روايات شبان سوريين: قلق “الكملك” يطاردنا في تركيا
عنب بلدي – ضياء عاصي
منذ بدء التغريبة السورية عقب حراك الثورة الشعبي عام 2011، كان للاجئين السوريين في تركيا من بين دول اللجوء الأخرى النصيب الأقل بمواجهة البيروقراطية الحكومية في معاملات الأوراق الرسمية.
ومع ازدياد القيود المفروضة على حاملي بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك) من السوريين في تركيا بالسنوات الأخيرة، سعى العديد من الشبان إلى الهجرة إلى أوروبا خلال العام الحالي في موجة مشابهة لهجرة 2015.
ولا يزال القسم الأكبر من حملة “الكملك” الذين لم يستطيعوا اللجوء إلى دول أخرى، إما لالتزامات عائلية وإما لأسباب مادية، يواجهون أزمات متعلقة بقيود تلك الوثيقة، تؤثر على سير حياتهم، دون وجود حلول جدّية من قبل السلطات التركية.
سجن بلا حدود
بدأت معاناة “الكملك” مع علاء الدين العبيد (27 عامًا)، عندما دخل إلى تركيا بطريقة غير شرعية في 2016، إذ لم تكن سوى ولايات قليلة تقبل تسجيل السوريين فيها.
ذهب علاء إلى مدينة غازي عينتاب جنوبي تركيا، حيث يقيم أخوه، لكن لم تكن الولاية تمنح “الكملك”، فتوجه إلى العاصمة أنقرة واستخرج البطاقة.
بعد فترة وجيزة، حصل الشاب على قبول جامعي في مدينة نيدا جنوب شرقي البلاد، لكنه لم ينقل قيده إلى الولاية حتى بداية 2018، لتكون اللحظة التي ستغير مجرى حياته لاحقًا.
في أيلول من العام ذاته، استدعت إدارة الهجرة في الولاية علاء لتقديم أوراقه للحصول على الجنسية التركية الاستثنائية، التي انتظر في مراحلها أكثر من عامين، ليُصدم بعد هذا الانتظار الذي دام قرابة العامين بإزالة ملفه.
ست سنوات قضاها علاء في حدود “الكملك” الضيقة، وعند تخرجه في الجامعة عام 2021، وجد نفسه تائهًا بين أن يستمر على “الكملك”، آخذًا بعين الاعتبار كل المشكلات التي ستقيّد تحركاته، وبين أن يكمل دراسته العليا للحفاظ على بطاقة الطالب التي تمنحه بعض التسهيلات.
قرر علاء إكمال دراسته في المدنية نفسها، وكان يحق له أن يصبح معيدًا في الجامعة، بحكم نيله المركز الأول على دفعته في كلية الهندسة، لكنه خسر هذه الفرصة لحمله “الكملك”، ولم يكن يتخيل أن يصل إلى هذه الحال، بحسب تعبيره.
في حديثه إلى عنب بلدي، قال علاء، “خسرت عدة فرص، منها منح دراسية في الخارج لأجل (الكملك)، خسرت عقد عمل في قطر لأجل (الكملك)، إلى جانب العديد من فرص العمل في تركيا أيضًا”.
يملك علاء وفرة من الوقت خلال دراسته برنامج الدكتوراه حاليًا، لكنه لا يستطيع العمل، لقلة الفرص في المدينة، ولعدم رغبة أرباب العمل بدفع تأمين صحي أعلى للسوريين الحاصلين على لقب مهندس.
وليس أمام الشاب إلا الأمل بأن يُعاد له ملف الجنسية المُزال، خلال ثلاث سنوات متبقية لإتمام دراسته، لتأخذ حياته وضعها الطبيعي المفترض.
يعتبر علاء نفسه خامة علمية، فهو لم يدرس فرعين بالوقت ذاته في نيدا فقط (هندسة معادن وهندسة إنشاءات)، بل درس ثلاث سنوات هندسة طاقة ميكانيكية في سوريا أيضًا، لكن العشوائية في عملية التجنيس لم تعطِ السوريين حقهم، بحسب قوله.
يشبّه علاء العيش بـ”الكملك” بسجن مفتوح، وهو ما يضغط عليه، إذ دفعه الشعور بالتقييد المستمر لمحاولة اللجوء إلى أوروبا بطريقة غير شرعية، رغم خطورة الرحلة.
وقال، “أن أعرّض حياتي للخطر، أفضل من أن أبقى على (الكملك)، دون حياة فعلية كبقية البشر، إذ أصبح لدي شعور بأني زائد على هذا الكوكب”.
وأضاف، “المرحلة التي وصلت إليها، جمّلت الموت عندي في طريق الهجرة في سبيل التخلص من حالة الرعب التي سببتها لي (الكملك)”.
وتابع علاء، “إذا استمعت إلى شخصين يتحدثان بشأن (الكملك)، أغيّر مكاني لتفادي الشعور باليأس، فـ(الكملك) عبارة عن يأس نافذ، يسلب الحياة”.
درس من التاريخ
مرت عشر سنوات منذ أن دخل إسماعيل (28 عامًا) إلى مخيمات اللجوء مع عائلته في تركيا عام 2012.
ومع قبوله في المنحة التركية “YTB”، خرج إسماعيل، الذي طلب عدم ذكر اسمه الكامل لمخاوف أمنية، من المخيم إلى الجامعة في 2014، وعندها استخرج “الكملك”، وكان الأمر مرنًا حتى بداية 2017، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
عقب ذلك، بدأت الأمور تسوء شيئًا فشيئًا بفرض قيود جديدة على “الكملك”، من بينها البصمة الأسبوعية لإثبات وجود السوريين في الولاية.
لم يتمكن إسماعيل من استيعاب هذا الأمر الذي اعتبره مجحفًا، ولا يُطبق إلا على الأشخاص الذين يصدر بحقهم حكم السجن مع وقف التنفيذ، بحسب قوله.
إلى جانب الخلل في آلية الترشيح للجنسية التركية، شعر الشاب بالنقص غير المبرر، إذ لم يُستدعَ لتقديم أوراقه، بينما أقرانه من دفعته حصلوا على الجنسية بوقت قياسي خلال ستة أشهر في 2016.
استمر ذلك الشعور قرابة ثلاثة أعوام، حتى رُشّح اسمه في 2019، وعاش على أمل الحصول على الجنسية، منتظرًا اليوم الذي سيتخلص فيه من قيود “الكملك”.
بعد قرابة عامين، فوجئ إسماعيل، الذي تخرّج بتخصص هندسة “الميكاترونيك”، بإزالة ملفه الخاص بالجنسية، دون توضيح الأسباب، في حين كانت الجنسية لا تزال تُعطى لأشخاص أميين، بحسب تعبيره.
وقال إسماعيل، “عقب ذلك، شعرت بأن الدنيا تبددت أمامي، وضاعت كل الفرص من العمل إلى السفر داخل وخارج تركيا، لكن الأمل بالله لا يزال موجودًا”.
كل أمور الحياة مرتبطة بـ”الكملك”، حتى على الصعيد الاجتماعي، بحسب إسماعيل، مشيرًا إلى أن أحدًا لا يعطي ابنته لحامل “الكملك” أيضًا.
تساءل الشاب عن الحل في هذه المتاهة المغلقة، التي تسببت بالكثير من الأزمات النفسية له على مدار السنوات الماضية.
وقال، “حملت خطيئة العيش بجنسيتي السورية، لكن لن أُحمّل هذا الذنب لأولادي، متمثلًا ببيت الشاعر أبي العلاء المعري، الذي قال: هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحد”، بحسب تعبيره.
عام من الخوف
“الكملك” أيضًا كان هاجس قصة خالد محمد (23 عامًا)، الذي قدم إلى تركيا بطريقة غير شرعية منذ أكثر من عام، بغرض العبور إلى أوروبا.
في أثناء تجوله بمنطقة أكسراي بمدينة اسطنبول، قبضت الشرطة على خالد وأرسلته إلى مدينة أضنة للتبصيم على “الكملك”، ومن هناك بصم الشاب وعاد إلى اسطنبول دون أن يكمل أوراقه ويستخرج الوثيقة.
عبر خالد إلى اليونان 11 مرة، وفي كل مرة كان حرس الحدود اليوناني يعيده إلى تركيا، ومنذ حزيران الماضي، بدأ الجانب التركي بالتضييق على رحلات الهجرة أيضًا، ما اضطر الشاب لاستخراج “الكملك” كي لا يتعرض للترحيل بحال قُبض عليه في طريق العودة.
عدم وجود “الكملك” لأكثر من عام خلق حالة مركبة من الخوف المزعج عند خالد، حتى إنه كان يتحاشى الذهاب إلى دكان خارج حارته في حي الفاتح بمدينة اسطنبول، حذرًا من الترحيل، بحسب قوله.
في تشرين الأول الماضي، قدم أقرباء خالد من أوروبا، وكان يخرج معهم لمدة أسبوع كامل، إلا أنه لم يكن حاضرًا ذهنيًا معهم، وكان يجلس مراقبًا المكان من حوله متحسبًا لمصادفة الشرطة في أي لحظة.
وإلى هذا اليوم لا يزال الخوف الذي حطم نفسية خالد مستمرًا، ما أثّر على حياته الاجتماعية أيضًا، فهو يلازم المنزل منتظرًا المجهول، وفق ما قاله لعنب بلدي.
في تشرين الثاني الماضي، استطاع خالد استخراج “الكملك” من مدينة مرسين، إلا أنه لا يزال يقيم في اسطنبول دون إذن سفر، ما يسبب له قلقًا مستمرًا في تنقلاته.
يأمل خالد الذي لم يعش هذا الخوف في سوريا، على حد قوله، ألا تعود “عقدة الكملك” بحال إبطالها لكونه مخالفًا.
أبعاد “الكملك”
قابلت عنب بلدي العديد من الشبان الذين يتشاركون معاناة “الكملك” بطرق مختلفة، ومنهم الشاب يوسف بكور (27 عامًا)، الذي يعيش في تركيا منذ أكثر من تسع سنوات، منها أربع مغترب عن أهله المقيمين في مدينة هاتاي جنوبي البلاد.
يوسف الذي يعمل باسطنبول ويحمل كملك مدينة هاتاي، أصبحت رؤية عناصر الشرطة همّه الأول، إذ توعده أحدهم بترحيله إلى سوريا وليس إلى هاتاي، بحال مصادفته مرة أخرى دون إذن سفر، قبل أربع سنوات.
يوسف اعتبر ما قاله الشرطي تهديدًا لاستقراره، فأرسل عائلته إلى هاتاي لضمان أمنهم، وبقي هو يعمل في اسطنبول ليعولهم، لكن أزمة “الكملك” صعّبت عليه إيجاد عمل جيد، لقلة المشغلين لشخص مخالف، وفق ما قاله.
من الأمور المتعلقة بـ”الكملك”، والتي يعدّها الشاب علامة فارقة في حياته، لحظة تعرضه لحادث سير على دراجة نارية في منطقة يني كابي باسطنبول.
ورغم فقدانه الوعي وإصابته برضوض وجروح عدة، شرع يوسف بالهروب عنده استرداده وعيه إلى مكان يتوارى فيه عن الأنظار، مستحضرًا وضعه غير القانوني في المدينة.
وفي حين كان بأمس الحاجة للإسعافات الأولية ولخياطة جرح فوق جبينه، طلب من الناس حوله ألا يطلبوا الإسعاف، كي لا تتحول هذه الحادثة إلى مصيبة أكبر تنتهي بالترحيل وخسارته لعمله، بحسب تعبيره.
وصل عدد السوريين الذين حصلوا على الجنسية التركية إلى 211 ألفًا، بحسب ما أعلنه وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، في 18 من آب الماضي.
وبلغ عدد السوريين في تركيا المسجلين ضمن “الحماية المؤقتة” ثلاثة ملايين و570 ألفًا و234 لاجئًا سوريًا، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن الرئاسة العامة لإدارة الهجرة التركية، في 1 من كانون الأول الحالي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :