حسام المحمود | جنى العيسى| محمد فنصة | لجين مراد
خلال العام الحالي، أعلنت حكومة النظام السوري إحصائيتين “تقديريتين” لعدد سكان سوريا، لا تقدمان أرقامًا صحيحة، باعتراف مدير “المكتب المركزي للإحصاء”، الذي أقر بإجراء أحدث تعداد رسمي للسكان والمساكن في سوريا قبل 18 عامًا.
ويغيب الرقم الإحصائي الدقيق في سوريا، بمختلف القطاعات، لأسباب أبرزها غياب الشفافية، إذ تصنّف منظمة الشفافية الدولية سوريا في المرتبة 178 من أصل 180 دولة، ضمن مؤشر مدركات الفساد لعام 2021.
ولا يمكن مثلًا معرفة النسبة الدقيقة للتضخم الاقتصادي، أو عمالة الأطفال، أو أعداد الجنود المنتسبين لقوات النظام، في مناطق سيطرته، الأمر الذي لا يختلف كثيرًا في المناطق الخارجة عن سيطرته أيضًا، فوجود سلطات أمر واقع “تحارب من أجل بقائها”، وتعدد الجهات والمنظمات المحلية، خلق أرقامًا إحصائية متضاربة، لا يمكن اعتمادها في كثير من الأحيان، لغياب منهجية عمل واضحة أفضت إلى تلك النتائج.
وفي منطقة كإدلب، حيث تزداد الكثافة السكانية بفعل موجات التهجير من محافظات أخرى، لا يمكن معرفة عدد السكان الدقيق، بينما يقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، عدد المقيمين شمال غربي سوريا، ضمن سيطرة المعارضة، بـ4.6 مليون نسمة.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، واقع العمل الإحصائي في سوريا بعد 2011، وأسباب غيابه، وتستطلع مع خبراء وباحثين، أثر غيابه على وضع الخطط والتنمية والعمل البحثي، بالإضافة إلى دور المنظمات بهذا الصدد.
السلطات تستغله
الرقم الإحصائي غائب في سوريا
تعتبر الإحصائيات الموثوقة المتاحة مقومات أساسية لاستراتيجية التنمية بمفهومها الواسع، مع ضرورة تحسين بيانات التنمية كمًا وكيفًا، بكافة جوانبها، للوصول إلى عالم خالٍ من الفقر، بحسب “مجموعة البنك الدولي“.
الباحثة رشا سيروب، انتقدت في حديث إلى صحيفة “الوطن”، في نيسان الماضي، الرقم الإحصائي في سوريا، واعتبرته “مشكلة بلا حل، بسبب عدم كفايته أو شموله، وغياب المشاركة والشفافية، ويمكن ملاحظة ذلك في تصريحات المسؤولين، عند ذكر رقم ما، غالبًا لا يكون متطابقًا”.
وترى سيروب أن انخفاض جودة البيانات، وعدم توفرها، يعني وضع سياسات وسيناريوهات خاطئة وغير منطقية، دون توفير المؤشرات الإحصائية اللازمة لرسم السياسات وصنع القرار، وتقييم الأداء الحكومي في الدولة.
الباحث في مركز “جسور للدراسات”، المهتم بتحليل البيانات، عبادة العبد الله، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن عملية الإحصاء في سوريا حاليًا موضوع عالي الحساسية سياسيًا، مؤكدًا استغلالها لتصدير أرقام تصب في مصلحة السلطة، ما يعني عدم إمكانية اعتماد هذه الأرقام لقلة موثوقيتها.
ورغم وجود بعض المحاولات الإحصائية “التقريبية” على مستوى جهات ومنظمات، فإنها لا تغني عن الإحصاء الوطني الشامل.
من جهته، شدد مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، على أهمية استقلالية المؤسسة الإحصائية، للحصول على أرقام دقيقة، موضحًا أن المشكلة الأساسية في عمل “المكتب المركزي للإحصاء” مثلًا عدم استقلاليته، فهو ممول من الحكومة مباشرة، ما يجعله جزءًا منها، لا مؤسسة مستقلة، وبالتالي يمكن الضغط عليه لإصدار إحصائيات تخالف الواقع، كالمتعلقة بنسبة التضخم مثلًا.
ورغم ضعف موارد “المكتب المركزي للإحصاء”، تصدر عنه بعض الإحصائيات الدقيقة بتفاصيلها، فيما يتعلق مثلًا بأعداد القادمين إلى سوريا، وطرق دخولهم، والفنادق التي ارتادوها.
وفي مناطق سيطرة المعارضة، فالواقع الإحصائي ليس أفضل، فلا أرقام مفيدة عن عمل المؤسسات العامة أو الخاصة، رغم مرور سنوات على وجودها.
وتتعامل “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، مثلًا، مع موضوع النفط وأرقامه كأنه “من أسرار الأمن القومي”، كما أن الموازنة السنوية التي تصدرها عبر “مقالة” غير مفهومة، تعكس حالة تلاعب بالأرقام، وفق شعار.
المشكلة الأساسية في عمل “المكتب المركزي للإحصاء” عدم استقلاليته، فهو ممول من الحكومة مباشرة، ما يجعله جزءًا منها، لا مؤسسة مستقلة، وبالتالي يمكن الضغط عليه لإصدار إحصائيات تخالف الواقع، كالمتعلقة بنسبة التضخم مثلًا.
الدكتور في الاقتصاد كرم شعار |
النظام يفضّل “التعتيم”
مشاركة المعلومات ترفع الوعي الجمعي
“الخدمة غير متوفرة حاليًا”، هذه الجملة ليست غريبة على من يرغب بزيارة موقع “المكتب المركزي للإحصاء”، البوابة الرئيسة لما يتعلق بإحصائيات مرتبطة بالواقع السوري على أكثر من صعيد.
وبعد تجارب متواترة قد تفضي إلى دخول الموقع، يعاني الباحثون والمهتمون والصحفيون من طريقة عرض المعلومات، وتقديمها بشكل مفكّك، ما يعني أن التوصل إلى خلاصة ومغزى من الأرقام والنسب المنشودة، في حال وجودها، سيتطلب إعادة تجميع ذاتية من قبل المهتم، على اعتبار أن الإحصائيات في غالبها سنوية، ولا تُنشر على شكل تراكمي يتيح مقارنة سريعة، والتوصل إلى معلومات دون بحث مضنٍ.
فعلى سبيل المثال، أحدث رقم إحصائي صادر عن هذا المكتب كان عام 2019، دون وجود بدائل يمكن الاستناد إليها.
وإذا كان اهتمام النظام السوري بتقديم إحصائيات تقيس الواقع السوري بالأرقام، قبل 2011، ضعيفًا، فهو أضعف بالضرورة في الوقت الحالي، بسبب الحاجة لكوادر متخصصة في جمع البيانات وتحليلها ضمن قطاعات مؤسساتية مختلفة، على أقل تقدير، إلى جانب رغبة النظام أو عدمها في إتاحة الوصول الحر للمعلومات، والسماح بمشاركتها مع الشعب.
سلطان جلبي، باحث اجتماعي مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا، عزا تردي الواقع الإحصائي في سوريا إلى رغبة النظام في “التعتيم” على المعلومات أيًا كانت أهميتها، فلا أرقام دقيقة مثلًا حول إنتاج النفط في سوريا وعائداته وآلية إنفاقها، إلى جانب ضعف في قدرة النظام على إنجاز هذه الإحصائيات.
وقال جلبي، إن مناخ مشاركة المعلومات وتداولها ليس موجودًا إلا في الدول ذات الأنظمة المتحضرة، إذ تعكس هذه الحالة رغبة السلطة نفسها في إطلاع مواطنيها على المعلومات بسلبياتها وإيجابياتها، ما يتعارض مع ما تعيشه سوريا، ويؤثر سلبًا بالضرورة على العمل البحثي المستند أصلًا إلى أرقام وبيانات.
جزء كبير من الاقتصاد السوري قبل الثورة هو “اقتصاد ظل” غير رسمي أو مسجل، ما يعني أنه غير موجود بالمفهوم القانوني، وهذا يضاعف صعوبة الإحصاء، فيما يتعلق بحسابات الدخل الوطني وغيرها، أي أن “المكتب المركزي للإحصاء” يلجأ للتقديرات في كثير من الأحيان.
الباحث الاجتماعي سلطان جلبي |
الإحصائيات تعريف بالواقع لفهمه، وتحديد آليات التعامل معه، لكن غياب الاهتمام بالشفافية جعل المؤسسات المعنية تعمل بالحد الأدنى المطلوب في التعاملات مع جهات دولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي، بحسب جلبي.
ولا تتطلب العمليات الإحصائية بشكل متكرر النزول للأرض، لأن جزءًا من العمل مكتبي، يمكن إنجازه عبر تحليل بيانات متعددة متاحة، والاستناد إليها للتوصل إلى نتائج، فالإحصائيات تقام كل أربع سنوات تقريبًا، وما يطرأ عليها من تحديثات سنوية هو مقاطعة للبيانات الأصلية بالمتغيرات التي طرأت خلال العام، واستخلاص تقديرات.
وبالنظر إلى الوضع خارج سيطرة النظام، بيّن جلبي أن الإحصاء إما غائب وإما موجه، ولا يشكّل هاجسًا ملحًا لدى إدارات تلك المناطق، سواء شمال شرقي أو شمال غربي سوريا.
وفيما يتعلق بسبل الباحثين في الوصول إلى المعلومات في سوريا، بيّن الباحث وفق تجربته العملية سابقًا، أن العملية تشبه إلى حد بعيد تركيب صورة مجزّأة، عبر الحصول على جزء من المعلومة من مؤسسة، والإتيان بجزء آخر من مؤسسة أو دائرة ثانية، مع الإشارة عند استخدام هذه المعلومات في أي بحث إلى أنها الوحيدة المتوفرة من جهة، ومثار شك من جهة أخرى، معتبرًا مشاركة المعلومات، إلى جانب ضرورتها التنموية، مقياسًا على مدى ديمقراطية الدولة، والسماح للمواطن بفهم خصائص المكان ورفع الوعي الجمعي.
وبحسب جلبي، “تتبع مؤسسات منهجيات مختلفة في صياغة تقاريرها وأرقام إحصائياتها، حتى لا تكون قابلة للمقارنة بما يمكن أن يصدر عن مؤسسة أخرى”.
وفي الوقت نفسه، قد ترى الأنظمة الاستبدادية في مشاركة المعلومات والإحصائيات بوابة لخلق رقابة “غير هجينة” أو مسيطر عليها، ولا يمكن توجيهها أو توجيه استخدامها للمعلومات، كالصحافة والعمل البحثي، والرقابة المجتمعية أيضًا.
خارج سيطرة النظام..
منظمات محلية تعمل باستطاعتها
لا تصدر عن المنظمات المحلية أو الجهات “الحكومية” خارج سيطرة النظام، تقديرات وأرقام إحصائية دقيقة، ولا تزال الأرقام الأممية أكثر اعتمادًا، ما ينعكس على أكثر من منحى قد يؤثر في تصميم مبادرات التعافي المبكر، وعملية إعادة الإعمار، إلى جانب دورها في أي حل سياسي مستقبلي.
بناء على تقرير سابق أعدّته عنب بلدي، لا أرقام واضحة لأعداد السيدات الحوامل في إدلب ومحيطها، على سبيل المثال، فمع وجود 443 ألف سيدة حامل زرن المنشآت الصحية لأربع مرات خلال الأشهر الستة الماضية، وفق مديرية صحة إدلب، 253 ألف سيدة منهن أجرين زيارة واحدة لمركز طبي، يظهر مؤشر غير منطقي عند قياس الرقم بنسب النمو السكاني عالميًا.
المختص بالإدارة الاستراتيجية لمنظمات المجتمع المدني، الأكاديمي باسم حتاحت، لفت إلى الاعتماد على أرقام “OCHA” (أوتشا)، الجهة المشرفة على المساعدات، بصرف النظر عن مدى مقاربتها للواقع، بسبب عدم وجود جهات إحصائية محلية تهتم بهذا القطاع، موضحًا أن البيانات تقدم في إطار قانوني دولي.
وتجري جهات أممية ومحلية إحصائيات دورية تقديرية عبر مسوحات لفِرقها العاملة على الأرض، ثم تُحسب النتائج عبر معادلات قياس محددة.
ومن الجهات الأممية التي تعمل على تقديم بيانات دورية معتمدة، “أوتشا”، و”برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية” (HNAP).
وتقدم على المستوى المحلي، كل من “وحدة تنسيق الدعم” (ACU)، وفريق “منسقو استجابة سوريا”، دراسات ومسوحات دورية تركّز على احتياجات المخيمات وقطاع التعليم والصحة، كما تمتلك “وحدة تنسيق الدعم” منصة تعرض عدد وحركة السكان شمال غربي وشرقي سوريا.
وكانت الأمم المتحدة أصدرت، عام 2002، دليل إدارة تعدادات السكان والمساكن، يشرح هيكلية وطريقة التعداد، اعتمادًا على طرق المسح التقليدية والتخزين الإلكتروني، التي تحتاج إلى موارد مادية وبشرية على مستوى الدول.
كما أصدرت، عام 2018، منهجية تعداد سكاني ومساكني أحدث، تعتمد على استخدام السجلات الإدارية في التعداد، لكن اتباع هذه المنهجية يتطلب توفر عدة شروط لا تمتلكها مناطق السيطرة المختلفة في سوريا، كنوعية السجلات والبيانات الوصفية وتوفرها، ومحددات الهوية الشخصية، والمتغيّرات الإدارية.
وتتشابه الآلية المتبعة للتقدير السكاني بين الفرق الأممية والمحلية، مع اختلاف الإمكانيات المادية والبشرية، ومساحات التغطية.
يعتمد فريق “HNAP” المعتمد أمميًا على البيانات الواردة من قبل 465 جامع بيانات يغطون نحو 9961 تجمعًا سكانيًا على مساحة سوريا منذ عام 2016، بحسب دراسة أجراها مركز “الحوار السوري”، في شباط الماضي.
وتتركز منهجية عمل الفريق خارج سيطرة النظام على جمع البيانات في كل تجمع سكاني عبر تقاطع وتطابق بنسبة 90% لثلاثة مصادر مختلفة، كالمجالس المحلية، وبعض القيادات المجتمعية، ومديري المخيمات، والعاملين في العمل الإنساني.
كما يعتمد على معلومات حركة المعابر الداخلية والخارجية كمصادر ثانوية، ومسح حركات النزوح، عبر مقارنة البيانات من مناطق الخروج إلى مناطق الوجهة.
وعند ملاحظة فجوة كبيرة في الأرقام، يجري توجيه فريق جديد إلى المنطقة، لإعادة التقييم واعتماد الأرقام الناتجة عن هذا المسح، فهذه الفجوات تحدث بين مرتين وثلاث مرات سنويًا.
وتعتمد “ACU” على مجموعة من الباحثين الميدانين الموجودين على الأرض، كل منهم مسؤول عن تغطية ناحية واحدة، أو اثنتين، كما يغطي باحثو المخيمات مجموعة مخيمات شمال غربي سوريا، بحسب ما قاله مسؤول التقارير وشبكة الباحثين في “وحدة تنسيق الدعم”، ماهر الهديب، لعنب بلدي.
وترتكز منهجية المنظمة على مقابلة ثلاثة مصادر معلومات في كل مكان، كالمجالس المحلية، والمراكز الطبية، ومسؤولي حملات اللقاح، وجهات نفذت استجابة إنسانية ضمن المخيم وغيرها، لمقاطعة البيانات على المستوى المركزي مع بيانات جهات أممية.
ولدى “وحدة تنسيق الدعم” 100 باحث ميداني مختصين بجمع البيانات السكانية، يغطون بشكل شهري 2330 مدينة وبلدة ونحو 600 مخيم في شمال غربي وشرقي سوريا، وفق الهديب.
فوضى الأرقام
لا يخلو عمل المنظمات من هامش خطأ، باعتبار الإحصائيات تقديرية، ما يؤثر بالضرورة على الاستجابة الإنسانية، وحرمان شريحة كبيرة من المساعدة لسوء التقديرات.
وبمقارنة بيانات المنظمات الأممية والمحلية، عن عدد السكان في شمال غربي سوريا وشمالي سوريا (تل أبيض ورأس العين) الخاضع للإدارة التركية، يصل هامش الاختلاف إلى نحو مليون شخص، وهو رقم كبير بالنسبة للرقعة الجغرافية المحدودة، وقد يصل إلى 20% من عدد السكان الطبيعي.
وتظهر تحديثات “أوتشا” في شمال غربي سوريا، قبل نحو شهر، أن عدد السكان يبلغ 4.6 مليون نسمة، وبحسب برنامج “HNAP“، فالرقم 4.5 مليون نسمة وفق تقرير التعداد السكاني في سوريا في أيار 2021، بينما بلغ عدد السكان في ذات المنطقة 4.76 مليون نسمة، وفق تقرير تقييم الاحتياجات الإنسانية في سوريا التابع لمكتب “أوتشا“، في شباط الماضي.
وبالنسبة للمنظمات المحلية، تقدّر “ACU” عدد السكان في المنطقة ذاتها بـ5.39 مليون نسمة، بفجوة تصل إلى نحو 700 ألف شخص مقارنة بالأرقام الأممية.
تحديات وصعوبات المسح
بدأ الباحثون عملهم في “وحدة تنسيق الدعم” بمخيمات شمال غربي سوريا منذ عام 2013، عبر إحصاء عدد النازحين في كل خيمة، حيث تُخصص لكل باحث مجموعة خيام لتصدر إحصائيات سكانية دقيقة بشكل شهري.
ومع استمرار النزوح، وارتفاع عدد سكان المخيمات بشكل “كبير جدًا”، صار تطبيق الإحصاء بشكل دقيق وشخصي مسألة “مستحيلة”، تتطلّب عددًا كبيرًا من الباحثين وتكاليف مادية ضخمة، وفق ماهر الهديب.
وتعاني الفرق الإحصائية نقصًا في عدد الباحثين الميدانيين، بما يغطي مدن وبلدات ومخيمات تفصل بينها مسافات طويلة، مع صعوبة الحصول على الموافقة لجمع البيانات من قبل بعض الجهات المسيطرة.
وأدى وجود بلدات غير مسجلة في التقسيم الإداري (لدى النظام السوري)، إلى اختلاف الإحصائيات بين الجهات المختلفة، حيث تلجأ المنظمات المحلية مثل “ACU” إلى ضم هذه البلدات إلى أقرب بلدة مسجلة.
وتُقاطع الأمم المتحدة البيانات السكانية مع “المركزي للإحصاء”، وبالتالي يجب أن تتواءم بياناتها مع بيانات النظام، ما يفسر قلة أعداد البيانات الأممية مقارنة ببيانات الجهات الإنسانية الأخرى العاملة خارج سيطرة النظام، وفق ماهر الهديب.
ما البديل؟
خطط ارتجالية وهدر للموارد
تستند الأبحاث وأنشطة المنظمات وخطط التنمية التي تضعها الحكومات إلى إحصائيات تصدرها مؤسسات تابعة للحكومة ذاتها بالمقام الأول.
كما تحتاج مراكز الأبحاث السورية إلى الأرقام لقراءة واقع السوريين، ووضع خطط وتوصيات للفاعلين المحليين والدوليين، في سبيل تحسين هذا الواقع.
الباحث بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في سوريا بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، لفت إلى أهمية الإحصائيات في تحليل الظاهرة التي يدرسها الباحث، وتمكينه من التنبؤ بمساراتها بما يجعله أكثر واقعية في اقتراح سياسات وتوصيات موجهة لصنّاع القرار.
وقال الدسوقي لعنب بلدي، إن غياب الإحصائيات الرسمية الدقيقة يفضي إلى “خطط ارتجالية وهدر للموارد”، مبينًا أن الحكومات وسلطات الأمر الواقع الحالية، تتشارك بضعف هياكلها المؤسساتية ومواردها المادية والبشرية، إلى جانب محدودية وصولها الجغرافي، وغياب قنوات التواصل الرسمي بينها، ما يعرقل جمع إحصائيات متكاملة شمولية وموضوعية، ويحدّ قدرتها على وضع خطط تنموية بنّاءة.
مناطق النفوذ الأربع غير قادرة على الاكتفاء ذاتيًا، ولا تملك موارد كافية لبناء خطة تنموية، والنظر إلى منطقة نفوذ بإحصائياتها ومواردها بشكل منفصل عن بقية المناطق، يجعل أي تدخل تنموي محدود الأثر.
الباحث في مركز “عمران” أيمن الدسوقي |
حجر الأساس
يرى المدير التنفيذي لمنظمة “اليوم التالي”، معتصم سيوفي، أن الإحصائيات أساس أي عمل مرتبط بالاستجابة الإنسانية أو التنمية الاقتصادية والسياسة أو الإصلاح والانتقال السياسي.
وأوضح سيوفي لعنب بلدي، أن نجاح وضع خطط في هذه المجالات، يتطلّب إحصائيات عدد السكان وأعمارهم ونسب الرجال للنساء، إلى جانب التنوع المذهبي والعرقي والديني ومستويات التعليم، لمعرفة واقع المجتمع، كما تميل المنظمات للاستناد إلى تقديرات المؤسسات ذات المصداقية.
وتحتاج الجهات الفاعلة إلى معلومات موثوقة لتنفيذ السياسات والبرامج، ووضع سياسات جديدة بمختلف القطاعات ورصد تأثيرها، وفق تقرير صادر عن المركز الأوروبي للإحصاء (يوروستات).
وتستند منظمة “اليوم التالي” إلى برنامج استطلاع الرأي لإلقاء الضوء على أولويات السوريين واحتياجاتهم وتجاربهم، عبر استخدام عيّنات تمثيلية قادرة على تقديم صورة تقريبية للواقع، ما يسهم في فهم الاتجاهات العامة، سواء الخيارات السياسية أو الاحتياجات الإنسانية، دون الاستغناء عن الإحصاء.
وتعتبر إشكالية تأمين إحصائيات موضوعية ودقيقة حيال ملفات اقتصادية أواجتماعية أو أمنية- عسكرية، قديمة بالنسبة للعاملين في الشأن السوري، ما يفرض عليهم البحث عن بدائل، وفق ما ذكره الباحث في مركز “عمران” أيمن الدسوقي.
وبحسب الباحث، تلجأ الجهات البحثية إلى بناء قاعدة بيانات من مصادر متعددة وبأدوات عدة كالمقابلات، وقواعد بيانات المنظمات غير الحكومية والأممية، ومقاطعتها ومعالجتها وفق منهجية علمية، للوصول قدر الإمكان إلى إحصائيات يمكن البناء عليها، ما يتطلّب جهدًا ووقتًا مضاعفين.
العيّنة التمثيلية: مجموعة فرعية أو جزء صغير من المجتمع يمكن اختياره بطريقة عشوائية أو مدروسة من قبل المختصين لتمثيل الشريحة الأكبر من المجتمع أو الفئة المستهدفة للحد من هدر الوقت والمال في حال عدم توفر إحصائيات دقيقة. |
بدائل تقيّدها السلطات
وخلال العمل على تقرير من قبل منظمة “اليوم التالي” باستخدام استطلاعات رأي في مناطق خارج سيطرة النظام، قوبل عمل المنظمة باتهامات عديدة، وهذا جزء من العقبات التي تواجه العمل الإحصائي، عبر التشكيك بدوافع الإحصاء، إلى جانب غياب الجهات المسؤولة عن صنع قواعد بيانات.
الباحث أيمن الدسوقي لفت أيضًا إلى ضرورة التعامل بحذر شديد مع الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم لتأمين بيانات رسمية أو غير رسمية، لتعرضهم لأخطار اعتقال محتمل بتهم متعددة، وهو ما حدث في مختلف مناطق النفوذ.
ويعتبر الحصول على إحصائيات شمال غربي سوريا أكثر مرونة مقارنة بالمناطق الأخرى، ما يتيح لمراكز الأبحاث والمنظمات فرصًا لنشاط أكبر في المنطقة، وهو ما يُترجم على الأرض بارتفاع عدد التقارير الصادرة، وحجم المعلومات من المنطقة، وفق الدسوقي.
ما مستقبل الإحصاء في سوريا؟
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، قال لعنب بلدي، إن المؤسسات الخاصة يمكن أن تملأ الفراغ بملف الإحصاء في سوريا، على اختلاف مناطق السيطرة، لكن العمل هنا يتعلق بالموارد غير الموجودة لدى مؤسسات القطاع الخاص أو المؤسسات البحثية.
ويرى شعار أن توفير موارد لمؤسسات بحثية مستقلة، أو خلق مؤسسات إحصائية تابعة ماليًا لقوى الأمر الواقع والحكومات، ومستقلة إداريًا، ولا تخضع لضغوطات، يمكن أن يسد الثغرة.
واتفق الباحث في مركز “جسور للدراسات” المهتم بتحليل البيانات عبادة العبد الله مع الدكتور كرم شعار، مؤكدًا أن الحلول قد تكمن في تعزيز دور المنظمات المستقلة، وفق الشروط التي ذكرها شعار أيضًا، بينما دعا سلطان جلبي، الباحث الاجتماعي المهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا، إلى تعزيز ودعم دور منظمات المجتمع المدني في هذا السياق، كبداية من جهة، ولتكون مثالًا عمليًا أمام الجهات الأخرى في هذا المجال.