” و”فيينا”، دخل القرار رقم “2254” الأشهَر حول سوريا حيز التنفيذ.

وضع القرار المتمثل بـ16 بندًا، في 18 من كانون الأول 2015، خارطة طريق لعملية الانتقال السياسي في سوريا، وذلك وفق آليات وتوقيت زمني محدد، الأمر الذي لم يُطبق حتى الآن.

ووسط غياب أي بوادر للحل في سوريا، والربط الدائم بينه وبين القرار الأممي، إذ تعتبره جميع الدول والجهات الأممية المعنية بالملف “مفتاح الحل في سوريا”، يُفتح باب التساؤلات على معوقات تطبيق القرار، ومسؤولية تأخير تنفيذه.

تحاول عنب بلدي في هذا الملف، استطلاع آراء خبراء ومختصين بمعوقات تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي “2254” حول سوريا، والمسؤول عن ذلك، وسط ظهور مسار “أستانة” الموازي للمسار الأممي للمفاوضات الدولية حول سوريا.

“2254”.. إجماع حبيس الورق

في 18 من كانون الأول عام 2015، صوّت وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة حينها، بان كي مون، والمبعوث الدولي إلى سوريا حينها، ستيفان دي مستورا، بالإجماع على مشروع قرار بشأن “عملية السلام في سوريا” حمل الرقم “2254”.

بُني هذا القرار على المبادئ التي نصت عليها وثيقة “جنيف 1” التي أعلن عنها البيان الختامي الصادر عن اجتماع “مجموعة العمل من أجل سوريا” في 30 من حزيران عام 2012، إذ نص على أنه “يجب على الأطراف أن تلتزم مجددًا بوقف دائم للعنف المسلح بكافة أشكاله (…) وتكثيف وتيرة الإفراج عن الأشخاص المحتجزين تعسفيًا وتوسيع نطاقه، بما يشمل على وجه الخصوص الفئات الضعيفة، والأشخاص الذين شاركوا في أنشطة سياسية سلمية”.

شمل القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية 16 مادة لم ينفذ أي منها حتى الآن، تضمنت أبرزها وقفًا دائمًا لإطلاق النار من خلال جهود الدول صاحبة التأثير على النظام السوري والمعارضة، ضمن خطة تنفيذ لعملية سلام وفق أسس سياسية تضم تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة في غضون ستة أشهر، وإجراء انتخابات خلال 18 شهرًا بعد أن تتم صياغة دستور جديد لا يستند إلى أسس طائفية تحت إشراف ومراقبة من الأمم المتحدة.

كما ضم القرار إجراءات بناء ثقة بين الأطراف المتنازعة، مثل فتح ممرات إنسانية، والسماح للمنظمات الإنسانية بالوصول السريع والآمن إلى جميع أنحاء سوريا، والإفراج عن المعتقلين بشكل تعسفي، وخاصة النساء والأطفال منهم.

وطالب القرار بتوقف جميع الأطراف عن تنفيذ أي هجمات ضد المدنيين والمرافق الحيوية والطبية وفرق العمل الإنساني، وعودة النازحين داخليًا إلى منازلهم، وإعادة تأهيل المناطق المتضررة، وتقديم المساعدة للدول المضيفة للاجئين.

وأوجب القرار تقديم تقرير سريع خلال شهر واحد من بدء تطبيق القرار من قبل الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول الالتزام بتنفيذ بنود القرار “2254”.

اجتماع اللجنة الدستورية في مقر الأمم المتحدة بجنيف – 31 من تشرين الاول 2019 (الأمم المتحدة)

النظام يتعنّت والدول “تساير”

منذ إعلان الموافقة على بدء تطبيق القرار، لاقى عدة انتقادات، منها غياب آليات الإلزام ضمن بنوده، المتعلقة بالعملية السياسية أو رصد وقف إطلاق النار والتحقق منه، ورغم هذه الانتقادات، لا تزال الدول والجهات المعنية بالملف السوري متمسكة بتطبيقه، باعتباره المرجعية المُتفق عليها وإطار العمل الناظم لعملية التفاوض الحالية.

الأكاديمي السوري- الكندي فيصل عباس محمد، الحاصل على دكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية من كندا، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن قرارات مجلس الأمن تأتي عادة نتيجة مفاوضات ومساومات بين الأعضاء الخمسة الدائمين، وفي كثير من الحالات تكمن الصعوبة الكبرى في تطبيق هذه القرارات، إما بسبب التفسير المختلف لها تبعًا لمصالح القوى والأطراف المعنية، وإما لأن الطرف المعني بالقرار يتمتع بالقدرة الذاتية أو بالدعم من قبل قوى عظمى أو وازنة، أو قد يكون حائزًا على الاثنين معًا.

وأضاف الدكتور فيصل محمد، أن الأمثلة التي تبرز في هذا السياق هي القرارات المتعلقة بكشمير وفلسطين والصحراء الغربية، فكشمير لا تزال منذ عام 1948 تنتظر الاستفتاء الموعود الذي تُعطّله الهند حتى اليوم، وفلسطين تنتظر إقامة الدولة الموعودة وحق تقرير المصير منذ عام 1948، وغيرها من القرارات المتعلقة بهذه القضية، والتي جعلت منها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون حبرًا على ورق، وغيرها من القرارات العالقة حتى الآن.

وحول القرار المتعلق بسوريا، يرى الدكتور فيصل محمد أن “2254” لم يدخل مرحلة التطبيق حتى الآن بسبب تعنّت النظام السوري ومراوغته مستقويًا بروسيا وإيران، اللتين تدركان أن الحل السياسي سيؤدي إلى زوال النظام، وهذا بدوره سيشكّل ضربة قوية لمصالحهما.

وبالإضافة إلى أسباب أخرى، فإن فشل البدء بتطبيق القرار “2254” يتعلق أيضًا بعدم جدية الموقف الأمريكي، بحسب الدكتور فيصل محمد، إذ انتقلت أهداف المسؤولين الأمريكيين من تغيير النظام السوري إلى تغيير سلوكه.

من جهته، قال المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي المعاصر في جامعة “السوربون” الفرنسية الدكتور برهان غليون، لعنب بلدي، إن النظام السوري لا يعتبر أن هناك مشكلة أساسًا في سوريا، موضحًا أن انخراطه في التفاوض يهدف إلى انتزاع “النصر” الذي حققه على المعارضين الذين يرى فيهم “متآمرين عليه بدعم من دول أجنبية”.

وحول استجابة النظام “الصورية” للقرار أمام المبعوث الأممي والدول المعنية، يرى غليون أن النظام يتظاهر بالاستجابة لكسب الوقت وإرضاء لتوجيه الروس، مفسرًا ذلك بأنه “لا أحد يقبل أن يتنازل للمتآمرين الذين هزمهم في الميدان وشتت شمل أسرهم وهجرهم”، الأمر الذي يوضح أنه في عالم آخر لا علاقة له بما يفكر فيه الآخرون حول المشكلة السياسية أو التسوية والتغيير.

تواصلت عنب بلدي مع المتحدثة باسم المكتب الصحفي للمبعوث الأممي إلى سوريا، جينيفر فانتون، عبر مراسلة إلكترونية، للحديث عن المعوقات التي واجهت تطبيق القرار “2254” من وجهة نظر أممية، دون أن تلقى إجابة عن هذه التساؤلات بالتحديد.

واكتفت فانتون بتأكيد ما تتضمنه البيانات الدورية الصادرة عن مكتب المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، حول ضرورة العمل على “التراجع عن التصعيد، واستعادة الهدوء النسبي على الأرض، وتجديد إطار العمل على الجبهة الإنسانية، واستئناف اجتماعات اللجنة الدستورية وجعلها أكثر موضوعية في جنيف وغيرها”.

تأييد جماعي على اختلاف المواقف

يحظى القرار الأممي “2254” بتأييد “علني” من قبل جميع الدول المؤثرة بالملف السوري، على اختلاف مواقفها من النظام، الأمر الذي يثير تساؤلات حول موقف الدول الموالية للنظام بتأييد قرار يعمل على إخراجه من السلطة.

تؤيد الدول المؤثرة بالملف السوري القرار رسميًا لأكثر من اعتبار، منها أن القرار يحظى بتأييد وإجماع دولي عمومًا، كما أن بعض الأطراف تُحجم عن الاعتراض عليه كي لا يحمّلها المجتمع الدولي مسؤولية تعطيله، كما هي الحال بالنسبة لروسيا وإيران.

الأكاديمي السوري- الكندي فيصل عباس محمد

لغة القرار تترك مجالًا لتأويل بعض جوانبه لمصلحة النظام، بحسب الأكاديمي فيصل محمد، فعلى سبيل المثال، ينص القرار على أن سوريا هي المعنية بتطبيقه دون تدخل خارجي، وهذا يفسره الروس بقولهم إن تطبيق القرار يجب أن يكون “بإشراف بشار الأسد”، وهذا التفسير يتجاهل حقيقة أن هذا النظام الذي يرأسه الأسد هو جوهر المشكلة أساسًا.

بينما فسر الدكتور برهان غليون ذلك، بأن الدول على اختلاف مواقفها تعلن وقوفها مع القرار “حتى لا يقال إنها لا تفعل شيئًا أمام كارثة إنسانية وبيئية وصفتها التقارير الدولية الإنسانية بأنها (الأكثر دموية والأعظم منذ الحرب العالمية الثانية)، لكنها تعرف جميعًا أنه قرار فارغ لن يقدم ولن يؤخر”.

رئيس المكتب القانوني في اللجنة العليا للمفاوضات لعامي 2016 و2017، وعضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014، حسام الحافظ، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن من الطبيعي أن يحظى القرار بقبول جميع الأطراف، بما فيها روسيا، على اعتبار أن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن قلّما تواجه رفضًا، فهي تأتي بعد تفاهمات واتفاقات، وتعديلات بين الدول، وتترك الباب مواربًا أمام حالة عدم حسم، والقرار “2254” مثال على ذلك.

ينص القرار على عملية سياسية جزئية، أي تحت مظلة الحكم الحالي (رئيس النظام السوري)، والعملية السياسية الدستورية تجري بإشرافه، ومخرجات العملية السياسية الدستورية تصب في آلية إنتاج المخرجات الدستورية وفق آليات النظام (مجلس الشعب).

وبحسب الحافظ، لا تقود هذه العملية لانتقال سياسي، لكنها قد تنتج إصلاحًا بعيد الأمد، لا انتقالًا سياسيًا ناجزًا، والنظام يسعى لتلخيص الانتقال السياسي في التعديلات الدستورية، سواء عبر دستور جديد أو الدستور الحالي، وهذا يختلف عن نظرة قوى الثورة والمعارضة والقوى الداعمة لها نظريًا.

(الدورة الثامنة من اجتماعات اللجنة الدستورية-5 من حزيران 2022(هيئة التفاوض السورية

على من تقع المسؤولية؟

في ظل اعتبار “2254” المرجعية الأساسية للحل في سوريا، دون البدء بتطبيقه حتى الآن، لم تعترف أي من الأطراف الفاعلة في الملف السوري بتجاهلها لمسؤولياتها ضمن هذا السياق.

ورغم إلزامية تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، ظلّ القرار معلّقًا دون أن تتضح للعلن الأطراف التي يجب أن تتحمل مسؤولية ذلك.

تهاون روسي- أمريكي

لم  يغب ذكر القرار “2254” منذ إصداره عن الحديث الأمريكي الذي يرى فيه خطوة أساسية لإنهاء النزاع في سوريا.

وشكّل الحديث عن سبل تطبيق القرار جزءًا من معظم نقاشات أمريكا حول مستقبل الملف السوري، دون وجود تحرك ملموس من قبلها.

ولا تختلف الحال من جهة روسيا التي اعتبرت القرار منذ صدوره “خطة أساسية في سوريا”، بينما استمرت بتعطيل المسار السياسي في سوريا.

الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي، قال لعنب بلدي، إنه رغم وجود اتفاق روسي- أمريكي على تطبيق القرار، لم يكن الجانب الأمريكي بمزاج جيد للتدخل العسكري في سوريا، ولم يعتبر سوريا موضوعًا استراتيجيًا، ما غيّب وجود موقف جدّي يفرض على روسيا تطبيق القرار خلال فترة زمنية محددة.

واقتصر الدور الأمريكي على “إعلان ضخم” للدفع بتطبيق القرار، دون تحرٍّ حقيقي على الأرض، وفق ما قاله بربندي.

وأضاف بربندي أن غياب الاهتمام الأمريكي بهذا الملف، أعطى روسيا مساحة للتدخل العسكري في سوريا والبدء بابتزاز الجانب الأمريكي لتغيير ترتيب القرار وفق تصوراتها.

وتحوّلت الخطوة الأولى من القرار من موقف عالي المستوى بتأسيس حكومة انتقالية، إلى تأسيس لجنة دستورية، ما اعتبره بربندي مؤشرًا على أن أمريكا لم تكن لديها رغبة بمواجهة روسيا، وأرادت لها أن تغرق في  “مستنقع سوريا”.

بدورها، انتهزت روسيا الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، وحاولت إيجاد بدائل للعملية السياسية المستندة إلى القرار “2254”.

المعارضة “عقبة” أمام القرار

تُظهر المعارضة السورية رغبتها بتطبيق القرار “2254” من خلال الأبواب المتاحة لها، كانخراطها بعمل “اللجنة الدستورية” التي لم تقدم جديدًا في المسار السياسي، رغم عملها منذ أربع سنوات.

وتعتبر المعارضة أحد أبرز الأطراف التي تتحمل مسؤولية ملف العمل السياسي في سوريا، إذ يرى الدبلوماسي السابق داني البعاج، أن صدور القرار “2254” خطوة للوراء، ومؤشر على فشل المعارضة بتطبيق بيان “جنيف” الأساسي، وبداية للنفوذ الروسي في سوريا.

وتتحمل المعارضة مسؤولية نقل تصوّر الحل في سوريا من جسم انتقالي إلى “حوكمة انتقالية” بعد القرار “2254”، وفق ما قاله البعاج لعنب بلدي، مشبهًا دورها في تطبيق القرار بـ”الضرب بالميت” في إشارة إلى أنه دون تأثير يُذكر.

ويتفق ذلك مع حديث الدبلوماسي السابق بسام بربندي، إذ قال إن المعارضة كانت وخلال مرحلة صدور القرار ضعيفة ومشتتة، ولا تمثّل الشعب السوري، معتبرًا ذلك أحد أبرز أسباب عدم تطبيق القرار.

وأضاف بربندي أن للمعارضة طموحًا “ولاديًا” يجعلها تمتثل لأوامر الدول “على أمل الحصول على حصة من الحكم في سوريا”، ما يجعلها عقبة في تنفيذ القرارات التي تخدم السوريين.

بينما قال رئيس “الائتلاف الوطني السوري” السابق، خالد خوجة، لعنب بلدي، إن المعارضة بتفككها وعدم انسجامها وخفة وزنها بالمعادلة السياسية لم تلعب دورًا حقيقيًا بالدفع تجاه تطبيق القرار.

الأمم المتحدة تدير الأزمة ولا تحلها

تعاقَب أربعة مبعوثين أمميين على إدارة الملف السوري منذ عام 2011، لكنهم لم ينجحوا بتطبيق الهدف الأساسي من تعيينهم، وهو التوصل إلى تسوية أو حل للنزاع في سوريا.

وبعد الوعود الكثيرة التي رددها المبعوث الأممي السابق، ستيفان دي ميستورا، وبعده المبعوث الأممي الحالي، غير بيدرسون، حول تطبيق القرار “2254”، اقتصر دورهما على توصيات عقب اجتماعات مع مختلف الأطراف الفاعلة بالملف السوري.

وفي تشرين الأول الماضي،  قال بيدرسون، إن “القرار (2254) لم ينجح حتى الآن”، بعد أشهر من استمرار تعطيل أعمال اللجنة الدستورية دون أن يستطع تقديم حلول لاستكمال عملها.

الدبلوماسي السابق بسام بربندي قال، إن الدول الكبرى تستخدم الأمم المتحدة كأداة أو واجهة لتختبئ وراءها في الأزمات التي لا يرغب المجتمع الدولي بحلها، أو لا يتوفر الظرف “الناضج” لحلها.

وأوضح بربندي أن ممثلي الأمم المتحدة في الأزمات ظهر دورهم على أنه إدارة للأزمة وليس حلًا لها.

وردًا على دور بيدرسون بتطبيق القرار “2254”، قالت المتحدثة باسم المكتب الصحفي للمبعوث الأممي إلى سوريا، جينيفر فانتون، عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، إن المبعوث الأممي يواصل استغلال أي فرصة للتشاور مع اللاعبين الرئيسين في الملف السوري لدعم تطبيق القرار، دون ذكر تفاصيل إضافية حول آلية ومحاور هذه التشاورات.

مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا غير بيدرسن يلتقي بالرؤساء المشاركين للجنة الدستورية السورية في جنيف-22 من تشرين الأول 2021(الأمم المتحدة)

مسار “أستانة” على “أطلال” جنيف

حمل القرار “2254” في عنوانه العريض حين إصداره عام 2015 “عملية السلام في سوريا”، ونص صراحة في أحد بنوده الـ16 على تنفيذ خطة سلام وفق أسس سياسية تضم تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة خلال ستة أشهر.

الأشهر التي حددها المجلس لم يُكتب لها النهاية، فالقرار بقي حبيس الأروقة الأممية وتصريحات مسؤولي الدول المعنية بالملف السوري، ولم يثبت حضوره على الأرض على مستوى البنود الأخرى أيضًا، كالوقف الدائم لإطلاق النار، في وقت كانت فيه سوريا مسرح عمليات عسكرية يشنها النظام، وعمليات حصار لإخضاع المدن والقرى والبلدات الثائرة.

أمام هذه المعطيات، برز مسار “أستانة”، الذي انطلقت أولى جولاته في كانون الثاني 2017، بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق نار بين النظام السوري والمعارضة في العاصمة التركية، أنقرة، في كانون الأول 2016، وبررت تركيا هذا الاتفاق حينها بالحاجة إلى توفير خروج آمن للمعارضة من المناطق المحاصرة.

ومنذ ذلك الوقت، تعاقبت جولات “أستانة” باستمرار تخلله توقف جزئي، قبل عقد الجولة الـ19 في 23 من تشرين الثاني الماضي، في العاصمة الكازاخية، نور سلطان.

المسار الذي جاء على “أطلال” القرار “2254” دون أن ينسفه رسميًا، ضيّق حلقة الحوار، واختزلها بممثلين عن الدول الضامنة للمسار (تركيا وروسيا وإيران)، ووفد للمعارضة وآخر للنظام، والمبعوث الأممي إلى سوريا، ووفود من الأردن والعراق ولبنان تشارك بصفة مراقب، وممثلين عن المنظمات الدولية.

الدكتور حسام الحافظ، رئيس المكتب القانوني في اللجنة العليا للمفاوضات لعامي 2016 و2017، وعضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014، أوضح أن مسار “أستانة” لم يظهر بناء على قرار أممي، لكنه في الوقت نفسه وليد توافق دولي جزئي، على اعتبار أنه يخص الدول الضامنة للملف، في سبيل التباحث بينها وبين دول أخرى فيما يتعلق بسوريا سياسيًا أو عسكريًا.

وأضاف الحافظ لعنب بلدي، أنه لا أدوار للنظام والمعارضة وفق هذا المسار والجولات التي تحمله، إلا عبر الوسطاء والضامنين، كما أن لكل دولة من الدول الضامنة تفسيرها الخاص لمسار “أستانة”، فالأمم المتحدة ترى القرارات من زاويتها، وموسكو تنظر إلى “أستانة” كمسار عسكري بالدرجة الأولى، ثم سياسي، خاصة بعدما دمجت وقف إطلاق النار بالتسويات ذات الشروط المختلفة، وكل الأمور الفنية ذات الصلة الصادرة عنها، من تحديد خطوط التماس وتسيير الدوريات المشتركة، ما يعكس رغبتها في استعمال “أستانة” كمسار حل سياسي بعيدًا عن جنيف.

وبالمقابل، فإن تركيا لا تحمل التوجه ذاته، إذ ترغب بدعم مسار “جنيف” الذي يشكّل خلاصة قراري الأمم المتحدة “2118” و”2254″، لكنها استجابت أيضًا للضغط الروسي حين سبّب المسار العسكري تهجير المدنيين من حلب، واستعادة النظام في كانون الأول 2016 ما فقده من المدينة.

وبحسب الحافظ، فالإيرانيون أيضًا لم يبدوا رغبة بخلط مسار “أستانة” بالعملية السياسية، فهم ليسوا جزءًا من المجموعة الدولية التي أنتجت القرارات ضمن مسار “جنيف”، كما أنهم ليسوا مشاركين في المفاوضات التي سبقت “أستانة” و”جنيف”، وجرت عام 2014، لكن أنقرة وموسكو أرادتا أن تكون طهران موجودة بقوة في مسار “أستانة” كونها موجودة على الأرض، وداعمًا أساسيًا للنظام.

لا يمكن التخلي عن مسار “جنيف” لمصلحة مسار “أستانة”، لأن ذلك يتعارض مع مصلحة الثورة والمعارضة، فما يعطي الأمل بالحل السياسي هو مسار “جنيف” لا “أستانة”، الذي لا تملك فيه المعارضة أي أدوات، حتى العسكرية التي يفترض أن تشكّل أساس المسار.

عضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014 حسام الحافظ

وتتشابه إلى حد بعيد بنود البيانات الختامية التي تصدر عن أطراف مسار “أستانة”، وتتراوح بين التأكيد على سيادة سوريا ومكافحة الإرهاب، وعلى الحل السلمي للصراع في سوريا، وعلى عودة “طوعية” للاجئين السوريين، والقلق من الحالة الإنسانية المتردية على اختلاف مناطق السيطرة.

رئيس “هيئة التفاوض السورية” أنس العبدة، خلال لقائه مع المبعوث الأممي غير بيدرسون لبحث سبل تفعيل القرار “2254”-2 من آذار 2021(الائتلاف السوري)

القرار المعطل.. إلى أين؟

دون أي بوادر تلوح في الأفق، وبعد مرور سبع سنوات على إصدار القرار “2254” وعدم تقديمه أي جديد في الملف السوري، تُثار التساؤلات حول مستقبله باعتباره لا يزال يُصدّر على أنه “مفتاح الحل الوحيد لإنهاء الصراع في سوريا”.

الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج قال لعنب بلدي، إن هذا ليس أول قرار يصدر عن مجلس الأمن ويستغرق وقتًا طويلًا لتطبيقه بسبب وجوده تحت الفصل السادس، ما يعني عدم وجود أدوات تُجبر المجتمع الدولي على تطبيقه.

بينما يرى رئيس “الائتلاف الوطني السوري” السابق، خالد خوجة، أن القرار أصبح يخدم الأجندات الإقليمية والدولية أكثر مما يخدم المعارضة والشعب السوري.

وأوضح خوجة أن النظام، الذي يحظى بدعم روسي قادر على أن يُفقد القرار فعاليته، يمتنع منذ صدور القرار عن التعاون مع أي مسارات لتطبيقه.

بينما قال الدبلوماسي السابق بسام بربندي، إن مستقبل القرار أن يبقى خارطة الحل في سوريا، لافتًا إلى أن ذلك لا يعني بالضرورة تنفيذه في وقت قريب.

ويرى الأكاديمي فيصل عباس أنه رغم الثغرات التي ينطوي عليها القرار “2254”، ما زال قادرًا على وضع سوريا على بداية الحل السياسي، لافتًا إلى أن ذلك يتطلب تراجع الدعم الروسي- الإيراني للنظام السوري.

“2254” خيار أفضل وليس الحل

توجد نظريتان بشأن مصير القرار “2254”، إحداهما تعتبره من الماضي وكل ما يجري حاليًا يتذرع به لكنه خارج إطاره، والثانية ترى أن القرار لم يكن مأمولًا تحققه إلا بالتوافق السياسي الذي أنتجه التوافق الروسي- الأمريكي في لحظة تاريخية مضت، وبالتالي فالقرار فقد كل مقومات الضغط اليوم، سواء سياسية أو قانونية، ما ينفي أن يكون عربة تحوّل حقيقية في الملف السوري.

ويتطلّب ذلك إما قرارًا جديدًا من مجلس الأمن، وهو مستبعد جدًا، وإما خلق تغيرات في المشهد السياسي الداخلي والخارجي تؤدي إلى عملية سياسية بطرق جديدة، بحسب ما أوضحه عضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014 حسام الحافظ.

واستبعد الدكتور الحافظ أن يشكّل “2254” حلًا للملف السوري، حتى لو جرى تطبيقه كاملًا، مبينًا أن تطبيق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن مكسب للشعب السوري الذي ينشد التحول السياسي، وهذه القرارات (منها 2254) تحوي شيئًا من هذه المطالب، لكن عدم وجود إرادة دولية وآليات تطبيق واضحة وضعها على الرف.

ويتطلب الحل، برأي الحافظ، إنشاء حالة وطنية قادرة على التغيير (من النظام والمعارضة)، سواء تحت مظلة أممية، أو مظلة تسويات سياسية أوسع، لكن المعارضة هنا غير قادرة على تحويل الدفة بهذا الاتجاه لضعف هياكل قوى الثورة والمعارضة سياسيًا.

الدورة الثامنة من اجتماعات اللجنة الدستورية-5 من حزيران 2022 (هيئة التفاوض السورية

“كروت التأثير” ليست بيد السوريين

الدبلوماسي السابق داني البعاج قال، إن القرار لم يعد سوريًا بعد أن خسرت المعارضة قدرتها على التأثير، واقتصر دورها على “التبعية” للأطراف الأخرى.

من جهة أخرى، خسر النظام جزءًا من قدرته على التأثير، رغم قدرته على المناورة بين حليفين جراء الظروف التي تعيشها إيران وروسيا، وفق ما قاله الدبلوماسي داني البعاج.

“كروت التأثير” على المسار السوري خرجت من أيدي السوريين، لم تعد المعارضة ولا النظام قادرين على التأثير في هذا الملف.

الدبلوماسي السابق داني البعاج

 

وأضاف البعاج أن الملف السوري بانتظار اتفاق دولي، وفي ظل غرق روسيا بأوكرانيا في الوقت الراهن، ليس من مصلحة الدول الغربية أن تحرك الملف.

ويرى أن الحلول من اللاعبين الأساسيين الإقليميين أو الدوليين مستبعد، معتبرًا أن الوقت الحالي بالنسبة للسوريين يقتصر على مراقبة وانتظار نتائج الحراك الشعبي في إيران، والحرب الروسية- الأوكرانية.

ويمكن أن ينعكس ذلك على الملف السوري، خصوصًا في ظل وجود النظام السوري بأزمة اقتصادية خانقة لن يستطيع تجاوزها دون إنقاذ أبرز حليفيه.

ويمكن أن يجبر النظام جرّاء ضعفه وانهياره المالي على تغيير سياسته بالتعاطي مع القرارات الدولية الذي يبدو باهظ الثمن بالنسبة له ولداعميه، وفق ما قاله الأكاديمي فيصل عباس محمد.

وتوقع الأكاديمي أن يشهد الملف السوري في عام 2023 مفاجآت في هذا السياق، جراء المتاعب التي تعانيها روسيا في المستنقع الأوكراني، بالإضافة إلى الأزمة السياسية- الاقتصادية التي تواجهها إيران.

في المقابل، قال الدكتور في جامعة “السوربون” الفرنسية، والرئيس السابق لـ”المجلس الوطني السوري”، برهان غليون، لعنب بلدي، إن الباب الوحيد هو عدم انتظار الحل من الخارج بشكل عام.

ويرى غليون أن لا مصلحة لأي من القوى المنخرطة في الصراع السوري الدولية والإقليمية والمحلية بالتوصل إلى حل، لافتًا إلى أن الحل إن لم يأتِ من الداخل فلن يأتي أبدًا.

“دم جديد”.. مقترحات لخطوات سورية

الدبلوماسي السابق بسام بربندي قال، إن الحل من الجانب السوري بأن يجري “الائتلاف” انتخابات حقيقية شفافة بعيدًا عن القوانين الداخلية “غير المجدية”.

وتحتاج المعارضة إلى “دم جديد” لتكون جزءًا من الحل عوضًا عن كونها جزءًا من المشكلة طوال السنوات الماضية، وفق ما يراه بربندي.

كما يرى داني البعاج أن التحرك يمكن أن يكون من خارج المعارضة باتجاه تفعيل الدور المعارض من خلال الدفع لتغيير تركيبة “الائتلاف”، وتوسيع مفهوم القوى السياسية لتنخرط بالمفاوضات.

كما يمكن أن يلعب المجتمع المدني دورًا مهمًا بتقديم حلول إلى جانب القوى السياسية التي لا تمارَس عليها ضغوطات خارجية، وفق ما قاله البعاج.

مقالات متعلقة

تحقيقات

المزيد من تحقيقات