عنب بلدي – حسام المحمود
تعتبر السجائر إحدى السلع الشائعة الاستخدام في سوريا، والتي تأثرت إلى حد بعيد كمختلف السلع الأخرى بمتغيرات الأسعار وظروف الاستيراد خلال الثورة السورية، منذ عام 2011، ما وضع المدخنين أمام واقع جديد غيّب بعض أنواعها، وقفز بأسعار بعضها الآخر.
الارتفاع الهستيري في الأسعار دون ملاءمتها معاشات المواطنين (خاصة الموظفين منهم) والقدرة الشرائية للمستهلكين، تطلّب حلول بدائل في السوق، لتلبية الطلب وفق السعر القديم أو ما هو قريب منه على الأقل، ويوازيه في مستوى الجودة.
ومع ارتفاع أسعار الأصناف الرائجة في بداية الثورة، ظهرت أصناف جديدة بأسعار قريبة منها، لكن انخفاض قيمة العملة المحلية القياسي دون تحسن مستوى الدخل أو حتى محافظته على قيمته، رفع أسعار مختلف الأصناف بصورة استبعدت من السوق وجود صنف “رخيص الثمن”.
وبالنظر إلى عالم السجائر المحلي، فالأسعار لا تختلف باختلاف النوع فقط، بل وباختلاف الطول، على خلاف ما هو رائج في بلدان أخرى، كتركيا مثلًا، حيث يتساوى سعر علبة السجائر (الطويلة والقصيرة) من النوع الواحد.
“أبو عامر”، موظف في مناطق سيطرة النظام، ورب أسرة من أربعة أفراد، أوضح لعنب بلدي أن تحديده للنوع الذي يدخنه يتوقف على سعره، فالرجل يستهلك علبة سجائر يوميًا، أو ما يُعرف باسم “باكيت” (20 سيجارة).
“أبحث عن النوع الأرخص في كل مرة حين ترتفع الأسعار، وأحاول الاقتصاد في التدخين، بسبب السعر فقط”، أضاف “أبو عامر”.
كما يشاء الدولار
يتقاضى الرجل معاشًا شهريًا يبلغ نحو 128 ألف ليرة سورية (نحو 21 دولارًا أمريكيًا على اعتبار أن الدولار الأمريكي يتخطى ستة آلاف ليرة سورية)، ما يدفعه للاعتماد في مصروف عائلته من مأوى ومأكل وملبس على حوالات مالية من أفراد العائلة المقيمين في دول أخرى.
أسعار السجائر تتفاوت بين الأنواع الوطنية الإنتاج والأجنبية منها، فهناك “حمراء طويلة جديدة وقديمة”، يصل سعر العلبة منها إلى 2200 ليرة سورية، وتوجد سجائر “سيدرس” وهي نوعية لم تكن رائجة في سوريا قبل الثورة، لكنها متوفرة بالأصل في لبنان، ويتراوح سعر العلبة منها (حتى إعداد المادة) بين 3500 و4000 ليرة حسب نوعها قصيرة كانت أم طويلة، مع وجود أنواع أخرى مألوفة لدى طائفة المدخنين، مثل “جلواز”، و”يونايتد”، وهي نوعيات غير مستساغة لجمهور عريض من المدخنين.
كما توجد أنواع أخرى شيوعها في سوريا مقرون بالحالة الاقتصادية منذ بداية الثورة، مثل “ماستر، وإيليغانس”، بالإضافة إلى أنواع ظهرت في وقت متأخر عن سابقتها مثل “ميكادو”، و”اختمار”، و”أوسكار”، و”كوين”، وسعر العلبة منه (حتى إعداد المادة) نحو خمسة آلاف ليرة، ما يخلق ثلاثة أجيال من السجائر على مستوى النوعيات وحضورها في الأسواق، بالنظر إلى النوعيات القديمة أو الأصيلة من السجائر الأجنبية المنشأ، مثل “كينت”، و”وينستون”، و”مالبورو”، وتتراوح أسعار أنواعها على مستوى الطول واللون بين 8000 و20000 ليرة تقريبًا.
هذه المعطيات أيضًا استبعدت بعض الأصناف من السوق، مثل “فايسروي”، و”ماستر فضي قصير”، تحت ذريعة أن الصنف “مقطوع”.
لا ثبات في الأسعار، ولا ضوابط تحددها أو قرارات للإعلان عن الارتفاعات المتكررة، فالأمر متروك للتجار، وصولًا إلى الباعة، والسبب المعلَن هو ارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار، ما يعني ارتفاع سعر علبة السجائر بين 200 و300 ليرة سورية تحت هذه الذريعة.
بدائل؟
هادية، سيدة سورية أقلعت عن التدخين قبل نحو عام، لصعوبة مجاراة الأسعار، واتجهت نحو “النرجيلة”، معتبرة استهلاكها الشخصي أقل من تكلفة السجائر، كونها تشتري علبتي “معسّل” بعشرة آلاف، بعدما كان سعر العلبة الشهر الماضي 3500، وتحتاج علبة فحم بخمسة آلاف ليرة أيضًا، وتستخدمهما على مدار أسبوع تقريبًا.
وبيّنت السيدة لعنب بلدي، أن هذه المصاريف لا يمكن تأمينها بمدخول العائلة، ودون الاستعانة بمساعدة بعض المقربين وحوالاتهم المالية.
من جانبه، “أبو عامر” اعتبر “التتن” (اسم يُطلق على نوعيات من التبغ تُباغ بالوزن) خيارًا غير محمود العواقب دائمًا، فسعر الكيلو يتراوح بين 50 ألفًا و60 ألف ليرة، ولا يمكن ضمان جودة النوعية، فالحصول على كمية جيدة لا يعني الحصول على مثيلها بعد استهلاكها.
الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي، ربط فكرة وجود بدائل يلجأ لها المستهلك بانخفاض جودة هذه البدائل، طالما أن المواطن يبحث وفق قدرته عن السعر المنخفض لا عن المنتج الجيد.
وأوضح قضيماتي لعنب بلدي، أن بعض المنتجات اختفت من السوق دون إحلال بدائل مكانها، لعدم وجود قدرة شرائية ملائمة لدى المواطن، ما دفعه للاستغناء عن المنتج دون اللجوء لبديل.
وبالنسبة لدخل المواطن فهو منخفض أصلًا، لكن حلول النظام الإسعافية تراجعت، والدعم الإغاثي يتراجع، وحتى الدعم الإيراني والروسي للنظام يتراجع أيضًا، ما يترك المواطن بلا حلول في وقت وصل فيه النظام إلى “عنق الزجاجة”، وأي انفراج اقتصادي اليوم يبدو أنه مرهون بتسوية سياسية، وفق قضيماتي.
وتحصي منظمة الصحة العالمية وجود ما يقدّر بـ1.3 مليار شخص يستخدمون منتجات التبغ حول العالم، 80% منهم في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
كما يسهم التبغ في الفقر عبر تحويل إنفاق الأسرة من الاحتياجات الأساسية، كالغذاء والمأوى، إلى التبغ، مشيرة في الوقت نفسه إلى صعوبة كبح سلوك الإنفاق كون التبغ يسبب الإدمان، كما يسبب الوفاة المبكرة والعجز لدى البالغين في سن الإنتاج بالنسبة للأسرة، ما يسبب انخفاض دخل الأسرة وزيادة تكاليف الرعاية الصحية، وفق المنظمة.
بحر أزمات
لم يعد الحديث عن 90% من السوريين تحت خط الفقر وفق إحصائيات الأمم المتحدة محل استغراب، فالنسبة عمرها سنوات، لكن ما يترتب عليها من تأثيرات آخذ بالتصاعد، فوفق بيانات برنامج الغذاء العالمي، الصادرة في آذار الماضي، أبلغت 52% من العائلات التي شملها استطلاع المنظمة، عن استهلاك غذائي ضعيف أو محدود في شباط الماضي، أي ضعف النسبة بداية عام 2019.
هذه الأرقام تؤكدها أيضًا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مشيرة في تقرير صدر عام 2021 إلى عجز ثلاثة أرباع الأسر في سوريا عن تلبية احتياجاتها، بزيادة 10% على العام السابق.
متوسط دخل الفرد في سوريا أيضًا إلى تراجع، وبحسب تقديرات المكتب المركزي للإحصاء، التابع للنظام، بلغ متوسط دخل الفرد عام 2010 نحو 200 دولار، وانخفض في 2017 إلى 70 دولارًا، ثم 30 دولارًا في 2021، وهناك من يتقاضى دون ذلك في 2022.
ولا يمكن لمِنح حكومة النظام من وقت لآخر، التي لا تتعدى 20 و30 دولارًا أو أقل، لمرة واحدة، ترميم المشهد الاقتصادي للعائلة السورية، كما أن قرار حكومة النظام الصادر في 13 من كانون الأول الحالي، والذي نص على منح العاملين في الدولة والمتقاعدين قرضًا بقيمة 400 ألف ليرة سورية (أقل من 70 دولارًا) دون فوائد، يجري تسديده خلال عام، يعكس بوضوح فداحة الحالة الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها السوريون في مناطق السيطرة تلك.
وسجلت الموازنة العام للدولة في 2023 عجزًا بقيمة أربعة آلاف و860 مليار ليرة، بزيادة نحو 19.65% على عجز 2021، حين كانت تبلغ الموازنة أربعة آلاف و118 مليار ليرة سورية، كما طفت على السطح مؤخرًا أزمة محروقات حادة عطّلت عمل بعض المؤسسات المدنية جزئيًا، قوبلت بقرارات حكومية متعددة لـ”ترشيد استهلاك المتاح”، بالتزامن مع رفع أسعار المحروقات.