عنب بلدي – حسام المحمود | حسن إبراهيم | خالد الجرعتلي
من جنسيات مختلفة، وبأسماء “معرّبة”، يتركز وجود المقاتلين الأجانب في مناطق شمال غربي سوريا، وتحديدًا الخاضعة منها لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، بعدما قدموا إلى سوريا منذ سنوات ودون دعوة، بزعم المشاركة في العمل العسكري ضد النظام السوري.
معلومات شحيحة، تقتصر على تسريبات من مهتمين بالعمل الفصائلي والحركات “الجهادية” والإسلامية، تشكّل قوام ما هو معروف عنهم، دون توضيح أو تأكيد أو نفي من “الهيئة”، التي تعد القوة “الآمرة والناهية” في ذات المناطق التي يتغلغل بها هؤلاء المقاتلون.
ومع كل عملية أو حادثة يتعرض لها المقاتلون الأجانب من اعتقال أو إفراج، أو اغتيال وتصفية بطريقة ما، تلتزم “تحرير الشام” الصمت، تاركة الحدث للمرور دون تعليق رسمي من قبل متحدثيها أو مسؤوليها، باستثناء بعض الحالات التي تطفو على السطح، وخلافًا لما درجت عليه العادة منذ انخراطهم بالعمل العسكري في سوريا عام 2011.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع بعض المختصين، البيئة التي تحيط بالمقاتلين الأجانب في شمال غربي سوريا، وطبيعة حركتهم في ظل وجود قوة أكبر مسيطرة في المنطقة، وعلاقتهم بها، إلى جانب حضورهم في الشارع منذ نحو عقد من الزمن، وتحجيم دورهم وغياب أي تفاهم أو رؤية حول مستقبلهم.
لا حديث عنهم في إدلب
واجه المقاتلون “الجهاديون” الأجانب عدة أحداث ومتغيرات خلال الفترة الأخيرة، كان أحدثها في تشرين الأول الماضي، حين تحدثت أخبار عن أن مقاتلين شيشانيين غادروا ريف اللاذقية لمحاربة القوات الروسية التي تغزو أوكرانيا منذ 24 من شباط الماضي.
ومن أبرز هؤلاء المقاتلين، قائد جماعة “أجناد القوقاز”، رستم آزييف، المعروف بـ”عبد الحكيم الشيشاني”، بالإضافة إلى 25 شخصًا من عناصر جماعته.
وبحسب تقرير نشره موقع “المونيتور“، في 22 من تشرين الأول الماضي، فإن آزييف غادر إدلب إلى أوكرانيا، بعد التنسيق مع مجموعات عسكرية من كتيبة “الشيخ منصور الشيشانية”، التي تقاتل إلى جانب القوات الأوكرانية ضد الروس.
ومن المتوقع مغادرة مزيد من القادة في إدلب إلى أوكرانيا، هربًا من “حملة القمع” التي تقودها “تحرير الشام”، وللانتقام من روسيا، وقوات حليفها الشيشاني رمضان قديروف، وفق الموقع.
عنب بلدي تواصلت مع المكتب الإعلامي لـ”تحرير الشام”، منذ 24 من تشرين الأول الماضي، للحصول على تعليق أو توضيح حول خروج “عبد الحكيم الشيشاني” وعناصر جماعته من إدلب، واتهامها بممارسة الضغط على المقاتلين لدفعهم للخروج من المنطقة، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.
الباحث السوري المتخصص في الحركات الدينية عبد الرحمن الحاج، أوضح لعنب بلدي أن الغزو الروسي لأوكرانيا خلق فرصة جديدة للمقاتلين الأجانب لقتال “عدوهم الأساسي” في إشارة إلى روسيا، مبيّنًا أن تأخرهم عن المعركة في أوكرانيا مؤشر على صعوبة تنقلهم.
وفي 25 من أيلول الماضي، أفرجت “تحرير الشام” عن القائد العسكري لجماعة “أنصار الشام”، “أبو موسى الشيشاني” (شقيق قائد فصيل “جنود الشام” مسلم الشيشاني)، ويُزعم أنه انضم بعد خروجه من السجن إلى جماعة “جند الله” التي يسيطر عليها الأذربيجانيون.
الإفراج الذي مرّ دون تعليق من “الهيئة”، جاء بعد نحو 11 شهرًا من الاعتقال، في أعقاب هجوم شنته بريف اللاذقية، في 26 من تشرين الأول 2021، واستهدفت فيه مجموعات من مقاتلين أجانب.
وكانت وكالة “تاس” الروسية ذكرت، في 9 من أيلول الماضي، أن زعيم كتيبة “التوحيد والجهاد”، سراج الدين مختاروف (أبو صلاح الأوزبكي)، قُتل خلال غارة روسية استهدفته إلى جانب أكثر من 20 “إرهابيًا” من “جبهة النصرة” (“هيئة تحرير الشام” حاليًا)، نقلًا عن نائب رئيس مركز “المصالحة” الروسي، أوليغ إيغوروف.
وقالت الوكالة، إن “الأوزبكي”، الذي كان وراء تنظيم الهجمات “الإرهابية” على قوات النظام ومنشآت البنية التحتية المدنية، قُتل نتيجة الضربة التي نفذتها الطائرات الروسية في إدلب على معسكر لـ”المسلحين”، في 8 من الشهر نفسه.
من جانبه، نفى المكتب الإعلامي لـ”تحرير الشام”، عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، مقتل “أبو صلاح الأوزبكي” خلال الغارة، مشيرًا إلى أن الطيران الروسي استهدف منشرة للحجر، دون أي تفاصيل أخرى عن القيادي.
وفي الوقت نفسه، أكدت منظمة “الدفاع المدني السوري” ارتكاب الطيران الروسي “مجزرة” جديدة، قُتل خلالها سبعة مدنيين بينهم طفل، مع إصابة أكثر من عشرة أشخاص، معظمهم عمال في منشرة حجارة ببلدة حفسرجة، بريف إدلب الغربي.
“الهيئة” وشبكة “الجهاد”
أفرجت هيئة “تحرير الشام”، في شباط الماضي، عن “الجهادي” الفرنسي قائد فرقة “الغرباء” في سوريا، عمر أومسن (عمر ديابي)، بعد احتجازه منذ آب 2020، وفق ما نقلته وكالة “فرانس برس“.
وقال مدير مركز “تحليل الإرهاب” في باريس، جان شارل بريسار، للوكالة، “تحدثتُ إلى نجله وأُفرج عنه حقًا”، مضيفًا أن “تحرير الشام” فرضت شروطًا لا تريد الكشف عنها مقابل الإفراج عن أومسن.
“الهيئة” كانت بررت اعتقال “الجهادي” الفرنسي، بـ”وجود دعاوى مرفوعة بحقه”، وتفرّده بإقامة “إدارة مصغرة”.
عنب بلدي تواصلت حينها مع المكتب الإعلامي التابع لـ”الهيئة”، للتحقق من صحة الأنباء حول إخلاء سبيل أومسن، وعدد من قيادات “الغرباء”، وأسباب الاعتقال والاتهامات الموجهة إليهم، لكنها حصلت على رد متأخر جاء في آذار الماضي، واكتفى خلاله المكتب الإعلامي لـ”الهيئة” بالإِشارة إلى أن القضية أصبحت “قديمة”.
الباحث في معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” آرون زيلين، المختص في شؤون الجماعات “الجهادية” بشمال إفريقيا وسوريا، اعتبر تكتم “تحرير الشام” على المقاتلين الأجانب مرتبطًا بحساسية الموضوع.
وقال زيلين لعنب بلدي، إن “الهيئة” تحاول إخراج نفسها من قائمة “الإرهاب”، وحقيقة وجود أعضاء في مجموعات “إرهابية” أخرى على أراضيها، سواء داخل أو خارج السجن، يُعقّد القضية، ولا سيما إذا كان أحدهم ذا جنسية غربية.
هذا التكتم على المقاتلين الأجانب، فسّره الباحث عبد الرحمن الحاج، بصورة مختلفة، إذ علله برغبة “تحرير الشام” في الحفاظ على قدرتها لتنفيذ مخططاتها، حرصًا على تماسك صفوفها.
وقال الحاج، إن “الهيئة” تتجنب الصدام المباشر والعمليات الموسعة، لتحافظ على علاقتها بالشبكة “الجهادية” العالمية، التي تمكنها من الحصول على المعلومات، ولتخفض الصدام مع الشبكة نفسها إلى الحدود الدنيا، بغية ضمان استقرار مناطق سيطرتها والإمساك بزمام الأمور.
“إخوة في صف الثورة”
صمت “الهيئة” وتكتمها فيما يخص المقاتلين الأجانب، تخلله تعليق على بعض الأحداث الأمنية الداخلية، ومنها إلقاء “جهاز الأمن العام” (يُتهم بتبعيته لـ”الهيئة”) القبض على “قاتلي” رجل وزوجته في قرية كفتين بريف إدلب الشمالي، بعد مقتلهما في 20 من آب الماضي.
وقال المتحدث باسم “جهاز الأمن”، ضياء العمر، لعنب بلدي عبر مراسلة إلكترونية، إن “الخلية” تتألف من عدة أشخاص، ألقى “الأمن العام” القبض على معظمهم، واعترفوا بتبعيتهم لتنظيم “الدولة الإسلامية”، موضحًا أن متزعم العصابة أوزبكي الجنسية.
وأصدر “الأمن العام”، في 24 من آب الماضي، بيانًا ذكر فيه أن “أبو بكر الأوزبكي” و”عبد الله الأوزبكي”، الضالعين بمقتل رجل وزوجته، يتبعان لإحدى خلايا تنظيم “الدولة” الأمنية.
وبعد إبلاغها مهاجرين مقيمين في إدلب وبعض أريافها، بضرورة إخلاء المنازل التي يقيمون فيها خلال فترة محددة، والتضييق عليهم، أصدرت “تحرير الشام”، في 18 من شباط الماضي، بيانًا نفت خلاله اتباعها سياسة ممنهجة تجاه المهاجرين، معتبرة أنهم “لا يزالون في صف الثورة، ومع مشروعها ومع قيادتها”.
وخلال لقاء أجراه مع صحيفة “Independent“، بنسختها التركية، في 5 من أيلول 2021، أشاد القائد العام لـ”تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، بجهود من وصفهم بـ”الإخوة المهاجرين الذين جاؤوا للمساعدة”، ووعد بعدم التخلي عنهم، ردًا على سؤال حول وجود مكان لهم في مستقبل سوريا.
وقال “الجولاني”، إن هؤلاء المقاتلين “جزء منا، يختلطون بالناس، وهم سعداء بالناس والناس سعداء بهم، ولا يشكّلون خطرًا لدولتنا، وهم موجودون تحت السياسة التي أسسناها”.
يعتقد الباحث آرون زيلين، أن “تحرير الشام” لا تخدع أو تتحايل على أي طرف حين لا تناقش قضية المقاتلين الأجانب علانية، لافتًا إلى أن هذه الجماعات موجودة، وبعضها قادر على مواصلة العمل علانية، مثل جماعة “أنصار الإسلام”، وكتيبة “الإمام البخاري”، وكتيبة “التوحيد والجهاد”، و”الحزب الإسلامي التركستاني”.
كما تنشط بعض المعرفات عبر “تلجرام” لهذه الجماعات، وتنشر من خلالها صورًا لتدريبات ومقاتلين وأسلحة، وتعلن عبرها أيضًا استهداف مواقع لقوات النظام قرب خطوط التماس، عبر بيانات مكتوبة.
تضييق وإقصاء
عملت هيئة “تحرير الشام” على بسط سيطرتها وتعزيز حضورها العسكري، من خلال حلّ بعض الفصائل وإزاحتها، ومصادرة أسلحتها، أو إجبارها على التماشي مع سياستها، ثم اتجهت لتفكيك الجماعات “الجهادية” التي يطغى المقاتلون الأجانب على تشكيلاتها العسكرية.
وأحدث هذه العمليات، الحملة التي نفذتها في تشرين الأول 2021، على مقار لفصائل “جهادية” أجنبية في ريف اللاذقية، يعتبر أكبرها فصيل “جنود الشام”، بقيادة “مسلم الشيشاني”، الذي طالبته “الهيئة” سابقًا بمغادرة الأراضي السورية مع مقاتليه الأجانب.
“جبهة النصرة” (“تحرير الشام” حاليًا) التي أُنشئت في سوريا نهاية 2011، وفكّت ارتباطها بتنظيم “القاعدة” عام 2016، نفذت عبر سنوات حملات اعتقال ضد قياديين وعناصر تنظيمات “جهادية” غير منضوية تحت رايتها، وأودعتهم سجونها.
سجون “الزنبقي” و”العقاب” و”حارم” التي تديرها “الهيئة”، صارت تعج بـ”الجهاديين” وقيادات وعناصر تنظيم “القاعدة”، ولا سيما المهاجرين غير السوريين، بتهمة الانتماء لتنظيم “الدولة”، أو من وصفهم الباحث يلماز سعيد بـ”الخوارج ورؤوس الفتنة”، وفق مقال تحليلي نشره معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، في 8 من تشرين الثاني الحالي.
ومع كل استهداف لـ”جهاديين”، أو متزعمي “حركات جهادية”، أو عناصر تنظيمات مصنفة على لوائح “الإرهاب” (“حراس الدين” مثلًا)، أو “جهاديين” مستقلين، تتجه الأنظار نحو “تحرير الشام”، وتُتهم بالوقوف خلف الاستهداف، ومنح معلومات استخباراتية للتحالف الدولي للتخلص من بعض القياديين “الجهاديين”، وتحديدًا الأجانب.
الباحث عبد الرحمن الحاج، أوضح أن “هيئة تحرير الشام” ضيّقت هامش حركة الشبكات “الجهادية” إلى حدود دنيا من خلال جهازها الأمني القوي، وعبر تقديم المعلومات لأطراف دولية، لتصفية قيادات في تنظيم “الدولة الإسلامية” أو تنظيم “القاعدة”، تشكّل خطرًا على “الهيئة” وعلى “الجولاني” شخصيًا.
وفي حين أن معظم “الجهاديين القاعديين” و”الجهاديين السلفيين” مطلوبون لدولهم ودول أخرى في المنطقة وحول العالم، فإن بقاءهم في سوريا تحت مظلة “أبو محمد الجولاني”، ودون أي قدرة على النشاط، اضطراري، وفق الباحث.
هذه الاتهامات عززتها بعض المعطيات، مثل تكرار ظهور “أبو محمد الجولاني”، سواء عبر لقاءات صحفية، أو بين الناس، ومع شخصيات من حكومة “الإنقاذ”، ووجهاء المنطقة، رغم أنه مطلوب للولايات المتحدة، واسم “الجولاني” لا يزال مُدرجًا على قوائم المطلوبين لأمريكا، وبمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه.
وقبل تواتر إطلالات “الجولاني”، كانت “تحرير الشام” غيّرت بشكل ملموس سلوكها، واتخذت إجراءات مكّنتها من إدارة المنطقة عسكريًا واقتصاديًا وخدميًا.
كما أن إقصاء الشبكات “الجهادية” والمقاتلين الأجانب، كان الخطوة الأبرز في مساعٍ لإزالة اسمها من لوائح “الإرهاب”، الأمر الذي يبدو أنه بعيد المنال حاليًا، كون بقاء التصنيف مفيدًا لإخضاع “الهيئة”، ويدفع بتحولات أعمق فيها، طالما أنه لا خيارات أخرى أمام “الجولاني” إلا التماشي مع هذا الدور، وفق الباحث عبد الرحمن الحاج.
تعتبر “هيئة تحرير الشام” اليوم حاجة أمريكية ودولية، لقدرتها على اختراق الشبكات “الجهادية”، وهي الطرف الوحيد حاليًا الذي يمكن الاعتماد عليه لتحقيق ذلك.
الدكتور عبد الرحمن الحاج باحث سوري متخصص في الحركات الدينية |
ولفت الباحث الحاج إلى أن الولايات المتحدة استخدمت هذه الأداة (التصنيف تحت قائمة الإرهاب) مؤخرًا في ردع “الجولاني”، حين طالبت “تحرير الشام” بسحب قواتها من مناطق “الجيش الوطني”، في 18 من تشرين الأول الماضي.
وقالت السفارة الأمريكية في دمشق، عبر “تويتر” حينها، “نشعر بقلق بالغ من التوغل الأخير لـ(هيئة تحرير الشام)، وهي منظمة مصنفة إرهابية، في شمال حلب، يجب سحب قوات (هيئة تحرير الشام) من المنطقة على الفور”.
يصعب معرفة ما إذا كان المقاتلون الأجانب عبئًا أو ورقة ضغط بيد “تحرير الشام”، لكن إذا أرادت محاولة التفاوض مع دول غربية حول مسألة تصنيف “الإرهاب”، فيمكنها استخدامهم.
آرون زيلين الباحث المتخصص في شؤون الجماعات “الجهادية” بمعهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” |
عثرة طريق.. ما مصيرهم؟
بعد سنوات من وجودهم في سوريا، وتغيّر معطيات العمل العسكري ضد النظام السوري وضيق مساحته جغرافيًا، يتشارك المقاتلون الأجانب اليوم في مناطق السيطرة التي تحكمها فصائل معارضة مسلحة سورية، دون تذويب نهائي لحضورهم عبر دمجهم في فصائل القوى المسيطرة، ودون حضورهم في هيئة عسكرية ذات بنية واضحة معترف بها محليًا.
ورغم وجود العديد من الجبهات المشتعلة التي يمكن أن تشكّل “صيدًا” بالنسبة لمقاتلين من هذا النوع، كالجبهة الأوكرانية مثلًا، لا يزال المقاتلون الأجانب، على مستوى الأفراد على الأقل لا القيادات، حاضرين في شمال غربي سوريا، وهي المناطق ذاتها التي تضم المعارضة “الشرعية”، وجماعات المعارضة الأخرى، وفق تصنيف المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، خلال مقابلة أجراها مع قناة “ahaber” التركية، في 18 من تشرين الأول الماضي.
ويشكّل المقاتلون الأجانب في شمال غربي سوريا مثار تساؤلات حول أي اتفاقيات أو تفاهمات سياسية يمكن أن تشهدها المنطقة مستقبلًا، على اعتبار أن الاتفاقات الحالية لم تحسم مصير ومستقبل المنطقة بشكل نهائي، بما فيها اتفاق “خفض التصعيد”، الموقّع في آذار 2020، واتفاقية “أستانة” 2017، و”سوتشي” في أيلول 2018.
وفي السياق نفسه، فإن النظام السوري يعزو استهدافه المناطق الخارجة عن سيطرته (وآخرها القصف الصاروخي على مخيمات نازحين شمالي إدلب، في 6 من تشرين الثاني الحالي)، لقصف مواقعه من تلك المناطق.
ويعني ذلك أن النظام يتذرع بالعمليات التي ينفذونها بشكل منفصل عن فصائل المعارضة المسلحة، ليستهدف المدنيين، دون تصنيف المقاتلين الأجانب بالاسم، كونه يتعامل مع مقاتلي المعارضة على اختلاف مسمياتها في شمال غربي سوريا كـ”إرهابيين”، وفق ما يرد في البيانات الرسمية والتصريحات الصادرة على لسان مسؤوليه.
وفيما يتعلق بالمصالح الدولية من حضورهم في سوريا، ومستقبلهم العسكري، على مستوى الأفراد والجماعات، يرى الصحفي الباحث في الشؤون الإسلامية ياسر بدوي، أن الصراعات السياسية القائمة دوليًا تتعامل معهم كورقة ضغط، مستبعدًا في الوقت نفسه استمرار وجودهم أو بقائهم في سوريا على هذا الشكل.
بدوي أوضح في الوقت نفسه، أن ملف إعادتهم إلى بلدانهم شائك، وتتداخل به الكثير من العوامل الأخلاقية والأمنية، لافتًا إلى احتمالية بقاء من تزوج واندمج منهم في المجتمع ولا يشكّل خطرًا.
“لا بد من إنهاء وجود القادة، أما الأفراد فلهم حسابات أخرى يتداخل فيها ما هو اجتماعي من جهة، وعائلي من جهة أخرى، على اعتبار أن بعضهم بالأساس عرب وتزوجوا في سوريا”.
ومن المفترض أن يكون الحل دوليًا بالمجمل، لتقوم الدول الأم بتسهيل عودة مواطنيها إليها، ضمن تسويات ربما يكون أساسها تسهيل عودتهم ورفع تهم الإرهاب عنهم، طالما أن الاستفادة منهم في أماكن أخرى صعبة نسبيًا لصعوبة حركتهم وغياب تنظيمها، وغياب أي مؤشرات على استفادة من هذا النوع أيضًا.
وبحسب دراسة صادرة عن مركز “جسور للدراسات”، في نيسان الماضي، فإن هناك ستة سيناريوهات لمصير المقاتلين الأجانب في سوريا، أولها دمجهم وتوطينهم، وهو أمر استبعدت الدراسة حصوله في سوريا، لصعوبة دمج مقاتلين من قوميات غير عربية، بسبب الثقافة واللغة.
المحلل العسكري طارق الحاج بكري، استبعد دمج المقاتلين الأجانب في صفوف المعارضة السورية المسلحة، مشيرًا في الوقت نفسه إلى حالات تضييق يتعرضون لها في إدلب.
وقال الحاج بكري لعنب بلدي، أمام أي تسوية في مناطق سيطرة المعارضة بين إدلب وريف حلب، فالمقاتلون الأجانب أمر واقع، ولا يمكن إلا أن يكونوا جزءًا من العملية كأفراد، مع تهميشهم على مستوى القيادات.
الدراسة ذكرت أيضًا أن المقاتلين الأجانب أمام عودة محتملة إلى أوطانهم قائمة على قبول بلدانهم باستعادتهم، واستيعابهم ودمجهم في المجتمعات دون محاكمات.
وهناك احتمال آخر قائم على نشاطهم خارج الحدود ضمن مناطق نزاع جديدة، إلى جانب سيناريو آخر يتحدث عن إبادتهم بشكل جماعي على يد روسيا، في حال رفضهم الحل الذي تسعى لصياغته وإقناع تركيا به.
الاعتقال والأسر ضمن منشأة احتجاز ترعاها وتشرف عليها القوى الدولية، أو منح حق اللجوء السياسي لبعضهم، هي احتمالات أيضًا أوردتها الدراسة، مستبعدة إمكانية تطبيق آخرها في الحالة السورية.
واستندت الدراسة في احتمالاتها وسيناريوهاتها إلى تجارب نزاعات وحروب سابقة جرت في كل من البوسنة والهرسك، وأفغانستان، والعراق، والشيشان، وبريطانيا، وإيران.
أعداد وتأثير أقل
الباحث في مركز “الشرق للدراسات” سعد الشارع، لفت إلى تراجع أعداد المقاتلين الأجانب أو “المهاجرين” في سوريا، منذ طرد تنظيم “الدولة الإسلامية” من شمال غربي سوريا نحو شمالها الشرقي ثم إلى البادية، وإلى العراق أيضًا، مشيرًا أيضًا إلى عدم ظهور تسجيلات جديدة لوصول مقاتلين إلى الشمال السوري.
وأضاف الباحث لعنب بلدي، أن أعداد المقاتلين الأجانب في تناقص، وحضورهم في المشهد العام ضئيل، مقارنة بالسوريين من جهة، وبالأعوام السابقة التي ظهرت خلالها أسماء ذات ثقل لدى الشبكات “الجهادية” من جهة أخرى.
“الأطراف الدولية أمام قضية مركبة، فهي لا تريد بقاء المقاتلين الأجانب في الشمال حتى لا يكونوا عامل ضغط في المنطقة، وهناك إشكالية أيضًا في عودتهم لبلدانهم”.
وتسعى الأطراف الدولية لإبقاء الوضع في الشمال على ما هو عليه، بشرط ألا يكون هناك تأثير أو صوت لـ”المهاجرين”، ومن غير الممكن أصلًا أن يكون هناك تحرك للمقاتلين الأجانب أمام الأوضاع الحالية في المنطقة.
وحول مستقبل وجودهم في سوريا، ركّز سعد الشارع على عدم جدّية الأطراف الدولية بحسم ملف المقاتلين الأجانب، طالما أن الملف السوري ككل لا يزال مفتوحًا، وإن كان حسم هذا الملف تحديدًا ربما يسبق أي تفاهم أو حسم نهائي في سوريا، على اعتبار أن البت في الملف السوري لن يحصل قبل معالجة بعض الملفات المرتبطة، ومنها وجود العناصر الأجانب.
وبالنظر إلى الأمثلة في العراق وأفغانستان، فيمكن أن يتسرب المقاتلون نحو بلد أو بلدان أخرى، وقد يعود بعضهم إلى بلادهم، كالقادمين من أوروبا، أو الخليج، بعد تسوية يجرونها هناك، لكن جزءًا قليلًا منهم يعود للحياة المدنية، كما جرى في أفغانستان.
وإلى جانب هذه الاحتمالات، استبعد الباحث سعد الشارع أي عمليات استقطاب مستقبلية للمقاتلين الأجانب، بسبب ضعف نفوذهم، وضآلة تأثيرهم، لدرجة لا تجعلهم مصدر إغراء لأي طرف، رغم وجود محاولات سابقة من هذا النوع، حين سعى تنظيم “القاعدة” لاستقطاب “حراس الدين”، لكن احتمالية الاستقطاب والتجنيد لعناصر ومقاتلين في الوقت الراهن باتت مستبعدة.
وفي الوقت نفسه، قال المحلل السياسي الروسي ديمتري بريجع، لعنب بلدي، إن السيناريو الأمثل في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب اليوم، هو إبقاء الوضع على ما هو عليه، طالما أن الملف السوري ككل يمر بحالة ركود على أكثر من مستوى.
كيف يعيشون؟
منذ بداية دخول المقاتلين الأجانب إلى سوريا، عملوا ضمن تشكيلات منعزلة عن محيطها، نظرًا إلى غياب تنظيم العمل العسكري في بدايته، ومع توسع رقعة هذا العمل، شهدت الساحة العسكرية اندماجًا بين فصائل محلية وأخرى أجنبية من هذه “الجماعات الجهادية”.
هذا التقارب بين المقاتلين الأجانب ونظرائهم المحليين، أدى بطبيعة الحال إلى ظهور ملامح حالة تشبه اندماج الأجانب بالمجتمع المحلي، على أساس الحالة العقائدية المشتركة بينهم وبين فئة من المجتمع.
الزواج.. غزو أم اندماج
شهدت قرى شمال شرقي وشمال غربي سوريا حالات زواج عديدة لمقاتلين أجانب من نساء سوريات، منها ما استمر، ومنها ما انتهى بظروف وطرق متعددة.
الباحث في علم الاجتماع صفوان قسام، قال لعنب بلدي، إن حالات التقارب بين المقاتلين الأجانب والمجتمع السوري لا يمكن اعتبارها “دمجًا مجتمعيًا”، ولا سيما أنها قسرية في حالات العديد من النساء السوريات، أمام سطوة السلاح من جهة، وهيمنة أيديولوجية للأجانب في بعض المناطق التي استقروا بها من جهة أخرى.
الباحث وصف حالات الزواج تلك بعمليات “الغزو” التي كانت تحصل قديمًا، باعتبار أن رجال القبيلة الغازية كانوا يتزوجون نساء القبيلة التي يغزونها.
وتعتبر الظروف الاقتصادية أيضًا، والبحث عن الأمان، من الأسباب التي دفعت بعض العائلات لقبول زواج بناتها من المقاتلين الأجانب، على اعتبار أنهم “أصحاب سلطة” في مناطقهم، وفق قسام الذي استبعد ربط حالات الزواج بمساعي الاندماج في المجتمع، كونها قد تنتهي بطلاق أو تخلّي الزوج عن عائلته، كما أن حالات زواج كثيرة لمقاتلين “مجهولي النسب”، كانت مع سيدات أرامل أو مطلقات.
ما أثرهم الاجتماعي؟
عام 2014، ومع بداية ظهور المقاتلين الأجانب في سوريا إعلاميًا، قالت “المفوضية السامية لحقوق الإنسان“، إن ازدياد أعداد المقاتلين الأجانب في سوريا سواء لدعم النظام أو المعارضة، يشعل ما وصفته بـ”العنف الطائفي”، مشيرة إلى الإيرانيين واللبنانيين والأفغان الذين يقاتلون إلى جانب قوات النظام من جهة، و”الجهاديين” الأجانب الذين يقاتلون إلى جانب المعارضة من جهة أخرى.
وبطبيعة الحال، فالتغيير الذي أحدثه وجود هؤلاء المقاتلين من الناحية الاجتماعية في سوريا، تغيير سلبي يُضاف إلى العوامل التي حولت القضية السياسية السورية إلى خلاف عقائدي وديني وطائفي، بحسب قسام.
وقاتل هؤلاء المقاتلون في صفوف العديد من فصائل المعارضة، وكان لهم دور في تصنيف بعض الفصائل على قوائم الإرهاب الغربية، مثل “هيئة تحرير الشام”، وتنظيم “جند الأقصى”.
كما شُكّل في بعض المناطق السورية ما يشبه “الحاضنة الشعبية” لهم، نظرًا إلى دورهم في تحقيق “إنجازات” بالمعارك التي خاضتها فصائل المعارضة ضد النظام على مدار السنوات الأخيرة.
إن صعوبة مغادرة مجموعات مسلحة تضم مئات وربما آلاف المقاتلين “مقيّدي الحركة”، دون رعاية رسمية إقليمية أو دولية، فتحت الباب أمام الحديث عن حلول لوجود المقاتلين الأجانب في سوريا، بين مؤيد ورافض لبقائهم.
الباحث الاجتماعي قسام، اعتبر الحديث عن دمجهم في المجتمع خطوة متقدمة نوعًا ما، يجب أن تسبقها مراقبة وتحديد من يمكن دمجه أصلًا، إذ لا يمكن التعامل معهم دون النظر إلى خلفياتهم القتالية ضمن أماكن وأزمنة مختلفة.