حسام المحمود | حسن إبراهيم | جنى العيسى
“كيف لعائلة فيها أربعة مطلوبين للخدمة العسكرية، وشاركوا في بداية الثورة بمظاهرات ضد النظام، التفكير بالعودة من لبنان إلى سوريا”.
هكذا يلخّص الشاب السوري محمد (33 عامًا) نظرته لخطة “العودة الطوعية” التي وضعتها السلطات اللبنانية قيد التنفيذ.
يقيم الشاب مع عائلته في لبنان منذ ثماني سنوات، ورغم رفضه للعودة، لا ينكر خوفه على نفسه وعائلته، فأوراق الإقامة لدى بعضهم منتهية الصلاحية، واستخراجها عالي التكلفة، إضافة إلى القلق مما قد تقدم عليه السلطات اللبنانية في هذا الصدد.
مخاوف محمد يشترك بها مختلف السوريين في لبنان، على اعتبار أن الخطة لم تحدد فئة مستهدفة دون غيرها، أو جدولًا زمنيًا لتطبيقها، فاتحة الباب لمضاعفة غياب الاستقرار لدى السوريين على أكثر من منحى.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف خطة “العودة الطوعية” للاجئين السوريين، التي بدأت السلطات اللبنانية تنفيذها، ووجهة النظر القانونية منها، والظروف المحيطة بها.
كما تبحث مع مجموعة من الحقوقيين والمختصين، مدى إمكانية تطبيق الخطة أو عدمها، وفق القانون الدولي، والفائدة المحتملة للنظام السوري، والانعكاسات الاقتصادية لـ”العودة”.
ما مضمون الخطة؟
بدأت السلطات اللبنانية، في 26 من تشرين الأول الماضي، تطبيق خطة “العودة الطوعية” التي جرى الحديث عنها قبل أشهر، مفتتحة العملية بإعادة 100 عائلة سورية، ضمن قافلة موزعة على ثلاثة معابر برية حدودية مع سوريا، في حمص ودمشق.
وذكرت حينها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، أن دفعة من “المهجرين” السوريين وصلت من المخيمات اللبنانية، فيما وصفه وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني، هكتور حجار، بأنه “يوم وطني بامتياز” بالنسبة للبنان، مشددًا في الوقت نفسه على مواصلة تطبيق الخطة وإرسال دفعات أخرى بقوله، “العودة ثم العودة”.
وفي اليوم نفسه، ذكر الموقع الرسمي لـ”الأمن العام اللبناني“، أن 511 “نازحًا” عادوا من لبنان، 12 منهم عبر مركز “المصنع” الحدودي، و12 “نازحًا” من أصل 13 عبر مركز “العبودية”، و487 “نازحًا” من أصل 726 عبر معبر “الزمراني”.
وذكر “الأمن العام” أن هذا الفارق في عدد العائدين يؤكد أن العودة “طوعية” بامتياز.
وكان وزير المهجرين اللبناني، عصام شرف الدين، أكد خلال اتصال مرئي مع قناة “الجديد” اللبنانية، في 21 من تشرين الأول الماضي، أن ملف عودة اللاجئين السوريين بيد مدير الأمن العام اللبناني، عباس إبراهيم، بينما يتولى هو المساعدة وتزويد الأمن العام بلوائح تتضمن أسماء “المهجرين”.
كما أشار إلى ضرورة التنسيق وتقديم الأسماء على شكل لوائح لوزارة الداخلية، ولـ”الأمن القومي” لدى النظام السوري، حتى لا يحدث تأخير والتباس بالأسماء.
شبح هذه الخطة بدأ بالتخييم على اللاجئين في لبنان بشكل واضح، حين أعلن عنها وزير المهجرين اللبناني، في 4 من تموز الماضي، خلال زيارته إلى قصر “بعبدا”، ولقائه الرئيس اللبناني السابق، ميشال عون.
ونصت الخطة صراحة على إعادة 15 ألف لاجئ سوري من لبنان شهريًا.
كما سبق الإعلان بنحو أسبوعين، دعوة رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، في 20 من حزيران الماضي، المجتمع الدولي للتعاون مع لبنان لإعادة اللاجئين السوريين، مهددًا باتخاذ موقف “لن يكون مستحبًا لدى الغرب”، وهو العمل على إخراجهم بما وصفها بـ”الطرق القانونية”، عبر تطبيق القوانين اللبنانية بـ”حزم”.
وفي 13 من تموز الماضي، أكد الرئيس اللبناني السابق رفض بلاده “لما صدر عن بعض الدول” حول توجه لدمج اللاجئين السوريين في المجتمعات التي تستضيفهم.
وكان بطريرك الكنيسة المارونية في لبنان، بشارة الراعي، حذّر، في 11 من أيلول الماضي، السوريين في لبنان من أخطار “حرب ثانية” يفرضونها على أنفسهم، ما لم يعودوا إلى بلادهم.
كما كشف الراعي خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة “الجديد” اللبنانية، عن محاولته إقناع بابا الفاتيكان بضرورة إخراج السوريين من لبنان.
هذه التصريحات التي خلقت مناخًا نفسيًا قرّب “العودة” وبدأها قبل تنفيذها، أعاد تأكيدها، في 12 من تشرين الأول الماضي، الرئيس اللبناني السابق، معلنًا بدء تنفيذ عملية إعادة اللاجئين السوريين خلال أيام.
وبالنظر إلى السياق الزمني لبدء تنفيذ “العودة”، فقد جاءت في الوقت “بدل الضائع”، قبيل انتهاء ولاية ميشال عون الرئاسية بأيام، وبعد محاولات تكثيف النشاط السياسي لعون بأيامه الأخيرة في سبيل ترك بصمة إيجابية في ولايته الحافلة بالأزمات.
وفي تشرين الأول الماضي فقط، آخر شهر في ولاية عون، أنجز لبنان اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وحاول الانخراط في مفاوضات مباشرة مع النظام السوري لترسيم مماثل، وفتح الباب لإعادة اللاجئين السوريين.
وقبل بدء التنفيذ بيوم واحد فقط، وخلال مؤتمر صحفي عقده، في 25 من تشرين الأول، اعتبر مدير الأمن العام اللبناني أن إعادة اللاجئين السوريين إلى أرضهم “واجب وطني”.
تحذيرات من “العودة”
أصدرت منظمات حقوقية وإنسانية، دولية ومحلية، على مدار السنوات الماضية، وبشكل متكرر، بيانات وتقارير توضح بالأرقام والمعطيات واستنادًا إلى واقع البلاد، أن سوريا غير آمنة للعودة.
وفي ظل الحديث عن “العودة الطوعية”، وتصاعد الخطاب السياسي بهذا الاتجاه، مستندًا إلى محاولة خلق استمالات شعبية، تجدد المنظمات باستمرار تأكيدها أن الأوضاع في سوريا لا تشجع على العودة، ولا تنسجم مع مفهوم “العودة الطوعية”، بما يضمن حقوق الإنسان وأمنه وكرامته، نظرًا إلى الحالة الأمنية المعقدة في مختلف مناطق سوريا.
وفي تقريرها الصادر في 6 من تموز الماضي، وصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” ما يعتبره لبنان “عودة طوعية”، بـ”الإعادة القسرية” للاجئين السوريين، في إشارة إلى خطة إعادة 15 ألف لاجئ شهريًا.
كما شددت المنظمة على أن هذه الخطوة تعتبر انتهاكًا لالتزامات لبنان بعدم إعادة اللاجئين قسرًا إلى بلدان يواجهون فيها خطرًا واضحًا، بالتعرض للتعذيب أو غيره من أشكال الاضطهاد.
وفي الوقت نفسه، فإن لبنان ملزم بمبدأ عدم الإعادة القسرية، وفق “القانون الدولي العرفي”، بصفته طرفًا في اتفاقية “مناهضة التعذيب والعقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، بحسب التقرير.
وفي السياق نفسه، تربط منظمة العفو الدولية السياسات “الجائرة” للحكومة اللبنانية، في كثير من الحالات، بدوافع مغادرة البلاد، وفي هذه الحالات، لا يمكن اعتبار موافقة اللاجئ على العودة إلى الوطن طوعية.
ووفق بيان نشرته المنظمة، في 14 من تشرين الأول الماضي، فإن اللاجئين السوريين ليسوا في وضع يسمح لهم باتخاذ قرار حر ومستنير حيال عودتهم، بسبب السياسات الحكومية التقييدية بشأن التنقل والإقامة، وتفشي التمييز، وعدم الوصول إلى الخدمات الأساسية، إلى جانب عدم توفر معلومات موضوعية ومحدثة حول الوضع الحالي لحقوق الإنسان في سوريا.
ظروف سيئة في البلدين
يعاني لبنان أيضًا جملة ظروف اقتصادية واجتماعية لا تجعل بقاء اللاجئين فيه خيارًا مثاليًا، وإن كان موضع تفضيل بالنسبة للاجئ على المستوى الأمني المرتبط بالخوف من الملاحقة والتعرض للاعتقال والتعذيب في سوريا.
وكانت حادثة غرق أكثر من 100 شخص، من جنسيات سورية ولبنانية وفلسطينية، في زورق انطلق من السواحل اللبنانية، مثالًا واضحًا على تشابه الظروف التي يعيشها السوريون واللبنانيون أيضًا، لكن تردي الواقع الاقتصادي في لبنان شكّل تيارات حمّلت اللاجئين مغبة تفاقم الأزمة الاقتصادية التي جاءت بعض عواملها غير مرتبطة باللاجئين، كأزمة المصارف اللبنانية مثلًا، لكن أزمة الخبز التي شهدها لبنان قبل فترة، وأوقفت الأهالي في طوابير طويلة بانتظار الرغيف، دفعت للمطالبة باتباع نظام الأولويات، وتفضيل اللبناني على السوري في هذا السياق.
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، اعتبر عودة اللاجئين السوريين من لبنان “غير آمنة وغير طوعية”، لأن التضييق عليهم ضمن مناطق إقامتهم شكل من أشكال “الإعادة القسرية”.
وقال عبد الغني لعنب بلدي، إن السلطات اللبنانية مارست هذا التضييق عبر السنوات الماضية، من خلال تصريحات عنصرية وقرارات حكومية حملت تمييزًا عنصريًا تجاه السوريين، وغيرها من الإجراءات كعرقلة منح الإقامات للعمل، ما يعوق حركة العائلات والانخراط في الحياة.
ولفت مدير الشبكة الحقوقية إلى أن هذه الإجراءات تعقّد حياة اللاجئ، لدرجة تدفعه للعودة إلى بلده، بما لا يندرج في إطار “العودة الطوعية”، محمّلًا السلطات اللبنانية مسؤولية تعرض أي شخص من العائدين لانتهاكات، ولا سيما مع توثيق “الشبكة” مئات الحالات منها.
هذا الرأي يتفق معه أيضًا المدير التنفيذي لمؤسسة “لايف” اللبنانية، المحامي المختص في العلاقات الدولية نبيل الحلبي، الذي يرى أن الخطة بتوصيفها الدقيق ليست عودة طوعية لأي لاجئ، موضحًا أن السلطات اللبنانية عملت بشكل ممنهج على اضطهاد مجتمع اللاجئين تحت عناوين مختلفة، بدءًا من اتهامهم بـ”الإرهاب”، وصولًا إلى تحميلهم مسؤولية الأزمة المالية.
وقال الحلبي، إن “السلطات اللبنانية تستمر بقطع شرايين الحياة عن اللاجئين، وابتزاز المجتمع الدولي من خلالهم، أملًا في اختيارهم الجحيم السوري هربًا من الجحيم اللبناني”.
وأضاف الحلبي لعنب بلدي، أن “اضطهاد” السلطات اللبنانية دفع بالعديد من اللاجئين إلى العودة، بعد تهديدهم وتحويلهم إلى حالة قانونية هشة، يسهل احتجازها، ويصعب أن تمارس حياتها اليومية بشكل طبيعي.
السلطات اللبنانية تستمر بقطع شرايين الحياة عن اللاجئين، وابتزاز المجتمع الدولي من خلالهم، أملًا في اختيارهم الجحيم السوري هربًا من الجحيم اللبناني.
المحامي نبيل الحلبي، المدير التنفيذي لمؤسسة “لايف” اللبنانية |
وجهة نظر أوروبية.. ما رأي المفوضية
المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، لويس ميغيل بوينو، أوضح لعنب بلدي في أول تعليق للاتحاد بعد بدء تنفيذ الخطة، أن عملية “العودة الطوعية” تنفذ باطلاع من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي هي الجهة المسؤولة دوليًا عن متابعة هذا الأمر.
وخلال مكالمة هاتفية عبر تطبيق “واتساب”، ركّز بوينو على أن الموقف الأوروبي من عودة اللاجئين السوريين لم يتغير، ويربط العودة بالظروف المناسبة والمواتية التي تحفظ كرامة الإنسان، بموجب القانون الدولي، وتقييم الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها.
ووفق المتحدث، فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال يرى أن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وسوريا عمومًا، غير آمنة لعودة اللاجئين، ولو حدث الأمر في بلد أوروبي، فالاتحاد سيؤكد موقفه بأن سوريا غير مواتية للعودة، وهناك إجماع على هذا الأمر.
ندعم العمل الأممي وعمل المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإنسانية في سوريا، وأي ضمانات لعودة اللاجئين من المفترض أن تكون أممية، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي لا يعتمد حديث النظام السوري عن الضمانات المتعلقة بالعودة.
لويس ميغيل بوينو، المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي |
بيونو أكد أن اللاعب الأساسي في مسألة العودة هو الأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين، وبطبيعة الحال، فإن الاتحاد الأوروبي يعتمد على التقييمات الأممية بهذا الصدد.
وتابع المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، “ندعم العمل الأممي وعمل المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإنسانية في سوريا، وأي ضمانات لعودة اللاجئين من المفترض أن تكون أممية، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي لا يعتمد حديث النظام السوري عن الضمانات المتعلقة بالعودة”.
من جانبها، أكدت المتحدثة الرسمية لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان، نادين مظلوم، أن بعض العائلات أخبرت المفوضية باتخاذها قرار العودة، كجزء من حركة العودة “الميسّرة” من قبل “الأمن العام”، ولم تتمكن المفوضية من التحدث إلى جميع العائدين، لكن سبق أن أشار معظمهم إلى رغبته بالعودة.
وأوضحت مظلوم لعنب بلدي، أن رغبة السوريين بالعودة تعتمد على مجموعة عوامل، بحسب أقوالهم للمفوضية، فمعظمهم ما زالوا قلقين بشأن السلامة والأمن، والمسكن، وإمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية، وسبل كسب العيش.
وبيّنت مظلوم أن العودة “الميسّرة” من قبل “المديرية العامة للأمن العام”، ليست عملية تابعة للمفوضية التي تحترم قرارات اللاجئين.
وذكرت المتحدثة أن المفوضية تقدّم، من بين جهات أخرى، المشورة للاجئين، حين يتاح ذلك، وأن المفوضية معنية بالحماية والمساعدة، سواء كان “اللاجئون يعودون بطريقة ميسّرة أم لا”.
لا اسم أو رقم ثابت.. مغالطات
تتضارب الأرقام والمصطلحات عند الحديث عن ملف اللاجئين السوريين في لبنان، إذ لا أرضية واضحة ومفصّلة يستند إليها المسؤولون اللبنانيون في هذا الصدد، ما جعل عدد السوريين في لبنان بين ثلاث إحصائيات متفاوتة، دون الاتفاق حتى على مسمّى وجودهم المتواصل منذ سنوات، حتى لا يجد لبنان نفسه أمام التزامات إضافية تجاههم.
وخلال تشرين الأول الماضي، قدّم مدير الأمن العام اللبناني، عباس إبراهيم، أحدث أعداد السوريين في لبنان وأضخمها في الوقت نفسه.
وبحسب إبراهيم، يوجد في لبنان مليونان و80 ألف “نازح” سوري، وهو عدد بعيد عن الذي طرحه الرئيس اللبناني السابق أيضًا.
وبينما تحدث عون خلال لقائه نائبة المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا، نجاة رشدي، في 13 من تموز الماضي، عن 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان، أحصى تقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في 20 من تشرين الأول 2021، وجود نحو 852 ألف لاجئ سوري فقط في لبنان.
وباعتبار أن لبنان غير موقع على اتفاقية 1951، الخاصة بوضع اللاجئين، يسمّي المسؤولون اللبنانيون خلال تصريحاتهم السوريين في لبنان بـ”النازحين”، رغم تعارض التسمية مع واقع التصنيف الأممي، الذي يميز بين النزوح واللجوء، باجتياز أو عدم اجتياز الحدود.
وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فـ”النازحون داخليًا على عكس اللاجئين، هم أشخاص لم يعبروا حدودًا دولية بحثًا عن الأمان، ولكنهم بقوا مهجرين داخل أوطانهم”.
وتضيف المفوضية أن النازحين داخليًا يبقون ضمن بلدانهم وفي حماية حكوماتهم، حتى وإن كانت تلك الحكومات السبب في نزوحهم.
أما وسائل الإعلام السورية الرسمية، فلا تستعمل أيضًا صيغة موحدة عند الحديث عن اللاجئين السوريين، إذ ذكرت الوكالة السورية للأنباء (سانا) في خبر عودة العائلات السورية من لبنان، في 26 من تشرين الأول الماضي، صفتي اللجوء والنزوح للحديث عن الفئة ذاتها.
وجاء في نص الوكالة، “عادت اليوم عشرات الأسر المهجرة القاطنة بمخيمات اللجوء في لبنان”، كما أن التصريحات الرسمية والمؤتمرات التي يعقدها النظام تستخدم مصطلح “اللاجئين”.
ورغم التقارير والتصريحات والأرقام التي تعكس واقع الحال في سوريا، وتأكيد العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، خلال جلسة مجلس الأمن المنعقدة في 29 من حزيران الماضي، أن الظروف في سوريا غير مواتية، ولا تتناسب مع عودة كريمة وآمنة للاجئين السوريين، قال السفير السوري السابق في لبنان، علي عبد الكريم علي، “إن السوريين يريدون العودة، وهم في سوريا بأمان أكثر مما هم في لبنان”.
القانون يمنع.. “آلة القتل” موجودة
الاعتقال التعسفي والتعذيب، ومختلف أنواع المعاملة غير اللائقة والانتهاكات، كلّها مخاوف تهدد اللاجئ السوري حال عودته من لبنان، وفق ما جاء في “ورقة تقدير موقف” أصدرها مركز “وصول” لحقوق الإنسان، اللبناني الفرنسي، في 25 من تشرين الأول الماضي.
كما أشار المركز إلى الضغط على اللاجئين للتوقيع على تصريحات بالموافقة على “العودة الطوعية”، بما يتعارض مع مبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في المادة رقم “3” من اتفاقية “مناهضة التعذيب”، التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1984، ولبنان طرف فيها، لافتًا في الوقت نفسه إلى غياب أي ضمانات لعودة السوريين إلى مناطقهم الأصلية، وانعدام التنسيق لتأمين احتياجاتهم للحصول على الوثائق المدنية لإثبات حقوقهم العقارية.
وتقر المادة “14” من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بحق كل فرد حق في التماس ملجأ في بلد آخر والتمتع به خلاصًا من الاضطهاد، وبالتالي لا يحق للسلطات اللبنانية دفع اللاجئين للعودة إلى حيث جرى “اضطهادهم والتنكيل بهم”، وفق المحامي نبيل الحلبي، الذي دعا إلى التمييز بين اللاجئ إلى لبنان خوفًا على حياته بعد تهجيره من منزله، والمهاجر الاقتصادي القادر على التنقل بين لبنان وسوريا.
وأوضح أن المهاجر الاقتصادي، ومن انتخب بشار الأسد من السوريين في لبنان، لا يمكن تصنيفهم كلاجئين.
وجود النظام السوري يتناقض مع العودة الطوعية والآمنة، وطالما أن هذا النظام موجود، فاللاجئون العائدون إلى سوريا عرضة للانتهاكات.
فضل عبد الغني، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” |
العودة “تضغط” النظام.. تصطدم بـ”معوقات”
في ظل فقر “مدقع” يعيشه اللاجئون السوريون في لبنان، ينتقل بعضهم إلى مناطق سيطرة النظام التي تعاني تدهورًا اقتصاديًا ومعيشيًا، يترافق مع مستويات تضخم غير مسبوقة تؤثر في حصولهم على المواد الأساسية والغذائية، وسط توجه حكومي لإعادة هيكلة “الدعم”.
الظروف الأمنية أو الاقتصادية ليست الوحيدة التي ستشكل هاجسًا للاجئين العائدين، بعد غياب نحو عشر سنوات عن مدنهم ومجتمعهم المحيط الذي غادروه في ظروف مختلفة عن الحالية، على عدة مستويات.
ورغم ذلك، يظهر النظام بموقف “الراغب بعودة اللاجئين، والساعي لتسهيل وصولهم”، بينما يفكر نحو 68% من سكان المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام، و48% من سكان المناطق التي هي أصلًا تحت سيطرة النظام، بالهجرة خارج سوريا، ما يثير التساؤلات حول رغبة النظام “الفعلية” بعودة اللاجئين، ومدى إمكانية ضمان حصولهم على الأمن والخدمات التي يروّج لها، وسط عدم حصول المقيمين أساسًا في مناطقه على تلك الخدمات.
النظام “يرحب”.. لماذا
قبل ساعات من عودة الدفعة الأولى من اللاجئين، انتظرت وسائل الإعلام السورية الرسمية قرب المعابر الحدودية، كما أعلنت وزارة الصحة “استنفار كوادرها” لإجراء كامل الفحوص الطبية اللازمة، وتقديم الخدمات الصحية لهم، في محاولة لتصوير المشهد على أنه انتصار وترسيخ لشعار “سوريا آمنة”.
وفي عدة مناسبات سابقة، أبدى النظام رغبته بـ”عودة اللاجئين إلى مناطقهم التي انتصر فيها على الإرهاب”، ما فسره الباحث الاقتصادي زكي محشي، بأنه لا يتعدى كونه ورقة سياسية وأمنية، بالإضافة إلى استخدام النازحين داخليًا للحصول على مزيد من الأموال باسم “عودة اللاجئين”، دون اهتمامه أساسًا بحصولهم على هذه الأموال من عدمه.
وقال محشي لعنب بلدي، إن النظام ينفذ ما يستفيد هو منه، لا ما يستفيد منه الناس، وإذا كان في عمله فائدة جزئية للناس، فذلك في سبيل استدامة سلطته، وليس الغرض مصلحة الشعب.
الاتحاد الأوروبي “يقظ”
وحول مسألة دعم اللاجئين السوريين العائدين من لبنان، قال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، لويس ميغيل بوينو، لعنب بلدي، إن الاتحاد الأوروبي يركّز على دعم السوريين ضمن مناطق سورية مختلفة، بالتعاون مع المنظمات الأممية والإنسانية المنفذة لهذه المشاريع، لافتًا إلى احتمالية زيادة نسبة الدعم ربما في الأشهر المقبلة، وقد يحدث ذلك من خلال مؤتمر “بروكسل”.
حديث بوينو جاء على خلفية مقترح السفير السوري السابق في لبنان قبيل مغادرته منصبه، حين اعتبر أن المساعدات التي تقدم للسوريين في لبنان يمكن أن تكون تشجيعًا، وتمنح أضعاف قوتها إذا حصلوا عليها داخل سوريا، وفق الوكالة “الوطنية للإعلام“ في لبنان.
لدينا ما يكفي من الأدوات للتأكد من وصول الأموال إلى المشاريع التي تدعم السوريين، وهناك مباحثات متواصلة مع المنظمات والوكالات الأممية، لمتابعة تنفيذ المشاريع كما يجب.
لويس ميغيل بوينو، المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي |
وردًا على سؤاله حول مخاوف محتملة لدى الاتحاد الأوروبي (كطرف مانح) من استفادة النظام من الدعم، ركّز المتحدث على أن الشريك الأساسي للاتحاد الأوروبي في هذا الإطار هو الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في سوريا.
وأضاف بوينو، “لدينا ما يكفي من الأدوات للتأكد من وصول الأموال إلى المشاريع التي تدعم السوريين، وهناك مباحثات متواصلة مع المنظمات والوكالات الأممية، لمتابعة تنفيذ المشاريع كما يجب”.
“قد لا تُنفذ”
أكد الأستاذ المُنتسِب في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا بإيطاليا، والمشارك في مشروع “زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا”، الدكتور جوزيف ضاهر، أن اللاجئين السوريين يمثّلون تحديًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا للنظام السوري.
وأضاف ضاهر لعنب بلدي، أن عودة اللاجئين نقطة خلاف منذ سنوات طويلة بين الحكومة اللبنانية والنظام، فالأخير رافض لعودتهم، لكنه لا يمانع عودة أعداد صغيرة أو “رمزية” للغاية.
وخلال السنوات الأخيرة، صوّر السياسيون اللبنانيون اللاجئين السوريين في لبنان كمسبب للمشكلات الاقتصادية وما يعانيه المواطن اللبناني، رغم حصول لبنان على حصة من الدعم الدولي والأممي، باعتباره بلدًا مضيفًا للاجئين.
هذه الحالة فسرها ضاهر بأنها وسيلة للإفلات من الالتزامات الاقتصادية الحقيقية الملقاة على عاتق السياسيين، مؤكدًا أن الواقع الاقتصادي في لبنان لا يرتبط باللاجئين، بل باقتصاد البلاد السياسي.
ويتطلب تنفيذ الخطة اللبنانية قدرات تفتقر إليها الدولة اللبنانية، وفق ضاهر، ما يشير إلى احتمالية تلخيص القضية بأنها حملة سياسية لإلقاء اللوم على اللاجئين في الأزمة الاقتصادية.
عودة “غير طبيعية”.. عوامل تعززها
خلال السنوات الأخيرة، ازدادت شدة الأزمات الاقتصادية والمعيشية في عموم سوريا، وخاصة في مناطق سيطرة النظام، إذ ارتبطت بعدة عوامل، منها البطالة وضعف الأجور، وتدهور الليرة السورية، وضعف القوة الشرائية لدى الناس بسبب ارتفاع الأسعار بطريقة غير مسبوقة، ما سبب عجزًا لدى المواطنين في تأمين أبسط احتياجاتهم اليومية، مقارنة بالسنوات السابقة.
وفي دراسة أجراها “منتدى أصوات لأجل المهجرين السوريين” نُشرت في تشرين الثاني 2021، أظهرت الإحصائيات أن 69% من السكان المقيمين في مناطق النظام لم يحصلوا على الكهرباء أو التدفئة بشكل مناسب ومنتظم، خلال 2021، كما أن 54% منهم لم يحصلوا بشكل منتظم وكافٍ على مياه الشرب الصحية، و29% قالوا إنهم لا يملكون وصولًا منتظمًا إلى الخدمات الصحية، إلى جانب 13% قالوا إنهم لا يملكون وصولًا منتظمًا إلى التعليم.
الباحث الاقتصادي زكي محشي قال لعنب بلدي، إن ظروف العودة الحالية ترتبط بعدة عوامل تعوق عودة “طبيعية” للاجئين.
وأوضح محشي أن من أبرز معوقات العودة، اللاجئ نفسه، الذي يقتنع تمامًا بأن الظروف غير مواتية لعودته إلى سوريا، على المستوى الاقتصادي والمعيشي، في ظل غياب فرص العمل، أو البنية التحتية السليمة، ونقص السلع والخدمات الرئيسة، وتدهور قيمة العملة المحلية، وانخفاض مستوى الأجور، وعجز الحكومة عن توفير الدعم.
بينما يتمثّل العامل الاجتماعي، بحسب الباحث، بفقدان تواصل اللاجئ مع المجتمع المحيط، الذي غادره قبل سنوات، ويعود إليه “غريبًا” ينافس أفراده على عملهم ولقمة عيشهم التي بالكاد يحصلون عليها، ما قد يخلق شرخًا اجتماعيًا أو يزيد من الشرخ الاجتماعي الموجود أساسًا بين بعض الفئات حاليًا.
وتشكّل هذه العودة من وجهة نظر مؤسساتية حاكمة في سوريا، أي وجهة نظر أمنية، “حالة رعب” للنظام، إذ سيكون مضطرًا للتعامل مع هذا اللاجئ وفق رؤيته بأنه “معارض وخارج عن طوعه”، في ظل عدم وجود الإمكانيات البشرية أو المادية لديه للتحكم بجميع العائدين.
عدد العائدين هو “الفصل”
وفي ظل هذه الظروف، يرى الدكتور جوزيف ضاهر أن الأثر الاقتصادي لعودة اللاجئين من لبنان إلى سوريا، يعتمد على عدد العائدين، بالإضافة إلى الظروف التي قد تختلف من منطقة إلى أخرى.
وأوضح ضاهر أنه في حال عودة عدد “هائل” من اللاجئين، فإن هذا سيعزز الضغوط على القطاعات الاقتصادية، ولا سيما إيجارات المساكن، وسوق العمل، وبدرجة أقل، أسعار السلع والمواد الأساسية المرتبطة بتكلفة الإنتاج.
ومنذ شباط الماضي، تتبع حكومة النظام سياسة استثناء المواطنين من “الدعم الحكومي”، ورفعه تدريجيًا عن فئات محددة، ما يدفعهم لشراء المواد الأساسية، كالخبز، من السوق السوداء، بأسعار تصل إلى عشرة أضعاف سعرها “المدعوم”.
وبحسب الإحصائيات الصادرة عن حكومة النظام السوري، فإنها استبعدت من الدعم، في شباط الماضي، نحو 600 ألف أسرة، أي نحو 15% من حاملي “البطاقة الذكية”.
كما أن تدهور الوضع الاقتصادي كان أحد العوامل المهمة إلى جانب جائحة “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، التي كان من المرجح أن تتسبب بخفض أعداد اللاجئين الراغبين بالعودة إلى سوريا “طوعًا”، وفق دراسة صادرة عن “مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط”، في آذار 2021، حول “استخدام كل من لبنان وسوريا ملف عودة السوريين لترقية أجنداتهما الاقتصادية والسياسية الخاصة“.