لا تشكّل زيارة الوفد البيلاروسي الأخيرة إلى دمشق، في 23 من تشرين الثاني الحالي، مثار دهشة، بالنظر إلى طبيعة علاقات بيلاروسيا مع النظام السوري.
هذه العلاقة بدأت بالتشكّل قبل وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، وبدت بوضوح أكبر حين زار الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، دمشق عام 1998، والتقى حينها حافظ الأسد.
وأتبع لوكاشينكو زيارته بأخرى عام 2005، والتقى خلالها بشار الأسد، الذي رد الزيارة بعد خمس سنوات، وأكد من العاصمة البيلاروسية أن التعاون بين البلدين طويل الأمد، إلى جانب نقل مستوى العلاقات إلى الشراكة الاستراتيجية.
بيلاروسيا (الدولة السوفييتية سابقًا)، وبمجرد انهيار الاتحاد، وضعت نفسها في الظل الروسي، وترسخت هذه العلاقة خلال حكم فلاديمير بوتين، المتواصل منذ مطلع القرن الحالي، ما يعتبر سببًا آخر لتقاربها مع النظام السوري.
لوكاشينكو والأسد
العقوبات الأوروبية والاستئثار بالحكم، والتبعية لبوتين، واستحقار أوروبا، وقمع المعارضة، كلها قواسم مشتركة تقرّب بين لوكاشينكو والأسد، وتبرر طبيعة العلاقة التي لم تخالف فيها مينسك وجهة نظر موسكو تجاه دمشق.
وصل لوكاشينكو إلى السلطة في تموز عام 1994، وسيطر بشكل تدريجي على سلطتي البلاد التشريعية والتنفيذية لحماية حكمه، مع مستوى حريات سياسية منخفض، كما هي حال الجمهوريات السوفييتية سابقًا.
وفي 2010، سمح الرئيس البيلاروسي بترشح تسعة معارضين سياسيين لانتخابات الرئاسة، لكن آمال التغيير تلاشت بـ”فوزه” مجددًا، وسط تشكيك مراقبين بنتائج الانتخابات، إلى جانب حالة القمع الأمني التي قابل بها لوكاشينكو المظاهرات الاحتجاجية في أعقاب نتائج الانتخابات.
وإذا كان لوكاشينكو أمينًا على الحدود الأوروبية مع روسيا، ومتمسكًا بـ”صوابية” الرواية الروسية لغزو روسيا لجارتها كييف، فالنظام السوري ناقل أيضًا عبر إعلامه الرسمي وخطابه السياسي للرواية ذاتها، ومن المبادرين سريعًا للاعتراف باستقلال “جمهوريتي” دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين، والخاضعتين لسيطرة القوات الروسية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 من شباط الماضي.
السلاح أيضًا
في تحقيق استقصائي شاركه مع موقع “تايمز أوف إسرائيل“، في أيلول 2017، ذكر روتين سولومون، محلل الاستخبارات الإسرائيلي المستقل المتابع لبرنامج تطوير الأسلحة السورية، أن بيلاروسيا تعمل مع النظام السوري لتحديث صواريخ متوسطة المدى.
وأوضح المحلل الإسرائيلي أن احتمالية مساعدة بيلاروسيا في تحسين تكنولوجيا “صواريخ الأسد وحلفاء إيران و(حزب الله)”، ينبغي أن تثير قلق إسرائيل التي لها علاقاتها مع مينسك.
التحقيق لفت إلى شبهات قديمة باستخدام مركز الدراسات والبحوث العلمية بالقرب من منطقة مصياف، جنوب غربي حماة، في سوريا، لتحسين دقة الصواريخ.
واستند إلى ما قال إنها معلومات استخباراتية عبر الأقمار الصناعية، أظهرت هياكل ومواد يجري إحضارها للموقع، مع الاعتقاد أيضًا باحتوائها على أسلحة بيولوجية وكيماوية غير تقليدية.
وسبقت التحقيق الإسرائيلي شكوك أمريكية منذ عام 2012، بأن بيلاروسيا تزوّد دمشق بتكنولوجيا من شأنها تحسين قدرات صواريخ الأسد “أرض- أرض”، وهي من الأسلحة الأساسية لدى قوات النظام خلال حملته الوحشية ضد المعارضة، وفق ما نشرته مجلة “ذا أتلانتك” الأمريكية، في 14 من حزيران 2012.
وفي 2012 أيضًا، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على شركة بيلاروسية مملوكة للدولة، متهمة إياها بتزويد النظام السوري بصمامات للقنابل الجوية، بينما نفت مينسك محاولة بيع أسلحة لسوريا وانتهاك قرار مجلس الأمن الدولي.
جاء ذلك حينها على لسان المتحدث باسم الخارجية، أندريه سافينيك، الذي قال إن “كل اتهامات الجانب الأمريكي (…) لا أساس لها وغير صحيحة”، وفق ما نقلته وكالة “رويترز“.
أزمة مهاجرين
أُثيرت في الأشهر الأخيرة من العام الماضي أزمة مهاجرين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا.
واتهم الاتحاد الأوروبي حينها بيلاروسيا بتأجيج الأزمة عبر إعطاء تأشيرات لمهاجرين عالقين عند حدود ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، ودفعهم لمحاولة دخول أوروبا، ردًا على العقوبات التي فرضها الاتحاد على مينسك بعد حملة قمع استهدفت الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت بعد إعلان فوز لوكاشينكو في انتخابات 2020، بنسبة 80% من أصوات الناخبين.
كما أن تقارير وتحقيقات نشرتها وسائل إعلام أوروبية تحدّثت عن دور النظام السوري في تسهيل الهجرة الجماعية للسوريين إلى الحدود البيلاروسية مع بولندا.
وبحسب تحقيق نشرته صحيفة “الجارديان”، في 12 من تشرين الثاني 2021، بعنوان “التأشيرات السياحية والرحلات الجوية من سوريا، الطريق إلى أوروبا عبر بيلاروسيا“، فإن آلاف السوريين تقدموا بطلبات للحصول على تأشيرات إلى بيلاروسيا من لبنان، بمساعدة السفارة السورية في بيروت.
وخلال الشهر نفسه، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن شابًا سوريًا بعمر 19 عامًا، وخلال محاولته الوصول إلى أوروبا عبر بيلاروسيا، عُثر على جثته في نهر قرب بوهونيكي، الموطن التاريخي لأقلية التتار المسلمة في بولندا، حيث يوجد مسجد وإمام قادر على إجراء مراسم الجنازة للشاب.
وعلى وقع الاحتجاجات، هنّأ الأسد لوكاشينكو بـ”الفوز” في الانتخابات لولاية رئاسية سادسة.
وذكرت قناة “RT” الروسية أن الأسد قال في برقية التهنئة، “بأعظم فرح أنقل إليكم التهاني الصريحة من صميم قلبي بمناسبة فوزكم في انتخابات الرئاسة، وأتمنى لكم نجاحات جديدة في قيادة البلاد وتعزيز تقدم وازدهار الشعب الصديق”.
ست اتفاقيات
وقعت حكومة النظام السوري، في 23 من تشرين الثاني الحالي، ست اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع بيلاروسيا، شملت مجالات التبادل التجاري والتربية والإسكان والنقل والصناعة والجمارك.
وجرى توقيعها بعد مباحثات أجراها رئيس حكومة النظام، حسين عرنوس، مع رئيس وزراء بيلاروسيا، رومان غولوفتشينكو، والوفد المرافق له.
كما التقى وزير الخارجية، فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية البيلاروسي، ألينيك سيرغي فيودوروفيتش، الذي أكد مواصلة بلاده تقديم المساعدات الإنسانية لسوريا، ودفع علاقات البلدين الاقتصادية، لتعزيز قدرتها على مواجهة ما وصفها بـ”التحديات المشتركة” المفروضة عليهما من قبل الجهات نفسها، وعبر الأدوات ذاتها.
من ألكسندر إلى بشار
تسلّم رئيس النظام السوري، بشار الأسد، رسالة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في 24 من تشرين الثاني الحالي، خلال استقباله غولوفتشينكو، في ثاني أيام زيارته إلى سوريا.
وذكرت حينها، الوكالة السورية للأنباء (سانا)، أن الأسد اعتبر الزيارة مهمة ليس لتوقيع الاتفاقيات الثنائية بين البلدين فقط، بل للبحث في مجالات محددة للتعاون، وإقامة مشاريع استثمارية مشتركة تعود بالنفع على الطرفين.
كما اعتبر بيلاروسيا “مستهدفة” بسبب موقعها الاستراتيجي في قلب أوروبا، واستقلالية قرارها وسياساتها.
وفي الوقت نفسه، قال إن الغرب ينتهج سياسة شن الحروب ليستطيع الاستمرار، معتبرًا أنهم فشلوا في تحقيق هدفهم من هذه السياسة في العديد من الدول، ومنها سوريا وروسيا وبيلاروسيا.
من جهته، اعتبر رئيس الوزراء البيلاروسي، أن مجالات التعاون بين الجانبين “غير محدودة”، لافتًا إلى انتهاء المؤسسات في بلاده من تجهيز ملفات إقامة مشاريع ثنائية وتبادل منتجات تلبي حاجة الشعبين.
زيارة سابقة
في نيسان من 2017، أجرى وزير الصناعة البيلاروسي زيارة إلى سوريا، التقى خلالها رئيس وأعضاء غرفة صناعة دمشق وريفها.
وخلال الزيارة، أكد استعداده لمناقشة توريد كل المواد الأولية والتجهيزات اللازمة لإعادة تأهيل المنشآت الصناعية وتأمين احتياجاتها.
كما دعا لربط غرفة تجارة وصناعة بيلاروسيا مع الغرف الصناعية والتجارية السورية، لدور ذلك في تعزيز وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وفق ما ذكرته “غرفة صناعة دمشق وريفها” عبر موقعها الرسمي.
–