عنب بلدي – لجين مراد
في دول تصفهم بـ”النازحين” و”الضيوف”، يعيش آلاف الأطفال السوريين في حالة من انعدام الاستقرار، والخوف الدائم من أن يكونوا ضحية موقف عنصري يعزز شعورهم بعدم الانتماء للبلد المضيف، ويعرقل اندماجهم بشكل أكبر.
وفي حين يواجه الأطفال السوريون في لبنان والأردن وتركيا العديد من المشكلات، ازدادت الضغوطات عليهم جرّاء مخاوف عائلاتهم من خطط إعادة اللاجئين التي هدمت جميع محاولات الاستقرار.
وتترتب على هذه الظروف العديد من المشكلات، أبرزها الحرمان من حق الأطفال بالتعليم، بالإضافة إلى آثار نفسية واجتماعية على حاضر الأطفال ومستقبلهم.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير مع خبراء ومتخصصين، أثر غياب الظروف المناسبة لاندماج الأطفال السوريين في لبنان والأردن وتركيا على الأطفال، كما تعرض مقترحاتهم لحلول تحد من عواقب ذلك.
“مجرد ضيوف”
“أنتم مجرد ضيوف، لا يجب أن تخطئوا”، هذه العبارة التي سمعتها تسنيم يونس (17 عامًا) وزملاؤها مرارًا من قبل مدير مدرستها في اسطنبول.
ورغم أنها تعيش في تركيا منذ حوالي سبع سنوات، وتتقن اللغة التركية، لم يجنبها ذلك التعرض للعديد من المواقف العنصرية في المدرسة، وفق ما قالته لعنب بلدي.
وأضافت تسنيم، “أدرس في المدارس التركية منذ مدة طويلة، لكنني دائمًا مجبرة على مواجهة مواقف تشعرني بغياب الأمان”.
ورغم أن لتسنيم العديد من الأصدقاء الأتراك، تنعكس أي مشكلة بين السوريين والأتراك على تعامل الزملاء والمعلمين معها.
وعلى سبيل المثال، تواجه تسنيم بشكل يومي عبارات من قبل المعلمة المسؤولة عن صفها، التي تكرر عبارة “لا أحب السوريين، ولست مجبرة على أن أحبهم، وهم المسؤولون عن جعلي شخصًا عنصريًا”، بحسب ما قالته تسنيم.
“حتى في حال واجهنا مشكلة، نتجنب التوجه للإدارة، خوفًا من أن يحمّلونا المسؤولية، ونُعاقَب على خطأ لم نرتكبه”، تابعت تسنيم، لافتة إلى أن بعض زملائها فُصلوا من المدرسة وعوقبوا بسبب مشكلة بينهم وبين طلاب أتراك، بينما لم يُعاقَب الأتراك.
ولا تختلف الحال في لبنان، إذ يدرس الطفل عبد الحكيم القاق (11 عامًا)، المقيم في محافظة جبل لبنان، في مدرسة لبنانية ولكن بدوام مسائي، ما يجعل احتكاكه بالأطفال اللبنانيين محدودًا، ويقتصر على ساعات اللعب مع أطفال الجيران.
منعت إحدى الجارات أطفالها من اللعب مع عبد الحكيم قائلة، “لا تلعبوا مع السوريين، العبوا لحالكم أنتو اللبنانيين”، بحسب ما ذكره والد الطفل أديب القاق (53 عامًا) لعنب بلدي.
وأضاف أديب، “ابني بعمر صغير، لم يستطع التعامل مع الموقف، واكتفى بالعودة إلى المنزل حزينًا”.
كما تداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطعًا مصوّرًا لأب أردني يتحدث عن موقف بين طفلته وطفلين سوريين، إذ قال أحد الطفلين، “هي بلدهم مو بلدنا”، مطالبًا أخاه بترك الأرجوحة لتلعب الطفلة الأردنية.
وانتقد الأب الحالة التي يعيشها الأطفال السوريون في الأردن، معتذرًا عن المواقف العنصرية التي يتعرضون لها.
التربية تعزز المخاوف
في ظل تصاعد الحديث عن خطط إعادة اللاجئين، والبدء بتطبيقها في لبنان وتركيا، تحوّلت الحياة اليومية للاجئين السوريين إلى خوف دائم من أن يكونوا الهدف التالي لهذه الخطط.
هذا الحديث لا يغيب عن مسامع الأطفال في المدارس والأماكن العامة ومواقع التواصل الاجتماعي، وحتى في منازلهم.
أديب القاق المقيم في لبنان قال، إنه مجبر على تذكير أبنائه بأنهم ضيوف في هذا البلد، ويحذرهم من التدخل بأي مشكلة قد تكون سببًا لترحيلهم.
وأضاف أديب، “حتى في حال حدثت مشكلة صغيرة في الحي، أُجبر أبنائي على العودة إلى المنزل، خوفًا من أن يتحملوا المسؤولية، ويكونوا ضحية مشكلة لا علاقة لهم بها”.
“نحن ما دخلنا، نحن ضيوف بهي البلد”، عبارة يرددها أديب على مسامع أطفاله باستمرار، ولكن هذه التحذيرات ليست كفيلة بإنقاذه من حالة القلق التي يعيشها خلال وجود أبنائه خارج المنزل، بحسب قوله.
وفي تركيا، يتعرض العديد من الأطفال السوريين في المدارس لحالات عنصرية بلغت في بعض الحالات حد الاعتداء الجسدي.
ورغم أن الطفل يكون ضحية المواقف العنصرية، يتجنب الأهالي تقديم شكوى باعتبارها غير مجدية لأن الطفل الآخر تركي، أو خوفًا من أن تتفاقم المشكلة، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
ودفع ذلك العديد من الأهالي للامتناع عن إرسال أطفالهم إلى المدرسة، خوفًا عليهم من أذى لن يستطيعوا حمايتهم منه.
بيئة تعوق اندماج الأطفال
يواجه الأطفال السوريون العديد من العبارات والمواقف التي تُظهر عدم تقبل وجودهم من قبل البيئة المحيطة في دول اللجوء، ما يعوق اندماجهم ويولّد مخاوف كبيرة لديهم.
الاختصاصية الاجتماعية والمعالجة الأسرية أسماء الجراد، قالت لعنب بلدي، إن الأطفال الذين ينشؤون في مجتمعات ترفضهم أو تحدّ من قدراتهم وأفكارهم، وتمنع حقهم في التعبير وممارسة الأنشطة والحصول على حق التعليم والطبابة وغيرهما، يتنامى لديهم شعور التشتت والضياع وفقد الهوية الذي يمنعهم من الحركة والعمل، أو يشعرهم بالنقص والدونية.
وسواء كانت هذه الحالة مرتبطة بوجود قانون مباشر، أو مواقف عززت هذا الشعور، أو بمخاوف الأهل، يشعر الأطفال بالخوف المستمر وفقد الأمان النفسي، بالإضافة إلى أنهم يفقدون الروابط والصلات بينهم وبين الآخرين، وهو ما يولد عند الطفل القلق والتوتر الشديد، والميل إلى العزلة والانكماش، والإحباط وعدم القدرة على تكوين الصداقات أو تحقيق النجاح الشخصي، بحسب ما قالته أسماء الجراد.
وأضافت الاختصاصية الاجتماعية والتربوية، أن هذا الشعور يتحول عند بعضهم إلى عدوانية ورغبة بالانتقام والميل للتخريب والإيذاء، تعبيرًا عن الاحتجاج وعدم قبول هذا التمييز والتفرقة العنصرية، والرغبة بكسر القوانين.
بدوره قال الطبيب النفسي الدكتور إسماعيل الزلق لعنب بلدي، إن الحاجة إلى الانتماء أساسية عند الأطفال، وتبدأ بالانتماء للأسرة ثم للمجتمع وللمدرسة كمؤسسة مجتمعية.
ويترتب على شعور الطفل بوجود حاجز بينه وبين المجتمع، نظرة دونية للذات، إذ يشعر الطفل أنه أقل من الآخرين، ويعزز ذلك تعرضه للتنمر والعبارات العنصرية، وفق ما قاله الزلق، لافتًا إلى أنه هذه الحالة تحدّ من قدرات الطفل وتجعله عاجزًا عن تكوين علاقات اجتماعية.
كما يمكن أن تتحول في بعض الحالات إلى مشكلات جسدية في حال كانت المشكلات العنصرية التي واجهها كبيرة، وفق الطبيب.
وأضاف الزلق أن الطفل يمكن أن ينفر من هويته الأساسية ويتجنب الحديث بلغته الأم، كما يمكن أن يطلب من عائلته تجنب الحديث بلغته في الأماكن العامة خوفًا من أن تُعرف هويتهم.
الطفل السوري مستقبلًا
يختلف مستقبل الأطفال تبعًا لواقعهم، إذ يمكن أن يتماهوا مع شخصية البلد المضيف، فيتقمصوا ثقافته وأفكاره ولغته وطريقته في العيش والتعامل، وينسلخوا عن تاريخهم وثقافتهم وحضارتهم، وربما عن دينهم ومبادئهم وقيمهم أيضًا، بحسب ما قالته الاختصاصية الاجتماعية والتربوية أسماء الجراد.
وفي بعض الحالات، يمكن أن يعيش الإنسان طوال عمره حائرًا عاجزًا عن العودة إلى بلده، وعاجزًا عن التقدم والنمو في دول اللجوء.
وفي الحالة الثالثة، يمكن أن يتأقلم ويحافظ على هويته بالقدر الذي يسمح له الاندماج مع المجتمع الجديد، ويتمكن من الحفاظ على ماضيه والاستثمار في حاضره ومستقبله في البلد الجديد، وفق الاختصاصية.
وقالت أسماء الجراد، إنه في ظل وجود بلاد يمكن أن تمنح الأطفال السوريين جوازات سفر، سيسعى معظم الأطفال للوصول إلى تلك البلاد، لتنفصل جذورهم تدريجيًا عن بلادهم.
أمام عجز الأهالي.. ما الحلول؟
يعيش معظم اللاجئين السوريين في قلق مستمر، ويواجه الأهالي مخاوف كبيرة من تعرض أبنائهم للأذى وسط عجزهم عن تغيير الواقع.
الطبيب النفسي إسماعيل الزلق قال، إن على الأهل إقامة علاقة آمنة ومتوازنة وداعمة للطفل، ليكون قادرًا على الحديث عن مخاوفه ومشاركتها مع والديه.
كما يجب على الأهل تجنب زيادة العبء على الطفل وتعزيز مخاوفه من المجتمع، وعدم لومه على هذا الخوف، من خلال تقبل هذه المشاعر ومساعدته على استيعاب البيئة المحيطة.
ويأتي ذلك من خلال تذكير الطفل بأن في البيئة المحيطة أشخاصًا جيدين يمكن أن يكوّن علاقات جيدة معهم، وآخرين لن يتقبلوا وجوده، وفق الطبيب.
كما أوصى الزلق الأهالي بتعزيز انتماء الطفل لبلده، وإحساسه بأنه قادر على النجاح من خلال تسليط الضوء على حالات لأطفال من بلده نجحوا في دول اللجوء.
بدورها، أوصت الاختصاصية الاجتماعية والتربوية أسماء الجراد بالتوعية والتدريب المستمر على الأنماط الجديدة مع الحفاظ على الهوية الأصلية للأطفال وعائلاتهم الذين يعيشون تجارب مشابهة.
وأشارت إلى أهمية إنشاء جمعيات ومراكز وبرامج تعنى بهذه الفئة التي تكون ثنائية أو ثلاثية الثقافة.