يجلس العشرات أمام شاشة التلفاز لتلاحق أعينهم الكرة على أرضية الملعب، يصرخون بحماسة تارة، وبغضب تارة أخرى، بأجواء يمكن أن يصير فيها الخصم صديقًا، والصديق خصمًا.
هذا المشهد الذي يعتبر جزءًا من ذاكرة “عشاق كرة القدم” في مختلف المناطق السورية، تأثّر بالنزاع بطرق مختلفة، اختصر الشاعر محمود درويش جزءًا منها بقوله، “إن أعادوا لك المقاهي القديمة من يعيد لك الرفاق”.
ورغم خصوصية كأس العالم الذي كان يجمع أفراد العائلة كبارًا وصغارًا والأصدقاء، حتى الذين لا يضعون كرة القدم على رأس قائمة أولوياتهم، تحدّ الظروف من قدرة السوريين على تكرار ما عاشوه في كأس العالم قبل النزاع.
وتتوجه أنظار عشاق ومحبي وجماهير كرة القدم إلى بطولة كأس العالم التي ستنطلق صافرة البداية فيها بعد أيام قليلة.
ماضٍ مشترك
“كانت الأعلام تعلّق على شرفات المنازل، والمقاهي تجهز بشاشات عرض كبيرة لنقل هذا الحدث الذي ننتظره جميعًا”، هذه الأجواء التي كان يعيشها مصطفى الحلاق قبيل كأس العالم في مدينة حلب قبل أن يهجّر إلى عفرين، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
ولم يكن يختلف الأمر كثيرًا في دمشق، إذ اعتاد محمد (44 عامًا) التجمع مع أصدقائه في منزل واحد منهم لمشاهدة المباريات، قبل أن يصير “كل حدا منا بديرة”، وفق تعبيره.
وفي ريف اللاذقية، اعتاد السكان وضع شاشة تلفاز في معظم الحارات ليجتمع أهلها ويشاهدوا المباريات معًا، وفق ما قاله عبد الرحمن طالب (27 عامًا) لعنب بلدي.
وفي معظم المحافظات السورية، اعتاد السوريون ضجيج أصوات المشجعين في المقاهي، وبعض الساحات العامة والمنشآت الرياضية التي تُعرض فيها المباريات.
كما كانت القنوات “الأرضية” تنقل المباريات ذات الجماهرية الكبيرة باستخدام “لاقط الإشارة”، بينما يشتري البعض أجهزة خاصة لمتابعة المباريات.
تكاليف مرهقة
في ظل الواقع المعيشي المتدهور في معظم مناطق سوريا، يرى البعض أن متابعة كأس العالم “رفاهية”، في حين يرفض آخرون التخلي عن ذلك ويحاولون العثور على طرق لمتابعة المباريات بأقل التكاليف، بحسب ما رصدته عنب بلدي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
عمار (24 عامًا)، من أهالي تل شهاب في ريف درعا الغربي، قال لعنب بلدي، إن حضور المباريات لن يكون متاحًا بالنسبة له، إذ تنتشر المقاهي التي تعرض المباريات في مركز المحافظة، ما يجعل الوصول إليها مكلفًا ماديًا.
وأضاف عمار أن التحرك في درعا ليلًا غير ممكن خصوصًا بين الريف والمدينة، في ظل حالة الفلتان الأمني التي تعيشها المنطقة.
وتبلغ تكلفة اشتراك تطبيق “IPTV” لفتح القنوات المشفرة في مناطق سيطرة النظام حوالي 7500 ليرة شهريًا (1.5 دولار أمريكي)، شرط أن تكون شاشة التلفاز “ذكية” (سمارت).
بينما يضطر أصحاب الشاشات “غير الذكية” إلى شراء جهاز إضافي “TV BOX MXQ PRO” بحوالي 300 ألف ليرة (حوالي 57 دولارًا).
ويبلغ متوسط الرواتب الشهري للموظفين في سوريا (في القطاع الخاص والعام) حوالي 149 ألف ليرة سورية (37 دولارًا أمريكيًا)، بحسب موقع “SalaryExplorer”.
وفي القامشلي، اشتكى سليم حسين (39 عامًا) من ارتفاع أسعار “IPTV” الذي يؤمّن عرض المباريات مقابل اشتراك يتراوح بين 30 و40 دولارًا سنويًا.
بينما اختار يوسف (19 عامًا)، وهو أحد أهالي القامشلي، أن يتابع المباريات الأساسية في المقاهي، وفق ما قاله لعنب بلدي، مضيفًا أن تكلفة زيارة المقاهي “لا تُحتمل”.
وتبدأ رواتب العاملين في “الإدارة الذاتية” بـ360 ألف ليرة سورية (70 دولارًا أمريكيًا)، وتصل حتى 900 ألف ليرة سورية (200 دولار) تبعًا للمؤسسة التي يعمل فيها الموظف أو المنصب أو الشهادة التي يحملها.
ويعيش أهالي شمال غربي سوريا واقعًا مشابهًا، إذ يتراوح سعر الاشتراك الشهري بين 15 و25 دولارًا سنويًا.
في حين يبلغ الحد الأدنى للأجور لعمال المياومة (على اعتبار أن نسبة 85% من العاملين في شمال غربي سوريا هم من الفئة المذكورة) 60 ليرة تركية (3.22 دولار أمريكي).
وبحسب استطلاع رأي أجرته عنب بلدي في شمال غربي سوريا شمل حوالي 15 شخصًا، اتفق معظمهم على مشاهدة المباريات الأكثر جماهيرية في المقاهي، تجنبًا لدفع الاشتراكات، ولخلق أجواء مشابهة لما اعتادوه سابقًا.
ولا يعتبر نقل المباريات عبر تطبيق “IPTV” قانونيًا، إذ ينتهك حقوق الملكية للمباريات من خلال قرصنة قنوات “beIN” بوسائل غير قانونية، ما يفرض خسائر على مجموعة “beIN” الإعلامية المختصة بنقل الأحداث الرياضية حول العالم.
انقطاع الكهرباء عائق
تشهد مناطق سيرة النظام ترديًا في وضع الكهرباء، ما يجعل الاشتراك بـ”IPTV” وغيرها غير مجدٍ في كثير من الأحيان.
وقال الشاب علي (27 عامًا)، وهو أحد أهالي درعا، إن مشاهدة المباريات على شاشة التلفاز تحقق متعة أكبر من شاشة الهاتف، لكنّ انقطاع الكهرباء المستمر يمنعه من ذلك.
وأضاف أن متابعته لكأس العالم هذا العام ستقتصر على التصفيات والبطولات فقط، مشيرًا إلى أنه سيتابعها على شاشة هاتفه.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتجنب معظم الموجودين في مناطق سيطرة النظام الاشتراك بالخدمات التي يتطلب تفعيلها توفر الكهرباء بشكل دائم، ويعتبرونها هدرًا للمال، ما يدفعهم لمشاهدة المباريات ذات الجماهيرية الكبيرة في المقاهي.
“طقوس المونديال” ما زالت مهمة
بحسب ما رصدته عنب بلدي، أعلنت العديد من المقاهي في مختلف مناطق السيطرة عن عروض لعشاق الكرة في محاولة للحفاظ على “طقوس المونديال”.
كما افتُتحت بعض المقاهي في المناطق التي دمر القصف الوجهات الترفيهية فيها، بينها الغوطة الشرقية.
وتعتبر المقاهي الخيار الأفضل لمتابعة المباريات، باعتبارها لن تتأثر بانقطاع التيار الكهربائي خاصة في مناطق سيطرة النظام.
وفي كأس العالم 2014 و2018، عملت وزارة السياحة وشركة “MTN” على نقل بعض المباريات عبر شاشات في الأماكن العامة بمختلف المحافظات السورية، بينما لم يتم الإعلان عن عرض مشابه حتى لحظة نشر هذا التقرير.
ويعتمد بعض السوريين على مشاهدة المباريات عبر الهاتف المحمول من خلال مواقع البث المباشر التي تنقل المباريات بطريقة “غير قانونية”، ولا تشترط سوى وجود اتصال جيد بالإنترنت.
كما سيعتمد بعض سكان مناطق شمال شرقي سوريا على مشاهدة المباريات عبر القمر التركي كبديل عن الاشتراكات المكلفة، بحسب ما أفاد به مراسل عنب بلدي في المنطقة.
وتنطلق بطولة كأس العالم بنسختها الـ22 بمشاركة 32 منتخبًا من قارات العالم، في 20 من تشرين الثاني الحالي، في قطر، وتعتبر البطولة الأولى من نوعها في تاريخ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية.
–