هنا لندن
إبراهيم العلوش
أغلقت هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي في الإذاعة، بعد أكثر من 80 عامًا من النشاط الإعلامي الذي زيّن ذاكرة الأجيال العربية، وحصّنها ضد التزييف الإعلامي، الذي تمارسه أجهزة السلطات العربية بكل ما تتسم به من تزوير.
إذاعة “لندن” (بي بي سي) بدأت البث باللغة العربية عام 1938، وصدر قرار اعتزام إغلاقها بداية تشرين الأول الحالي، وبثّت عبر الراديو الضخم، وعبر راديو “الترانزستور” الصغير، وعبر راديو الإنترنت، واشتهرت بصوت “بيغ بن” عند تمام الساعة، وبصوت عبد الباسط عبد الصمد وهو يفتتح الإذاعة كل صباح بآيات قرآنية، وببرامجها أمثال “قول على قول”، و”الواحة”، وتمثيلياتها الإذاعية التي استعادت المسرحيات الشكسبيرية والأدب العالمي، وبالتمثيليات الشعبية وأشهرها التمثيلية السورية “صابر وصبرية”.
كما اشتهرت بالتعليقات الإخبارية الصريحة، بأصوات مذيعيها التي تشي بطابع خاص وبالمنهجية والصرامة التي انتهجتها الإذاعة، ومن مذيعيها سامي حداد، ومديحة المدفعي، وهدى الرشيد، وجميل عازر، ومحمود المسلمي، وفؤاد عبد الرازق، وبرز الكاتب السوداني الطيب صالح من بين كوادرها المتميزة، واحتل شهرة واسعة بسبب بدايته من إذاعة “لندن”.
وشقت “هنا لندن” طريقها وسط الاتهامات والتخوين وتلويث السمعة الذي تكيله وسائل الإعلام العربية لها، إذ تتباكى تلك الوسائل على التراث والأصالة ومقاومة الاستعمار وحماية الإسلام، ولكن بوسائل من طين، وتفتقد للصلابة وسط موجات التهليل والتهريج للقائد الخالد أو للملك المفدى ظل الله على الأرض.
قال الكاتب ممدوح عدوان، إن إذاعة “دمشق” تكذب حتى في أخبار النشرة الجوية. وكادت هزيمة حزيران 1967 أن تمر كانتصار أو كانسحاب تكتيكي لولا أخبار إذاعة “لندن” العاجلة، التي أكدت الهزيمة الساحقة للجيوش العربية وخسارة الجولان والضفة الغربية وسيناء، وانهيار ادعاءات المذيع المصري أحمد سعيد بانتصار الجيوش العربية، ولا تزال أجهزة الإعلام العربية ترضخ لتأثيره في التنكر للخبر الحقيقي، وتقديم ما تريده السلطات ولو كان عكس مجريات الواقع، ولعل وزراء الإعلام العرب مجرد تلاميذ عنده، اعتبارًا من السوري أحمد إسكندر أحمد، الذي جلب عبادة القائد من إعلام كوريا الشمالية، وكان العراقي محمد سعيد الصحاف أكثر براعة منهم في تقليد أحمد سعيد إبان سقوط بغداد 2003 والاحتلال الأمريكي لها.
حاولت قناة “الجزيرة” القطرية احتلال مكانة إذاعة وتلفزيون “لندن” (بي بي سي)، واستقطبت الكثير من كوادر المؤسسة البريطانية، لكن أزمة قطر مع جوارها الخليجي بيّنت ضحالة البنية الإعلامية وتهافت مقولات الرصانة والحيادية، وتحولت إلى مجرد منبر قطري يدافع عن الدوحة في خضم حروب داحس والغبراء العربية الممتدة منذ العصور الجاهلية إلى اليوم.
وقبلها استطاعت إذاعة “مونتي كارلو” الفرنسية منافسة إذاعة “لندن”، واستقطبت الجمهور العربي خلال مرحلة السبعينيات، وبرز رئيس تحريرها، أنطوان نوفل، ومن أشهر مذيعيها حكمت وهبي، وأنطوان بارود، وكمال طربيه، وفايز مقدسي، وكابي لطيف. واشتهرت بميولها الخفيفة والفنية في التقاط الجمهور الذي ترمي به الإذاعات العربية في الفراغ، بعد أن فرّ الناس من سماع الأكاذيب والتهويل السياسي والأيديولوجي.
وحاولت قناة “فرانس 24” العربية استعادة تلك المكانة للثقافة والتأثير الفرنسي، ولكنها لا تزال متواضعة الأداء وسط تفاقم كابوس “الإسلاموفوبيا” الذي يحد من المكانة السياسية والثقافية الفرنسية في العالم العربي، بالإضافة إلى الطغيان المتقطع لملف حرب الجزائر على تلك العلاقات، وأداء القناة لا يكاد يقارن بـ”بي بي سي”، ولا حتى بموقع الإذاعة الألمانية باللغة العربية “DW” الذي يتسم بكثير من المهنية والتميّز.
أما وسائل إعلام الثورة السورية فقد بدأت بحس البحث عن الحقيقة وتفنيد أكاذيب وادعاءات وسائل الإعلام السورية، ولكن تشتّت القيادات والجهات المانحة فتّت أول ظهور إعلامي سوري يعبّر عن المواطن وينقل معاناته تحت البراميل المتفجرة وتفاصيل التعذيب التي كانت مغيّبة منذ ثمانينيات القرن الماضي بشكل متقن.
فوسائل إعلام النظام كانت تصور المظاهرات مجرد مشاوير و”سيرانات” في الغوطة، ولا تزال تصور الاحتلال الإيراني والروسي مجرد مساعدة عابرة، وتتجاهل المعاهدات والامتيازات التي تبيع سوريا لعقود مقبلة كثمن لاستمرار عائلة الأسد، وتتجاهل المواقف العلنية التي يتعرض لها مسؤولو النظام وتحولهم إلى خدم مخلصين لهذا الجانب أو ذاك من طرفي الاحتلال.
إذاعة “لندن” رغم نشأتها على يد وزارة المستعمرات البريطانية، تجاوزت تلك النشأة وراهنت على جمهور ما بعد الاستعمار ودرست احتياجات ذلك الجمهور، وحققت له ما يصبو إليه من معرفة الخبر الحقيقي، وأبعدت الأخبار عن التمنيات وعن الأيديولوجيات الجاهزة. وهي ستستمر على شكل موقع رقمي بعد أن يتم إغلاق البث الإذاعي خلال الفترة المقبلة.
ولو كانت ثورة السوريين قد نجحت فربما كان مصير إذاعة “لندن” العربية مختلفًا، وتجنبت الإغلاق بالانتقال إلى دمشق الحرة، أسوة بالخدمة الإذاعية الإفريقية التي انتقلت إلى نيروبي، والخدمات الأخرى التي انتقلت إلى بانكوك وسيول وداكا، وكان من الممكن أن تكون منهجية إذاعة “لندن” نواة في تأسيس إعلام سوري وعربي مختلف، وبعيد عن النفاق الفج والعلني، وعن عبادة الفرد التي أضرت بنا وبمستقل بلادنا التي يفر منها المواطنون ويدفعون كل ما تبقى من مدخراتهم لمن يقوم بتهريبهم إلى الخارج!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :