إبراهيم العلوش
انفجار الوضع في الشمال السوري ينذر بالمزيد من الاضطراب والضحايا، فالغضب التركي من عملية اسطنبول كان كبيرًا، وهي العملية التي اُتهم بها عناصر “PKK” الناشطون في سوريا، وتحوّل ذلك الغضب إلى موت متبادل واجتياحات على وشك الحدوث!
لا تسكت المدفعية التركية ولا تكفّ الطائرات عن التحليق، والقصف المتبادل مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لا يهدأ، خصوصًا أن هذه القوات متهمة بالتحالف مع حزب “العمال الكردستاني” التركي (PKK)، حيث حلّت صور عبد الله أوجلان محل صور بشار الأسد في مناطق سيطرة هذه القوات، متجاهلة الأحزاب الكردية، ومستخفة بحلم السوريين في التحرر من نظام الأسد الذي تربطها به علاقات متعددة.
هذا الشتاء البارد يمرّ على سكان الشمال السوري وسط الخوف والترقب من الأجندات السياسية والعسكرية للدول والتنظيمات التي استولت على قرار السوريين وتقرير مصيرهم، فالداخل السوري تسيطر عليه الإرادتان الروسية والإيرانية، والجزيرة السورية استولت “قسد” على معظم حواضرها، مثل منبج والرقة وأجزاء من دير الزور، بما فيها مناطق إنتاج البترول التي تموّل قوات “قسد” وبحماية أمريكية!
“قسد” تحتج لدى حلفائها الأمريكيين وأصدقائها الروس، وتتذرع بحماية معسكرات الاعتقال الهائلة لبقايا قوات “داعش” وأهاليهم في “الهول” والحسكة، وهذه المعسكرات صارت مكانًا للموت البطيء لأطفال لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا أبناء لمقاتلي ومقاتلات “داعش”، وهذا ما يثير احتجاجات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان التي تطالب بإعادة هؤلاء الأطفال إلى بلدانهم الأصلية، ومحاكمة من تورط من أهاليهم هناك بالعنف أو بالإرهاب!
لكن الأمريكيين يوازنون بين تحالفهم مع “قسد” ومع تركيا، ويحاولون إيجاد التسويات الملائمة لمصلحتهم، وكذلك يفعل الروس بعدما صارت تركيا متنفسهم الوحيد إلى العالم الخارجي، بسبب الحرب التي يخوضها نظام بوتين ضد الشعب الأوكراني!
مهما كانت الموازنات ونتائجها فإن المواطن السوري هو الخاسر، فعرب وكرد الشمال السوري يريدون أن يعيشوا ويرمموا ما ألحقه بهم نظام الأسد و”داعش” من أخطار، ولا تهمهم الأجندات السياسية والصراعات المزمنة في تركيا، التي لم تجد لها حلًا سلميًا طوال المئة سنة السابقة، وربما لن تجد ذلك الحل خلال المئة سنة المقبلة، إذا ظل نهج الانتقام المتبادل بين الأطراف المتصارعة مستمرًا!
تركيا تطالب “قسد” بالتخلي عن منبج وعين العرب (كوباني) ليكتمل الشريط الحدودي الذي تخطط لجعله أشبه بجنوبي لبنان في سوريا، أو أشبه بقطاع غزة في فلسطين، إذ ستستمر بالهيمنة على تلك المناطق عبر التحكم باقتصادها وحياتها، وفرض حكامها الذين يستمدون شرعيتهم من تركيا وليس من الشعب السوري، ولعل “هيئة تحرير الشام” المدعومة من تركيا لا تختلف في شيء عن حركة “حماس” المتحالفة مع إيران، وقوات “الجيش الوطني” تحولت إلى ميليشيا غير مقبولة بسبب تجاوزاتها غير المعقولة ضد اللاجئين السوريين وضد الكرد، فقادتها يسلكون سلوكًا انكشاريًا بعد أن تمت إزالة الضباط المحترفين من قيادة تلك القوات.
ولكن السؤال الذي يجب أن يجيب عنه قادة “قسد”، هو ماذا تفعلون في منبج والرقة ودير الزور، ولماذا تخسرون رصيدكم الذي كسبتموه من عدالة القضية الكردية، ومن ضرورة وضع حل إنساني وسياسي لها؟
وهل يحق للعرب في الجزيرة السورية أن يتساءلوا هل سيكون حل القضية الكردية في تركيا على حساب مدنهم وقراهم التي تحكمها “قسد” كبدائل للمدن التي كان يسيطر عليها “PKK” في تركيا، وقد تتحول لاحقًا إلى شبيه لجبال قنديل؟ ولا سيما أن “قسد” ترفع فيها صور عبد الله أوجلان، وتسيّر فيها المظاهرات والاحتجاجات المطالبة بحريته الجسدية، في حين أن هؤلاء المحتجين لديهم معتقلون ومختفون عند نظام الأسد و”قسد” و”داعش”، ولا أحد منهم يجرؤ على المطالبة بإطلاق سراحهم.
ومهما كانت نتيجة الغضب التركي وتداعياته على السوريين، فلا بد لنا من الاعتراف بأن مدن الجزيرة السورية أكثر استقرارًا من المدن التي تحكمها قوات النظام والميليشيات الإيرانية، ومن المدن التي يحكمها أنصار تركيا وتابعيها، وكان للدعم الأمريكي لـ”الإدارة” الكثير من الإيجابية على حياة الناس، وإن كانت القوات الأمريكية لا تزال تتملّص من تعويض أهالي الرقة وغيرها من المدن المنكوبة بسبب التدمير الشامل الذي أصابها من قبل تلك القوات في حرب ترحيل “داعش”.
وكان من الممكن أن تكون “قسد” أكثر قبولًا لدى السوريين في الجزيرة الفراتية، لو اتسمت أهدافها السياسية وتحالفاتها الشعبية بنفس الحكمة والتسامح الذي اتسمت به إدارتهم للحياة اليومية للسكان، فعصر الأيديولوجيات الكبيرة أرهقنا جميعًا بأوهامه، سواء بالأفكار الشيوعية، أو بالأفكار القومية، أو بأفكار الإسلام السياسي، أو بالخلطة الغامضة من الأفكار التي ينادي بها عبد الله أوجلان في فلسفته، التي كتب معظم فصولها وهو يعيش في كنف حافظ الأسد ومخابراته، قبل أن يتم ترحيله من قبل الأسد الأب وتسليمه للمخابرات التركية.
الغضب التركي لا يزال مستمرًا، ويستظل بانشغال العالم بمونديال قطر 2022، وقد تدخل القوات التركية إلى أراضٍ سورية جديدة في أي لحظة، إذا خسر الرأي القائل إن التهديد بالاجتياح البري مجرد مناورة سياسية قبل الانتخابات التركية المقبلة. ولكن هذا الاجتياح، إن حدث، سينشر المزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة، وهذا ليس من مصلحة أحد من السوريين ولا من الكرد ولا من الأتراك!