“ذاكرتنا”.. اللاجئ حين يروي ماضيه

  • 2022/10/23
  • 4:39 م

مشهد من فيلم "ذاكرتنا" (مؤسسة أديان)

نبيل محمد

علّ سرد الذاكرة هو أكثر ما يتقنه اللاجئ، ذلك الذي يمكن له في كل تفصيل مظلم من تفاصيل حياته اليومية في المخيم، أن يقابله بتفصيل مشرق من ذاكرته في مربى طفولته أو المكان الذي عاش فيه السعادة التي يفتقدها اليوم.

جمع هذه الذاكرة في تسجيل فيديو أو فيلم قصير أو طويل ليس مهمة صعبة بالتأكيد. إن تثبيت كاميرا أمام لاجئ وطرح سؤال عليه يحرّضه على التذكّر هو كفيل باكتمال المشهد. إلا أن جمع الذواكر المختلفة في شريط واحد سيحتاج بلا شك إلى أسلوبية سرد وترتيب، يمكنه أن ينقل الذاكرة المحكيّة من شكلها البسيط، إلى صورة متكاملة أبطالها أولئك المتحدثون الذين يتنقلون بشكل روايتهم للماضي واستحضاره وتلمّسه وكأنه ماثل أمامهم في المخيم أو المنزل المؤقت الذي يقيمون فيه بعيدًا عن البلاد.

في فيلم “ذاكرتنا” الذي أنتجته مؤسسة “أديان” مؤخرًا في لبنان، بعد معايشة ذاكرة مجموعة من اللاجئين ينتمون إلى مناطق مختلفة من سوريا، يجمعهم ظرف اللجوء، تختلف الحواس في روايتها للقصص، من الأصابع التي تتلمس الذاكرة بحديثها عن المكان والتفاصيل وشكل الأبنية والشوارع والنوافذ، لتجد أن كل لاجئ يحاول إعادة تشكيل المكان أمامه، إلى ذاكرة الروائح من الكتاب الذي يُخرج منه جدّ ذلك اللاجئ وصفة طبية عربية، إلى رائحة المأكولات في بيت لاجئ آخر، وصولًا إلى ذاكرة الأصوات، أصوات آلات النسيج في حلب تستذكرها لاجئة تطرز لوحة بين يديها، وأصوات دق النحاس في سوق النحّاسين، إلى أصوات مغنين وعازفي بزق في عفرين.

تفصل بين المشاهد التي يرويها المتذكرون لوحات بسيطة مرسومة من وحي تلك الأحاديث تارة، ومقاطع عرض خيال الظل عبر “كراكوز وعيواظ” اللذين يحاولان استثارة الضحكات في وجوه أطفال يبدو أنهم من اللاجئين الذين تروى الذاكرة بالدرجة الأساسية لهم. هم لم يعايشوا ما عايشه أهلهم في سوريا، يستمعون ويتخيّلون فقط ما يبدو جنة بالنسبة لهم. هم كثر حسب الفيلم الذي يذكّرنا منذ بدايته بأن هناك أكثر من مليون طفل ولد لاجئًا منذ 2011 وحتى اليوم.

لا يتحدث اللاجئون عن العزلة التي يعانونها في مواقع وجودهم اليوم، ولعل العزلة ليست واحدة من مشكلات اللاجئين المقيمين في مخيم، لكن أول ما تقودهم ذاكرتهم إليه هو صخب الحياة في مناطقهم. من اجتماع الرجال في المقهى الكبير بحلب، المقهى الذي يسكن ذاكرة طبيب سوري مقيم في لبنان، إلى اجتماع النساء وهن يصنعن “المكدوس” ويرددن معًا أغاني تجمع أسماء الجميع حولهم، إلى موائد رمضان وطاولات الأعياد. الطعام والشراب بأنواعه وارتباطه بالتقاليد الثابتة يتحول بلحظة إلى ذاكرة تدمج الحواس جميعها، رائحة القوة مع صوت المهباج ومشهد الجمع حوله، وكذا ذاكرة حلويات الأعياد والموالد الممتزجة بأغانٍ مكررة ورائحة ما تطهوه النار ليأكل الجميع.

يفرد الفيلم جزءًا مفصليًا من مشاهده للموسيقا، على اعتبارها بلا شك جزءًا أساسيًا من الذاكرة، متنقلًا بذلك بين حكايات لاجئين من مناطق مختلفة، ليروي أحدهم تمازج موسيقا العرب بموسيقا الأرمن، وليختصر الموسيقا السورية بأربعة مقامات. بينما ترى حلبية أن صباح فخري هو تراثها، إلى آخر يستذكر موسيقا الأعراس، وتغني نساء من ذاكرتهن أغاني ممتزجة بضحكات تخفي دمعًا سيسيل وفيرًا بمجرد أن توقف الكاميرا التصوير.

من حلويات “خميس الحلاوة” في حمص، إلى “معمول” عيد الفطر في حلب، إلى “حبوب صيام خضر إلياس” لدى الإيزيديين، تشترك مجمل المناسبات بتجليات متشابهة على وجوه اللاجئين. تتعدد لغات الأغاني، وأشكال الآلات الموسيقية، وبحة الأصوات، وتتشابه طرق السرد والانفعالات، ووجوه الأطفال إذ تعكس تلك القصص أحلامًا في أذهانهم، هم لم يعيشوا ما يقوله الكبار، ولم يبنوا بعد ذاكرة سعيدة إلا تلك الابتسامات المتقطعة التي تصادفهم أحيانًا بين صخور ووحول المخيمات.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي