خطيب بدلة
اخترع عاصي ومنصور الرحباني، وسفيرتنا إلى النجوم، فيروز، وطنًا خاصًا بهم. لعبوا على الثلج، وسمعوا “صوت نهورا تنده الغياب”، وغطتهم “الضبابة”، وكتبوا أسماءهم وذكرياتهم على الرمل، والشجر، وخيوط المطر، والهواء.
عندما تسبل العاشقة الرحبانية الفيروزية عينيها، ويكون لهما فيء، فإن أوراق الزنبق يغمرها الندى (لما عيونك بتفيي، وراق الزنبق بتندّي). وهي تعاتبُ حبيبها قائلة إنها تحفر اسمه على الحور العتيق، وأما هو فيكتب اسمها على رمل الطريق، فيكون معرضًا للمحو مع أول هطول للمطر، وعلى هذا المنوال نسج بشارة الخوري صورة ذلك الشاعر الذي يبكي ويضحكُ لا حزنًا ولا فرحا، كعاشق خط سطرًا في الهوا ومحا.
إنها عاشقة حالمة، تزرع الوردة التي أهداها إليها حبيبها على المخدة، والمخدة، في أغنية أخرى، تنتبه لبكائها في الليل: قديش وعيت هالمخدة عالبكي. وتحكي فيروز، في “سكتش سهرة حب”، عن عاشق يكتب اسم حبيبته على الماء (كتبتلا اسما عالمَي)، وفي قصيدة “بليل وشتي” يرى الشاعر جوزيف حرب، بشطحة خيال هائلة، أن سهرة الحبيبين مع بعضهما كانت مكتوبة على خيوط المطر.
كان عُمر فيروزتنا، حينما باشرت الغناء الاحترافي سنة 1952، 17 سنة، ولعل هذا ما دفع الأخوين الرحباني لأن يبدعا لأجلها قصائد تتحدث عن العاشقة الصغيرة التي لا تمتلك أي خبرة سابقة في مجال الحب، كقولها: بكير طل الحب على حي الـ لنا، حامل معه عتوبة وحكي، ودمع وهنا، كنا وكانوا هـ البنات مجمعين، يا أمي وما بعرف ليش نقاني أنا. وتتكرر نغمة الشكوى للأم، مرة في قولها: دخيلك يا أمي، مدري شو بِنِي. ومرة أخرى في أغنية “يا أمي ما بعرف”، إذ تقول: يا أمي ما بعرف كيف حاكاني. كنت حد العين حيراني، تركته بقصدي روح، بدي روح، مدري شو حَدّ العين خلاني. ثمة قوة خفية، إذن، هي التي أبقتها عند عين الماء (مدري شو)، ثم تكتشف السر، وهو فصاحة حبيبها، الذي كان يحكي ويحكي، والحكي شو كان طايع له! والغريب في الأمر، ضمن هذه الحالة الرومانسية، وجود ترابط قوي بين اضطرام الحب بين العاشقين ونمو النباتات الموجودة في المكان: صاروا الزنابق حَدّنا يعلوا، لو ضَل كان الورد خَبَّاني! ولعل الشاعر نزار قباني قد تأثر بهذه الصورة الشعرية، فأبدع لأجل فيروز قصيدة “لا تسألوني”، وفيها تقول المغنية إنها لو باحت بحرف واحد من اسم حبيبها، لانتشرت رائحة العطور في المكان، وتكدس الليلك في الدروب!
خلال الفترة الزمنية التي أنجز فيها المشروع الغنائي الرحباني الفيروزي، وهي الممتدة على مساحة النصف الثاني من القرن العشرين، كان ثمة “تبادُع”، أي تنافس في الإبداع، بين الشعراء، شمل كل أنواع الصور الشعرية التي يحبها الرحبانيان، فمقابل طلبهما من زهر نيسان أن يزهّر على الشباك، كتب سعيد عقل: دقيت، طل الورد ع الشباك! وفي قصيدته “سائليني يا شآم” يقول سعيد إنه عَطَّرَ السلام، فغار الوردُ، واعتل الخزام.. وأنا لو رحتُ استرضي الشذى، لانثنى لبنانُ عطـرًا يا شآمْ.