حنين النقري – عنب بلدي
مشكلات مهمشة ماتزال بعيدة عن أضواء التركيز الإعلامي لما يعانيه السوريون، ومنها “الموت في الغربة”، بكل ما يولّده هذا الاقتران من تعقيدات نفسية وقانونية ومادية، ومضاعفات تعزز شعور الوحدة، وتزيد من ثقل الموت ووحشته، لا سيما مع جنائز بلا مشيعين.
لم يتوقع عمر، طالب في كلية الهندسة، عندما لجأ وعائلته إلى لبنان أن إقامتهم فيها ستطول، فقد غادروا ريف دمشق بعد أن ساءت الأوضاع الأمنية في منطقته على أمل عودة قريبة، رافقهم هذا الإحساس دومًا إلى أن توفي والده فجأة مطلع عام 2013.
بيروت.. حيث يعزّ القبر
يقول عمر إن قرار العائلة الفوريّ كان بنقل جثمان والده إلى سوريا، وبدل أن يلتفت أهل المتوفى إلى حزنهم بفقده والدعاء له، بدأت زوبعة الإجراءات والأوراق المطلوبة، ويضيف “أخبرونا أنه يجب الحصول على ورقة من المشفى واستخراج شهادة وفاة من المختار، ثم الذهاب إلى السفارة السورية لأخذ الموافقة على نقل الجثمان وأن هذه العملية تحتاج إلى ثلاثة أيام”.
ونظرًا لحدوث الوفاة يوم السبت، كان على العائلة انتظار انقضاء يومي العطلة، لتبدأ الإجراءات يوم الاثنين وتستمرّ حتى الأربعاء، الأمر الذي لم تفضله عائلة المتوفى، بحسب عمر “لم نرغب بتأخر نقل الجثمان خمسة أيام فقررنا دفنه في لبنان، وهنا كانت مرحلة البحث الأصعب “.
فوجئت العائلة بأن سعر القبر في بيروت يتجاوز 2500 دولار إن وجد، فمعظم المقابر في المدينة مخصصة للبنانيين فحسب، لتلجأ العائلة بعد الاستفسار من المعارف والمسؤولين لنقل الجثمان إلى البقاع لأن “الإجراءات هناك أسهل وأسعار القبور أرخص”.
بقعة في البقاع
بعد خمس ساعات من التواصل مع الأقارب في البقاع والسعي بحلّ للعائلة، وافقت إحدى المقابر بيعهم قبرًا بمليون ليرة لبنانية (ما يعادل 650 دولارًا)، بالإضافة لمئة دولار أجور النقل. وافقت العائلة لغياب خيار آخر، يتابع عمر “استأجرنا سيارة إسعاف واستخرجنا شهادة وفاة من المشفى والمختار، ودفناه هناك رحمه الله”.
أصبح قبر والد عمر بمثابة رابط لهم في لبنان والبقاء فيها، يقف في وجههم عند كل نقاش للسفر إلى بلد آخر، ويضيف “الوقع النفسي لدفن والدي خارج سوريا كان صعبًا للغاية، كثيرًا ما نتناقش حول إعادة الرفات معنا إلى سوريا عندما نعود، حتى الخروج من لبنان والسفر لبلدان أخرى صار مرتبطًا بإمكانية نقل جثمان أبي معنا”.
توفّيت جدة عمر بعد مدة من وفاة والده، لكنه كان قد اكتسب خبرة بالأوراق المطلوبة، كما يقول “للأسف قمت بكل شيء بشكل روتيني، سعر القبر أقل لأنه كان بالأصل طريقًا بجانب جدار المقبرة، وبسبب الضغط ألغوا الطريق وحفروا فيه قبورًا، كان القبر بـ 350 دولارًا”.
حلول مؤقتة
تشكّل أسعار القبور في لبنان عقبة كبيرة أمام السوريين، فكثيرون لا يملكون ما يدفعونه لقاء غرفة فوق الأرض أو حفرة تحتها، الأمر الذي جعل حلولًا فرديّة بسيطة تظهر لمواجهة هذه المشكلة، يقول عمر “أحيانًا يجمع الناس ثمن القبر لمساعدة أهل المتوفى، منذ فترة اشترى ثريّ قطعة أرض جبلية كمدفن للسوريين لكن الحفر فيها صعب للغاية لذا من النادر أن يدفن أحد فيها”.
تجربة عمر مع صعوبات توفير قبر لوالده ولجدته من بعده، جعلاه يفكّر بطريقة يساعد فيها الناس في لبنان، ويقول إنه ومجموعة من الناشطين يحاولون التواصل مع عدة بلديات لشراء قطعة من الأراضي الحكومية، “لكن إلى الآن لم نلق ردًا من أحد، بالإضافة إلى غلاء سعر الأراضي هنا فالدونم بـ 70 ألف دولار”، وفق قوله.
تركيا “Mezarlık”
في تركيا لم يكن وضع محمد، طالب جامعي من حماة، مختلفًا عن عمر، فقد وجد نفسه في خريف 2015 فجأة أمام وفاة والده “كبير العائلة” كما سمّاه، وهنا كانت الحيرة بين نقل جثمانه إلى سوريا أو دفنه في تركيا حاضرةً أيضًا.
“بعد مشورة رجال العائلة اتفقنا أن يتم الدفن في سوريا”، يقول محمّد “توجهت لشركة الطيران واصطحبت استمارة لنقل الجثمان لبيروت ومنها إلى سوريا، لكن الموظف هناك كان له رأي آخر “.
أخبر موظف شركة الطيران محمد عن الصعوبات الأمنية التي ستواجههم من قبل عناصر حزب الله وعن المشاكل المحتملة في لبنان، الأمر الذي جعله يحجم عن قرار نقل الجثمان إلى سوريا “أخبرت عائلتي أن الدفن سيتم في تركيا، ففي النهاية هي أرض مسلمين والأذان يرفع إلى جانب المقبرة”.
بعد استلامه تقرير الوفاة من المشفى توجّه محمد إلى المقبرة، أو ما يسمى بالتركية Mezarlık، حيث طلب قبرًا بناء على تقرير الوفاة، “أعطوني لوحات للقبر وحددوا موعد الدفن عقب صلاة الظهر”.
يجري تغسيل الميت في المقبرة، ثم ينقل الجثمان إلى مسجد قريب للصلاة عليه، ويضيف محمد “القبر هنا مجاني تمامًا وهو من خدمات البلديات، بإمكان من يريد أن يدفع تكاليف إضافية لبناء قبر رخامي”.
كان العزاء في نفوس عائلة محمد إمكانية زيارة قبر والده بشكل دائم ولو دفن في أرض غير سورية، ويقول “أبي إلى جوارنا نزوره متى شئنا، أما في سوريا فحتى القبر لا يأمن القصف والدمار، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد دفن في المدينة رغم أن مكة المكرمة أحب المدن إلى قلبه”.
“وما تدري نفس بأي أرض تموت”
“خرجت عمّتي من داريا، ونزحت منها إلى العديد من مدن ريف دمشق، ثم إلى الأردن، حاولت السفر إلى مصر، وحين لم تستطع سافرت إلى تركيا، لتتوفى بعد شهر في أضنا بعيدًا عن معظم أولادها المشتتين بين الأردن ولبنان ومصر والبحرين وسوريا”، بهذا بدأت الصحفية خلود وليد حديثها، مصداقًا للآية “وما تدري نفس بأي أرض تموت”، في إشارة إلى تحول حال عائلتها كما حال معظم السوريين اليوم.
تنقل خلود عن مشاهداتها ومشاعرها أثناء دفن الصحفي ناجي الجرف (الذي قتل في 27 كانون الأول الماضي) في مقبرة عربية في غازي عنتاب، وتقول “كتيير صعب يضمك تراب غريب.. كتير كان بشع التخيّل، هل يمكن التصور أن الشيخ طلب مترجمًا عندما أنزلوا ناجي إلى قبره ليلقنه الشهادة؟، كل شيء كان غريبًا”.
في ذات المقبرة وفي الوقت عينه كان هناك سوريّ آخر يوارى الثرى وحيدًا، تضيف خلود “لم يكن برفقته أحد سوى رجلين طلبوا من المشيعين لناجي أن يصلوا معهم عليه، كان وحيدًا.. ولو لم تتزامن جنازته مع جنازة ناجي لما وُجد من يصلي عليه.. رحمه الله”.
هو الموت الغريب إذن، عندما تضاف إليه تعقيدات قوانين جديدة، ومقابر تتحاشى ضمّ جثامين السوريين وتفصلهم عن سواهم، وتصريحات أخرى تطالب باستصدار فتاوى لحرق جثثهم أو رميها في البحر كما صرّح كامل كزبر، مسؤول ملف النازحين السوريين في بلدية صيدا، لضيق مقابر اللبنانيين باللبنانيين أنفسهم. فهل يضيق باطن الأرض بالسوريين، بعد أن ضاق بهم ظاهرها؟خلود وليد حديثها، مصداقًا على آية “ولا تدري نفس بأي أرض تموت”، وبصيرورة حياة تشبه حال معظم السوريين اليوم.
تنقل خلود عن مشاهداتها ومشاعرها أثناء دفن الصحافي ناجي الجرف (الذي قتل في 27 كانون الأول الماضي) في مقبرة عربية في غازي عنتاب، وتقول “كتيير صعب يضمك تراب غريب.. كتير كان بشع التخيّل، هل يمكن التصور أن الشيخ طلب مترجمًا عندما أنزلوا ناجي إلى قبره ليلقنه الشهادة!، كل شيء كان غريبًا”.
في ذات المقبرة وفي الوقت عينه كان هناك سوريّ آخر يوارى الثرى وحيدًا، تضيف خلود “لم يكن برفقته أحد سوى رجلين طلبوا من المشيعين لناجي أن يصلوا معهم عليه، كان وحيدًا.. ولو لم تتزامن جنازته مع جنازة ناجي لما وُجد من يصلي عليه.. رحمه الله”.
هو الموت الغريب إذن؛ عندما تضاف إليه تعقيدات قوانين جديدة، ومقابر تتحاشى ضمّ جثامين السوريين وتفصلهم عن سواهم، وتصريحات أخرى تطالب باستصدار فتاوى لحرق جثثهم أو رميها في البحر كما صرّح، كامل كزبر، مسؤول ملف النازحين السوريين في بلدية صيدا، لضيق مقابر اللبنانيين باللبنانيين أنفسهم. فهل يضيق باطن الأرض بالسوريين، بعد أن ضاق بهم ظاهرها؟